خريطة أبيي … ومكاسب الحركة الشعبية بـ”قصر السلام”!! … بقلم: الأستاذ/ يوهانس موسى فوك
6 August, 2009
لعله الصمت هو الشعار الذي اختارته الحركة الشعبية لتحرير السودان في لاهاي ليبعث من خلاله رسالة إلى أنصارها في شتى أنحاء العالم ــ والذين كانوا يتابعون جلسة اصدار القرار النهائي عبر شاشات التلفزة ــ مغزاها في المقولة: "دع القانون يأخذ مجراه"... أو ربما هو إيماناً منها بالمثل الهندي القائل:"من يذهب إلى المحكمة يكسب قطة ويخسر بقرة". ففي اليوم الذي سبق موعد اعلان القرار النهائي لـ(هيئة تحكيم ابيي) عقد وفد الحركة اجتماعاً موسع بـ(فندق بيل اير) بمدينة لاهاي، للتباحث حول تداعيات القرار التي ستتخذها قضاة المحكمة رغم موقفها (الحركة) المعلن مسبقا باحترام وتنفيذ اى قرار حاسم ونهائي، ويعود بي الذاكرة إلى تلك اللحظات التي اصدر فيها سعادة/ الدكتور رياك مشار تينج ـ رئيس وفد الحركة الشعبية إلى لاهاى (ووكيل قضية ابيي) بعض التوجيهات، طلب منا جميعا ان نلتزم الصمت والهدوء غداً ـ قبل وبعد صدور القرارـ مهما كانت النتيجة، وأردف ماذحاً "إياك و ان يحمل أحدكم اى عصا داخل القاعة"... وفى صباح اليوم التالي والذي يوافق الـ22 يوليو بـ"قصر السلام" مقر محكمة العدل الدولية وصلنا مبكراً إلى القاعة مما سنح لنا الوقت ان نتجول ونتأمل البناية التي شيدت على طراز المعابد أو الكنائس الكاثوليكية القديمة، جلسنا في صمت تام والذي عم كل القاعة، ونكاد لا نسمع فيه غير طقطقة الكاميرات و همسات التحايا المتبادلة بين القيادات والوفود الدوليين.
وتجلى هذا الصمت الرهيب أكثر مع وصول قضاة المحكمة إلى القاعة، وبذلك أطلق الأحاديث والخطب المقتضبة والتي لم تتخللها اى بوادر للتصفيق ... أكد فيها وكلاء طرفي القضية التزامهما بالقرار المرتقب أي كان شكله... فالقرار، في شكله الذي صدر به قد تمكن من سد الاحتياجات السياسية لكل الطرفين على حد سوا، ليس ارضاءً لهما وإنما هو محاولة ناجحة من قبل أعضاء المحكمة الأربع المتبقية بعد انسحاب خامسهم وهو تاكيداً لحقائق تاريخية يصعب توضيحها بقرار دولي وحسب.
بعد اعلان القرار أصبح النصر والخسارة قاسماً مشتركاً بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني بحسب تعبير وجوه الطرفين، ولكن في اعتقادي كان المنتصر الأول هو الشعب السوداني بجميع أقطابه، لان شعور أي من الطرفين بالهزيمة دون الاخر، كانت عواقبه ستكون وخيمة، وستدفع ثمنه الشعب المسكين ... ومن الناحية الواقعية ووفقا لما اعتقده فان الحركة الشعبية لتحرير السودان قد كسبت القضية بدون منازع رغم محاولات المؤتمر الوطني اليائسة لإخفاء هزيمته خلف جدار منطقة هجليج، وتشبثه بمنطقة خارج صلاحيات الهيئة، وهذا اخر الخيارات امام شركائنا لحفظ ماء وجههم أمام المسيرية...فى الوقت الذى يجعل هذا التصرف الغير راشد من موقفه (المؤتمر الوطنى) شبيهاً برجل يتسلق شجرتين في آن واحد. ومصير مثل هذا الرجل بالتأكيد هو السقوط دون الوصول لقمة اي من الشجرتين.
