من البداهة وجود جهاز أمن واستخبارات في كل دول العالم لكي يحمي الشعوب داخل وخارج الأوطان، ولكن يتعيّن أن تكون مهامه جمع المعلومات، ويتم ضبطّ عمله بالقوانين بحزم، ولا يتحول إلى قوة تسجّن وتعذّب وتغتصب وتقتل. من المعروف أن الأجهزة الأمنية في السودان كانت تمارس سلطة الدولة في كل شيء أيام حكم المخلوع. وتملّكت المالية والجسور والإعلام والتجارة وطبع العملات وصناعة الأسلحة والسيارات والتصنت على الهواتف النقالة وغيرها... إضافة للمهام القتالية.
و قادت قديما وكالة الاستخبارات الأمريكية عمليات اغتيال لرؤساء بعض البلدان، آخرها محاولة اغتيال معمر القذافي بطائرات تتغذي وقودها في الجو، أيام رئاسة رونالد ريجان، وقد فشلت لأن السوفييت أخطروا القذافي وغيّر مكانه في اللحظة المناسبة، إلا أن قانونا استجّد منع الاستخبارات من تلك الميّزة البشعة، ولكن بقيت أنظمة العالم الثالث التي تلتصق بالدكتاتوريات تُرخي حبل الاستخبارات كما تشاء لمصلحتها حين تشاء. وقد عدّل نظام الإخوان المسلمين في السودان في السنوات الأخيرة قوانينه، وأصبح جهاز الأمن والمخابرات قوة مسلحة في العلن.
*
أذكر في التاريخ أن دكتور عُشاري أحمد محمود، وهو مختص أكاديمي في سلطة الإعلام والإشاعة، رصد ذات يوم من سنوات الديمقراطية الثالثة, ولاحق صحيفة القوات المسلّحة بالدراسة والتحليل خلال فترة الديمقراطية الثالثة(1985- 1989 ). وكتب عن ما يُسمى فبركة ( المؤامرة العنصرية ) في صفحتين من صحيفة يومية كانت تصدر في السودان بالوثائق، فيها رصد لكذب الاستخبارات وتناقضات تصريحاتها. اهتزّت الاستخبارات العسكرية في السودان، وهي مواجهة بعدو أكاديمي شرس، فوق ما ظنّت وتعتقد، إذ أنها كانت تزوّر بيسر مثل مقولة أن الأنصار والجبهة الوطنية التي نفّذت انقلاب عام 1976 هم مرتزقة، مع أنهم سودانيون!.
(2)
وكشف دكتور عشاري عن جرائم الاستخبارات العسكرية، وحكى لنا ما يشيب من أثره رؤوس الولدان، من نقل العسكريين الذين يُتَوجس منهم وإعدامهم في صمت، بعد نقلهم إلى مناطق خلوية في أقصى غرب السودان، وهناك يتم الاعدام بيسر وسرّية، وينسجون قصص مفبرّكة عن نقل الضحايا العسكريين إلى الجنوب واستشهادهم هناك!. وهناك تزوير حول المشتركين في انقلاب الحركة الوطنية عام 1976 ومحاكماتهم، ومعظمهم تمّ اقتيادهم ليلا بالمئات من سجن كوبر إلى دروة الاعدامات بلا محاكمة!. وبعد انقلاب الإنقاذ أشاع النظام أن دكتور عشاري هو سكرتير الحزب الشيوعي البديل بعد اختفاء محمد إبراهيم نُقد أول سنوات الإنقاذ!. وظل الدكتور ملاحقا حتى ترك الوطن. ربما غسلت الاستخبارات العسكرية أدلة إدانتها، فهي محميّة من الدولة التي تحكم إلى الآن. ولم يتجرأ أحد بإعادة هيكلتها حتى اليوم. ونفذت الإنقاذ الاعدام لبعض المعتقلين لم يشتركوا في الانقلاب الذي أعدمت فيه 28 ضابط عام 1990. وذاك عمل أمني بإمتياز.
