خطورة أجهزة الإعلام والإعلاميين …. بقلم: بقلم أحمد جبريل علي مرعي
26 June, 2010
خواطر سودانية (13)
gibriel47@hotmail.com
بعد 54 عاما من الاستقلال وبعد حروب داخلية لم تبق على أخضر و لا يابس – في جهات السودان الثلاث: الجنوب والشرق والغرب - ارتخت قليلا قبضة واحتكارية مجموعات معينة لأجهزة الإعلام الرسمية.
فبعد أن كنا لا نسمع ولا نرى إلا ثقافاتهم وقضاياهم وأحداثهم ومناسباتهم وأغانيهم ورقصاتهم التي تذاع مرات عديدة في اليوم الواحد، لم تعد هذه المجموعات هي الوحيدة التي تعرض في الأجهزة الرسمية. وبدأنا مشاهدة عروض ثقافات مجموعات أخرى من مختلف جهات السودان على أجهزة الإعلام الرسمية.
فسعدنا بمشاهدة رقصات (الدناقلة) الرائعة، ونقارة المسيرية القوية الخلابة، وإيقاع المردوم المدهش، وعرضات الرشايدة من شرقنا الحبيب، والمابان والأنقسنا والفونج في الوازا و ورقصات المعاليا والتويا من شمال كردفان وغيرها من الرقصات، وشهدنا أيضا رقصات لأول مرة من قلب جبال النوبة، ورقصات (الفرنقبية) من دارفور الخ.
فهذه ظاهرة صحية وحضارية ستقود بلا شك إلى بلورة الشخصية السودانية التي نطمح إليها كشعب متحضر كما ظهر ذلك جليا في الممارسة الانتخابية الأخيرة للشعب السوداني التي شرفتنا أمام كل العالم. ولم يتناطح الشعب السوداني – برغم اتهامات تزوير الانتخابات - كما تفعل الشعوب الأخرى في مواسم الانتخابات من مصر شمالا إلى جنوب أفريقيا.
وعندما شعرت المجموعات المحتكرة لأجهزة الإعلام الرسمية بمزاحمة المجموعات الجديدة، تخطت هذه المجموعات المحتكرة جهاز التلفاز الرسمي للدولة السودانية إلى الفضائيات الأخرى وحاولت احتكارها، ولكن لم تفلح كما أفلحت في جهاز الدولة الرسمي. وبرغم ذلك احتلت هذه المجموعات مساحات مقدرة من تلك الفضائيات.
فأجهزة الإعلام أجهزة حساسة للغاية وما حل بالسودان و أضطر الناس لحمل للسلاح في جهاته الثلاثة إلا انعكاس طبيعي للشعور بالظلم والغبن والتهميش والغياب الكامل المتعمد عن أجهزة الإعلام المختلفة (الإذاعة والتلفزيون والمسرح والصحافة) والإحساس المتنامي لدي الفرد المهمش أنه وقضاياه ليس من ضمن (التوليفة) الوطنية مما أدى إلى تناقص الوطنية لديه وعدم الانتماء إلى الوطن.
كما فشلت أجهزة الإعلام في النقل الصادق للأحداث وعدم وجود رسائل إعلامية تقوى الحس الوطني عند بقية السودانيين. وهذا ما انتبهت له حكومة الإنقاذ فوظفت أجهزة الإعلام لقضاياها وترويج مشاريعها.
فأجهزة الإعلام سلاح ذو حدين. فمثلا عندما تنقل صورة من (المديرية) الشمالية لا تركز فقط على البساتين ونهر النيل. بل يجب أن يتعدى ذلك إلى معاناة مواطن الشمالية اليومية حتى يعلم من تنقل إليه الصورة سواء كان في الغرب أو الشرق أو الجنوب أو حتى الوسط بأن إنسان المديرية الشمالية يعاني مثلهم.
وإلا فما معنى أن تنقل تلك الصورة الزاهية لبساتين النخيل ونهر النيل لفرد في مديرية دارفور أو كردفان أو في شرقنا الحبيب يعاني جل يومه في الحصول على الماء؟!!! بلا شك ستتكون لديه فكرة أن إنسان الشمال يعيش في رغد من العيش وتزداد الصورة قتامة عنده عندما يجد أن الحكام جميعهم- وهم الذين عقوا الشمال كأسوأ ما يكون العقوق - ومعظم (الجلابة) من الشمال.
وفي النهاية تتبلور لمن لم ير الشمال فكرة أن ذلك الجزء من الوطن الحبيب ينعم بالخيرات وحدة. وهي صورة مزيفة بلا شك .
وبسبب تلك الصورة الإعلامية المغلوطة دفع أهل المديرية الشمالية الثمن غاليا. وأصبح ابن الشمال مغبون عليه – وهو مهمش كأسوأ ما يكون التهميش - وغير مرحب به في جهات السودان الثلاثة. و(جرم جره سفهاء قوم ......... وحل بغير جارمه العذاب). وكانت شعارات معظم المتمردين الحرب على الجلابة (ويقصد بها تحديدا أبناء الشمال).
ولأول مرة وفي عهد حكومة الإنقاذ تشهد المديرية الشمالية تنمية حقيقية. وهذا ليس لإحساس الحكام – الذين معظمهم من الشمال-بالمسئولية، ولكن مرده جشعهم لقطف ثمار الاستثمارات التي توافدت إلى السودان فجأة وكأن هذا السودان لم يكن موجودا من قبل في خارطة الوطن العربي مما أثار شكوكنا بأن هذه الهجمة الاستثمارية ليست عشان سواد عيوننا فقط!!!
