خطاب مفتوح الى احمد دريج، آدم مادبو، علي الحاج
4 November, 2009
Mohamed Adam [abu_suli@hotmail.com]
إن العلاقة الأصيلة في عمل من الأعمال، هي علاقة الوسيلة بالغاية التي يمكن تصورها في السياسة من وجهات نظر مختلفة، اهمها النظر في هذه العلاقة من ناحية مقولتي الخير والشر الأخلاقيتين، وموقفها هذا يأتي في طليعة المواقف شرفاً وجدارةً، وهو يشرح السبب في كونها اكثر وجهات النظر رواجاً، رغما عن إتسامها بالكسل وإثارتها لكثير من الغموض واللبس. والحقيقة أن لكل من الأخلاق والسياسة هدفا يختلف عن الآخر. إذ يستجيب الأول لتطلب داخلي يتعلق بإستقامة الأعمال والتصرفات الشخصية وفقاً لقواعد الواجب، حيث يتحمل الإنسان تماما مسؤولية سلوكه الخاص. بينما تستجيب السياسة بالعكس، الى ضرورة من ضروريات الحياة الإجتماعية، وكل من ينخرط في سبيلها يضع نصب عينيه الإسهام في تحمل مسؤولية المصير الإجمالي لجماعة ما.
من لا يتصور علاقة الوسيلة بالغاية في السياسة فقط من الزاوية الأخلاقية، يحكم على نفسه بالجمود فالعجز، إذ يحمل في هذا الحال، على الإنزواء والتقوقع في معارضة مستمرة بلا نهاية، وليس له إلا ذاك. ولم يعرف التاريح أُمة نهضت بغير أفكار ناضجة جامعة أيقظتها وحفزت روحها ودفعتها إلى تغير واقعها.
ما جرى سرده، ليس بمقدمة نظرية، بل انه رسالة موجهة الى الثلاثة من ابناء الوطن السوداني، القادمين من إقليم دارفور المنهك الملتهب. نعم المنتظر منهم الخروج بحل يعيد البسمة الغائبة للإقليم المضطرب. لقد تقلدو جميعا مناصباً رفيعةً في الدولة السودانية(الذين تقلدوا مناصب سيادية ذات قرار من أبناء الإقليم، لم يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة منذ إستقلال السودان)، أسسوا أول هيئة نادت بمطالب الإقليم المشروعة المحجوبة(جبهة نهضة دارفور)، كما ساهموا إيجابًا أو سلباً في تبلور الوضع القائم في هذا الجزء من الوطن(كانوا يجلسون على دست الحكم، الأولان ينتميان لحزب الأُمة، الذي بدون أصوات ناخبي دارفور لما حكم السودان، بل أن الدولة المهدية قامت على أكتاف مجاهدي الإقليم. والحال كذلك بالنسبة للحركة الإسلامية التي وصلت للحكم محمولة أيضا علي منتسبي القوات المسلحة من أبناء الإقليم، الذين تحملوا لها أيضا أوزار حرب الجنوب).