(3)
ربما كتب كثيرون وحلّلوا سِفر القيادي الحركة الإسلامية " المحبوب عبد السلام " المسمى (الحركة الإسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام - تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ – طبعة 2009 م):
وننقل من ص 96:
{أدى القسم ستة من قادة الصف الأول للحركة الإسلامية أمام الأمين العام بكتمان سر التغيير وأداء أماناتهم ورعاية عهد الحركة الإسلامية مهما اشتد عليهم في الابتلاء، وهم: علي عثمان محمد طه، علي الحاج محمد، ياسين عمر الإمام، عوض أحمد الجاز، عبد الله حسن أحمد، إبراهيم محمد السنوسي.}
*
وننقل من ص 121:
{زاول التعذيب في بيوت الأشباح عناصر من الاستخبارات العسكرية، شاركتهم عناصر من أبناء الحركة الإسلامية وعضويتها، وجرت بعض مشاهده أمام عيون الكبار من العسكريين الملتزمين وقادة أجهزة الحركة الخاصة. واستنكرته كذلك فئة من أبناء الحركة، واعترضت بالصوت العالي عليه داخل أجهزة الحركة، ولكنها لم ترفع صوتها للخارج بالاعتراف أو الاعتذار في تلك الحقبة للذين وقع عليهم الظلم العظيم، من كبار قادة المعارضة وصغارهم.
وإلى تلك العقيدة التي ما لبثت أن استشرت روحاً سائدة في أروقة الأجهزة الأمنية، يمكن أن تُفهم الجرأة البالغة لاتخاذ بعض قراراتها والحماس الشديد لإعدام كبار الأطباء الذين شرعوا في محاولة للإضراب، أو تورطوا فيها ، أو ما وقع بالفعل من إعدام لبعض المتاجرين في النقد الأجنبي بمن فيهم الذي أخطر المحكمة الميدانية الإيجازية المستعجلة أنه يحفظ المال ورثاً لا تصرفاً وبيعاً، وفيهم كذلك أبناء لرموز في الديانة المسيحية كانت الثورة تحتاج أن تحفظ معهم عهداً ووداً ينفعها في عمرها الوليد وفي المستقبل ومما حرصت الحركة الإسلامية في سالف تجربتها أن تحسن رعايته. وإلى تلك الجماعة وتلك الروح تُعزى المجزرة المتعجلة التي ارتكبتها قيادة الثورة وقيادة الحركة ممثلة في نائب الأمين العام في (28) من ضباط القوات المسلحة - رحمهم الله - وأضعاف العدد من ضباط الصف، بعد محاولة انقلابية فاشلة حاول المسؤولون عن تأمين الثورة أن يبرروا استيلاء الانقلابين فيها على مواقع بالغة الخطر، بأنها تركتهم يعملون أمام بصرها حتى يتورطوا بالكامل ويُقبض عليهم مُجرمين. وسوى مجافاة ذلك الزعم للقانون والأخلاق، فإن مجافاته للحقيقة بدت غالبة، إذ أن الأمور قد انفلتت بالفعل من أيديهم فجر التنفيذ، وعوضاً عن إعمال آلية الدقة في المراقبة أعملت آلة العنف في الانتقام، ما زعم أنه رسالة للقوات المسلحة لتكف عن الانقلابات لكنها لم تفعل وبقيت المسؤولية في عُنق الإنقاذ إلى اليوم، أن تُخطر ذوي الشهداء كيف تمت المحاكمة، وبأي قانون، وأين دُفنوا وماذا تركوا من وصايا ومتعلقات شخصية.}
*
وكاتب الكتاب المحبوب عبد السلام كان مكتبه بالقصر حتى أخرجته المفاصلة. وقد أخرج دكتور الترابي من كل التجاوزات العشرية الأول!
(4)
تقول المدرسة الاستخباراتية الأمريكية التي تتيح المعرفة الاستباقية للموقف السياسي والقوة الحريصة على الفوز دائما:
- الصورة الأمثل هي أن المعرفة المسبقة للموقف السياسي يمكن أن تخدم الطرف الحريص على الفوز، بأن تتيح له أن يحول دون حدوث هذا الموقف، إذا كان يتعارض مع مصالحه من الأصل.
- الصورة الثانية تتيح التلاعب بمقومات الموقف السياسي، بحيث يلحق بالطرف الساعي للمعرفة أقل ضرر ممكن.
- استخدام المعرفة المسبقة في إعادة تشكيله، بحيث يحقق مراحل بعيدة المدى وعلى مراحل وعبر عمليات تلاعب متتالية ومركبة، تصيب صاحب هذه المعرفة المسبقة.
- والصورة الأدنى هو امتصاص أو تخفيف أثره عند تحقق الموقف السياسي استباقا.