ودعماً لرايي الشخصى، فان ثلاث نقاط اساسية فى القرار دفعتنى الى الجزم بان القضية كانت لصالح الحركة الشعبية، وان المؤتمر الوطنى لم يكسب الا (الوقت) الذى سينتظر به نهائيات القرارات الدولية المتوالية والتى ستكون عواقبها وخيمة على قبائل المسيرية الذين هم الخاسرين، ويمكن تعديد تلك فيما يلى:
أولا: بهذا القرار تكون المحكمة قد أسدلت الستار عن المسرحية التي كانت تشبه ابيي بكشمير، وفى اعتقادى موقف ابيي ضمن اتفاقية السلام الشامل أصبح واضحاً ولم تعد الـ"قنبلة الموقوتة" كما كان يتصورها الكثيرين... فان بابها بهذا القرار قد أغلقت أمام دعاء الحرب والفتن . وهذا ما كانت تتمناها الحركة الشعبية.
ثانيا: الحركة الشعبية انتصرت، بعد تحديد المحكمة لحدود نهائي وكامل لمنطقة ابيي، تمثلت في منطقة مشيخات دينكا نقوك التسعة التي احيلت إلى كردفان عام 1905 ، مما يمثل حجة مقنعة للحركة الشعبية، تدعم موقفها بشان حقية التصويت في الاستفتاء حول تبعية ابيي للجنوب أو الشمال... فخروج المناطق التى يكثف فيه اعداد قبائل المسيرية عن خريطة ابيي هو في حد ذاته رحمة ونعمة يصب في مصلحة سكان ابيي، ومن يجد نفسه من اليوم خارج الخريطة فقد اصبح خارج حدود (حق التصويت) .
ثالثا: رغم التعديلات التي أجرتها القضاة لـ"خريطة الخبراء" إلا ان نسبة 75% من الخريطة الجديدة تتطابق لصالح الخريطة السابقة، ولا أذيع سراً ان أكدت تطابق هذه الخريطة التي رسمتها هيئة تحكيم ابيي مع تلك التي ذهبت بها الحركة الشعبية إلى نيفاشا عام 2000 ، وفقا لما أكده سعادة الدكتور رياك مشار تينج ـ نائب رئيس الحركة و احد المفاوضين وقتها. فان خروج هجليج عن خريطة ابيي لا يقلق الحركة الشعبية لأنها تعلم انها (هجليج) جنوبية 100%. وكما وضح القاضي البروفيسور /بيار مارى دوبوى طريقة تكوين هيئة التحكيم واختصاصات المحكمة، فان الحديث عن منطقة الهجليج هو سابق لأوانه، لأنه ليس من اختصاصات المحكمة الحالية ـ عملية البت فى تبعية المنطقة للشمال أو الجنوب ـ بقدر ما هو من صميم عمل لجنة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب والتي لم تقدم تقريرها بعد. وقتها ستكون هجليج موضوع الساعة الساخن.
لا يفوتني ان أشيد بالمساندة والدعم التي تلقتها وفد الحركة الشعبية من الشعبة السياسية للحركة الشعبية بهولندا، فان قياداتها لم تتوقف عن تقديم خدماتها والوقوف إلى جانب الوفد طيلة فترة بقائنا في مدينة لاهاي، ورغم ان ذلك من واجبهم إلا ان المهمة ثقيلة عليهم ولكن، ربما هذا هو أسلوبهم للتعبير عن حبهم العميق لـ(ابيي)، فقد جاءوا من مدن مختلفة، بعضهم جاء من دول جوار مثل فرنسا وبلجيكا. الرفيق على الفريد سكرتير العلاقات الخارجية للشعبة بهولندا قد كان رجل المحكمة بجد... كنت أراه في اى مكان، كما هم رفاقه، لقد التزموا الصمت قبل وبعد القرار، ويطيب ذاكرتي اكبر تصفيق بعد القرار عندما قال احد السلاطين من مشيخات نقوك التسعة لدكتور مشار فى جلسة منفرد: إنهم لم يصدموا بالقرار وان صمتهم لا يعبر عن ذلك ابداً... و"إنما هو احتراماً و التزاماً منا بتوجيهات سعادتكم يوم أمس" ... فصفقت كل الشعبة السياسية وجماهير الحركة الشعبية بهولندا تصفيقاً يعبر عن كامل الشعور بالنصر!.
mr.yohanis pouk [yohanis_sa@yahoo.com]