الإقتصادي أحمد إبراهيم دريج: تولى زعامة المعارضة في البرلمان(حزب الأمة)، ووزارة العمل، بل أتى به سكان الإقليم حاكما لهم دون رغبة جعفر النميري. حين حلت المجاعة في دارفور عام 1983، وعدم إعتراف المشير أبوعاج بإعلانها وتمسكه بإسطوانة " السودان سلة غذاء العالم العربي"، أدى إلى إختلافهم في الأمر، مما إضطره إلى مغادرة السودان فوراً والعيش في المهجر. المهندس د. آدم مادبو كان وزيراً للدفاع عندما تولى النميري الحكم من حزب الأُمة في إنقلاب أبيض في مايو 1969. و كان أيضاً وزيراً للطاقة، عندما سلم نفس الحزب مع شركائه الحكم للجبهة الإسلامية منتصف عام 1989. يعيش في الداخل، وكاد يفقد حياته بعد تركه منصب نائب رئيس حزب الأمة القومي. أما أخصائي أمرض النساء والولادة د. علي الحاج فهو من قادة الحركة الإسلامية، وكان ينتمي لدائرة القرار الضيقة عندما تولت الحركة حكم السودان. فقد تبوأ مناصباً هامةً متمثلةً في نائب الامين العام للمؤتمر الوطني، وزارة الحكم الإتحادي، بل كان مسؤول ملف السلام وتفاوض مع الراحل د. قرنق، د. مشار، د.لام كول وغيرهم من قيادات الحركة الشعبية وقيادات الإقليم الجنوبي. عند الإنشقاق المشهور لقيادة الحركة الإسلامية الحاكمة، وقف الى جانب د. حسن الترابي، خرجوا من السلطة، وكونوا حزب المؤتمر الشعبي، الذي يتبوأُ مركز الأمين العام المساعد فيه. غادر البلاد للخارج ليقيم في منفاه الإختياري- الإجباري.الإخوة الثلاثة، يحوزون على علاقات مميزة في داخل السودان ودارفور، كما لهم السطوة في العلاقات الدولية ودول الجوار، القارة الإفريقية، والعالم الإسلامي، بل أيضاً وبشكل مميز مع حاملي السلاح.
الوقت يحتم على الحادبين على وحدة السودان، بناء قوة سياسية، حقيقية فاعلة، تساعد بأسرع ما يمكن في حل الآزمة الراهنة في دارفور. هؤلاء الثلاثة يشكلون المحور المطلوب مخاطبته. عليهم العمل لوضع حد لمعانات الأمهات الحوامل والرضع، والأطفال الذين يفارقون الحياة في مهد أيامهم الأُولى، مع ما ينجم عن هذا الوضع من يؤدي تقهقر سكاني للإقليم مستقبلاً. ناهيك عن سيطرة الأُمية على جيل شباب الحرب، ولا مستقبل لهم سوى التسول والإتجاه نحو الجريمة المبرمجة(يجب المقارنة مع أقرانهم في أقاليم السودان الأُخرى- جيل العلم، الحاسوب، والرفاهية الإجتماعية ) .
نعم يجب عليهم النظر في مآساة الأُمهات والزوجات، اللاتي فقدن فلذات أكبادهن، أزواجهن وأقربائهن، دماءاً طاهرة سالت هدرا، نتيجة لسياسة هوجاءة، إنطلقت من مسلمة: أن دارفور ستعاد إلى سنوات كثيرة إلى الوراء، إذا حذا المتمردون حذو الجيش الشعبي لتحرير السودان، وسينتج عن ذلك دمار شامل. يضاف إليها مقولة أُخرى: ان الخرطوم لن تتفاوض مع أولئك الذين حملوا السلاح في دارفور ورفضوا سلطة الدولة والقانون، وسيتم إطلاق عنان الجيش " لسحق " التمرد. ان التمرد المسلح لم يسحق، بل تحاول الدولة اليوم، وبشتى الوسائل التفاوض مع حاملي السلاح. وتم سحق المواطنيين الأبرياء العزل بغير ذنب في الإقليم، وتشريدهم من أراضيهم، وعاد الإقليم فعلاً للوراء.
اصبح العالم يعاني من أزمات كبرى أُخرى، وهي قضايا مستعصية غطت بدورها تدريجيا على أزمة دارفور. والإدارة الامريكية تضع حل مشكلة الإقايم الجنوبي في مقدمة ألوياتها، ثم التفرغ بعدها لدارفور، وخاصة سياسة أوباما الجديدة تجاه السودان، القائمة على ربط الأمرين بالتسلسل المبرمج . ودعا اليوم(31.إكتوبر 2009) النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب، علناً، مواطني الإقليم الجنوبي، التصويت لصالح الإنفصال، والإستعداد لبناء دولتهم المستقلة.