- أما الصورة الأخيرة هي تفجير الموقف السياسي كلية، بطرح امكانيات ومعطيات ومخاطر جديدة، وقد يكون أيسر للطرف الساعي للمعرفة الاستباقية.
(5)
لم يتم حلّ جهاز الاستخبارات العسكرية بعد انتفاضة 1985 وحتى بعد ثورة 2089، وقد عطّل أحد أعضاء مجلس انقلاب 1989 المعلومات التي كانت ترد مجلس الوزراء عن الانقلاب، يثبت أن تنظيم الانقلاب قد كان دقيقا ومحكما. وعندما تمّ سؤال دكتور الترابي عام 2010 أثناء تسجيل حلقات قناة الجزيرة، عن لماذا لا يحلّون جهاز الأمن الخاص بعد تسلمهم الدولة ؟، قال الدكتور: يجب أن يكون لدينا جهاز أمن خاص بالتنظيم. ومعروف أن دكتور الترابي لم يعف حتى شيوخ الحركة الإسلامية من التدريب الأمني، بل ومنحهم رتبا ورواتب، كما تم ذلك بالنسبة لبعض الغنائيين!.
(6)
ننقل من كتاب ( النقاب) تأليف رجل الاستخبارات الامريكية
بوب وود وارد وترجمة كامل يوسف حسين ص 141- 142:
{في 23 أغسطس 1982، أي بحوالي شهر ونصف الشهر من الغزو الاسرائيلي للبنان، تمّ انتخاب بشير الجميّل رئيسا للبلاد، وكان من المقرر له أن يتولّى مهام منصبه في الشهر التالي، ولم يكن بمقدور القّلة من مسؤولي الوكالة، التي تعلم بأمر العلاقة مع بشير، إلا أننا نستشعر مزيجا من الفرحة والرعب. ذلك أن العناصر التي تجعل بشير قائدا محتملا هي ذاتها التي تكسبه عددا كبيرا من الأعداء.
وفي مواجهة أعدائه الكثيرين على اختلاف اتجّاهاتهم، بعث بشير برسالة إلى الوكالة. شعر كيسي بأن الوكالة يقع على عاتقها التزام بمساعدة بشير، ولكن هذا لم يكن من المّمكن القيام به بصورة علنية.. وكان من الضروري القيام بعملية سريّة على نطاق كبير. ولكي تكون هذه العملية فعّالة فلا بد من الارتباط بشكل وثيق بالمخابرات اللبنانية، وكذلك لا بد من المشاركة في أسلحة متقدمة وأجهزة استطلاع واتصال الكترونية. ووافق الرئيس ريجان على أمر تفويض بالقيام بعملية دعم تقتضي كنفقات أولية 600 ألف دولار، وكان من المتوقّع لهذه العملية أن تنمو بسرعة بحيث تصل تكاليفها إلى مليوني دولار وربما إلى 4 ملايين دولار سنويا.
في 14 سبتمبر 1982 أي قبل 9 أيام من توليه رئاسة لبنان، كان بشير الجميّل يلقي كلمة في مكتب محلي تابع لحزب الكتائب في بيروت الشرقية. وكان من المقرر أن يلتقي في الساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم بمجموعة من ضباط المخابرات الاسرائيلية، في إطار جولة لهم في بيروت، ولكن في الساعة الرابعة انفجرت عبوة ناسفة فدمرت المبنى وأودت بحياته...
كان الاغتيال هو الحادث الأوّل في سلسلة من الكوارث، فخلال يومين سمحت القوات الاسرائيلية لوحدات كتائبية بدخول مخيّمي صبرا وشاتيلا في بيروت، في مهمة انتقامية، وأصبح اسما المخيمين من أسماء المذابح...
بدأ كل من "الموساد" والمخابرات العسكرية الاسرائيلية تحقيقات مكثفة بهدف تحديد هويّة من قتل بشير، وتم اقتفاء أثر العبوة الناسفة وصولا إلى حبيب الشرتوني، وهو لبناني في السادسة والعشرين من عمره، وبتجميع معلوماتهم مع اللبنانيين، توصل رجال المخابرات الإسرائيلية إلى أن الشرتوني هو الذي بث جهاز تفجير عن بعد ليؤثر على العبوة بحيث تتفجر خلال الاجتماع وبحضور بشير.}
عبدالله الشقليني
26 أبريل 2020
alshiglini@gmail.com