مولانا دفع الله الحاج يوسف يتحسر ويتألم كثيرا، لعدم اخذ الدولة المركزية بالتوصيات التي إقترحتها لجنته لحل المشكلة عام 2003. منذ ذلك الوقت هدرت الأموال في إقامة المهرجانات الخطابية، المؤتمرات والورش الداخلية والخارجية، الهبات، وقدمت مهات السفر السخية للزيارات والهرولة تجاه المجتمع الدولي والإقليمي.
هذه الاموال التي صرفت تكفي إلى لإعادة إعمار دارفور، ودفع تعويضات المشردين العائدين الى حواكيرهم المسلوبة. كما ان عامل الوقت الذي يرزح تحت وطأته القاطنون في العراء المفتوح، في مخيمات النازحين، معسكرات اللاجئيين في دول الجوار، حيث يفتقدون إبسط ما يتطلبه الحياة الإنسانية : عدم توفر حد الكفاف الأدنى من الغذاء ومياه الشرب،إنعدام الوقاية الصحية والتعليمية، مع توفر الإنفلات الأمني المصحوب بالخوف والرعب. يضاف الى هذا الوضع القاتم، بدق ناقوس خطر جديد يهدد ما تبقى من سلامة الإقليم الممزق، بظهور جوزيف كوني وجيشه- الرب-( المرعب، المشهور بالقتل ،النهب ،الإغتصاب،وسرقة الأطفال والنساء) على مشارف دارفور.
خرج دريج قبل ربع قرن من الزمان، تاركا وراءه المجاعة وما خلفتها من آثار، لكن الوقع الراهن الفعلي للإقليم وما لحق به من دمار مروع جراء الحرب القائمة، أسوأُ بمراحل كثيرة مما كان عليه في عام 1984. هي ليست بالإقليم الذي ولد فيه دريج. أيضا ينطبق التغير على د. علي من تطورالإقليم بإستمرار نحو الأسواء في خلال الأعوام التي قضاها في الشتات. د. مادبو هو الوحيد الذي يكتوي بنار الداخل ويعيش آلامه.
أطلت اليوم فرصة نادرة ليلتقي المذكورون الثلاثة بعد فراق طويل، وعليهم إغتنامها، من اجل التفكير للوصول الى مخرج يعيد الإقليم الغربي الى وضعه المسالم المنتج، وفي إعادة رتق نسيجه الإجتماعي المألوف، والإستقرار المصحوب بالفرح والبسمة للسكان. يجب عدم ضياع هذه الفرصة النادرة، فالعمل على إنزالها أرض التنفيذ الحقيقي، يجنب السودان ودول الجوار عواقب خطيرة، تنصب في قاموس التمزق القومي.
إن حل مشكلة دارفور يعود بالدرجة الاولى لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، لانه المركز ويقع على عاتقه إصدارالقرارات لحل جميع أزمات البلاد. بلى إنه يملك بحر من أُطروحات الحلول لطي أزمة الإقليم وبدائلها القابعة في طاولة الإنتظار والفرج. كان بإمكانهم إطفاء نار الحريق في مهد إشتعاله عام 2003. ينبغي على أصحاب القرار في الخرطوم عقد السلم، والسلم السياسي لايقصد العدو بل يحتويه، وعليهم بالرغبة الجادة لإحتواء المشكلة، والإلتزام بتنفيذ إتفاقيات الوفاق التوافقي، ودرء السودان خطر التمزق، وإدخال مثلث عبدالرحيم حمدي مزبلة التاريخ.
إن السلم السياسي يحتوي على حرية الرأي والتعبير، والحرية حق مكتسب وليست هبة. بل ان الحرية السياسية تعني عدم التعالي والقضاء على المعارضين، إذ يتنافى ذلك مع ماهية الحرية التي تعيش على الصراع بين الأحزاب والأيديولوجيات، وعلى تضارب الأراء والقيم والغايات المتنوعة، فضلاً عن التنافس بين مختلف الحلول الممكنة لحل مشكلة المصلحة المشتركة.
نقلا عن الصحافة