وفي سبيل تمهيد الطريق لهذه الاستثمارات قاتل رموز الإنقاذ أهلهم في الشمال كأشد من يكون القتال فنقلوا المناصير من ديارهم بعيدا عن النيل وتصدوا بالرصاص الحي للدناقلة في خزان كجبار!!!!
فقد أزاحت الهجمة الاستثمارية الغشاوة التي كانت على أعين الحكام من أبناء الشمال وبينت لهم – ولأول مرة - أن النيل وحدة ثروة ما بعدها ثروة. وأن طريق شريان الشمال طريق حيوي للغاية.
هذا الطريق – طريق شريان الشمال - لو شيدته أي حكومة منذ الأيام الأولى للاستقلال ما كان سيعترض عليه أي سوداني عاقل. أولا، لأنه يربطنا بالجارة مصر التي تعلم رعيلنا الأول منها ولا زال طلابنا في جامعاتها رغم الثورة التعليمية الإنقاذية السيئة، ولوجود ميزان تجاري مقدر معها، ولاستشفائنا حتى الآن فيها، وذهابنا سياحة إليها، ولوجود أواصر قربى معها.
وثانيا، لأوقف هذا الطريق نزيف الهجرات المتوالية من الشمال إلى مناطق السودان العديدة، وأفقر الشمالية حتى من أهلها. فظلت المديرية الشمالية وإلى الآن أقل المديريات تعدادا من حيث السكان.
وثالثا، لاستطاع المزارع البسيط في الشمال أن يسوق منتجاته الزراعية في العاصمة ولأزهرت الزراعة على ضفتي النيل مما سيؤثر على الميزان التجاري للدولة السودانية ويساعد على تنمية الشمال المهجور. ولاختلف حتى نسق الأغنيات من الحزن الدفين على الفراق و (لن يرحل حتى الطيف) ولن (يطير جنا الوزين ولن يقل نوم العين) ولن (يتكمبل عيال الجويلي ويعرضوا ولن يتغربوا في دار كردفان). و(لن يرقد ناعم التراب على الهديمات). ولربما أصبحت الهجرة عكسية من أبناء الشمال وغيرهم!!!
ورابعا، لاستطاع الموظفون من أبناء الشمال الموجودون في الخرطوم زيارة أهلهم في الإجازات القصيرة أيام الأعياد والمناسبات الأخرى. ولم يضل الطريق أحد إلى الشمال ويموت وسط صحراء العتمور. ولظل الترابط مستمرا ولم ينقطع أبدا، ولم ييئس إنسان الشمال من أقاربه الذين ضربوا (الصعيد).
والسبب الآخر لاتجاه حكام الإنقاذ للتنمية في شمال السودان هو الخوف الذي اكتنفهم بعدم ترحيب (المديريات) الأخرى بهم وبكل وافد من الشمال بعدما حملت السلاح في وجه الحكومة وأصبحت كلمة (جلابي) تعني أشياء عديدة سيئة. ومعذرة لأهلنا الجلابة الشرفاء في كل بقاع السودان الذين نحتوا الصخر ليحصلوا على الحياة الكريمة.
فقد كان المواطن السوداني في جهات السودان الثلاث يشهد معظم محافظي المديريات وضابط المجالس وأطباء المستشفيات وكمندانات الشرطة ومفتشي القطار ونظار المدارس وكل المسئولين من أبناء الشمال وهم الذين يتحكمون في مفاصل حياته اليومية. وعندما يذهب إلى السوق ليشترى مقاضيه اليومية يجد (الجلابة) من نفس قبائل الشمال. فتبلورت في ذهنه نظرية المؤامرة.
حتى قرنق عندما كان يقاتل الجيش السوداني كان كثيرا ما يردد كلمة (الجلابة). وذهب أكثر من ذلك في الأسرى. فكان لا يعدم الأسرى من المناطق الأخرى ويعتبرهم من المغفلين النافعين الذين غرر بهم (الجلابة) لحربه. فهم مهمشون مثله.
السبب في كل هذا نزوح مجموعات من الشمال مع مجموعات أخرى من أطراف السودان إلى الخرطوم أيام دولة المهدية، وتراكم سوء التخطيط على مختلف عهود الحكم الوطني، ولأسباب معيشية أخرى استقطبت السودانيين إلى الوسط، كما نراه الآن ظاهرا في الحزام الذي شد الخرطوم نتيجة إشعال حروب لا مبرر لها في جهات السودان الثلاث.
هذه المجموعات التي نزحت مبكرا إلى الخرطوم أوجدت لها ثقافة خاصة بها هي ثقافة الوسط. ولقربها من أجهزة الإعلام الرسمية وغيرها نشرت ثقافتها في كل السودان ومع مرور الأيام اعتبرت نفسها هي المثال للشخصية السودانية.
وأصبحت مجموعات الوسط تطلق على القادم من الغرب البعيد (غرباوي) ومن الشرق الحبيب (أدروب) ومن جبال النوبة (نوباوي) ومن الجنوب (دينكاوي) الخ. ونظرت بدونية للمجموعات الجديدة الوافدة – كما فعلت هي نفسها في سابق الأيام وشدت الرحال إلى الخرطوم. وتهكمت عليها مما عمق الشعور بالظلم والعدائية وعدم المساواة.
استأثرت مجموعات الوسط بالتعليم والحكم ولم تحسن التخطيط خلال 54 عاما من رحيل المستعمر، فكانت الطامة الكبرى عندما تنامى الشعور بالظلم والحكام لا يدرون بما يدور في المديريات الأخرى، أو يدرون ولا يكترثون، أو ربما أخذتهم العزة بالإثم التي لم يفيقوا منها إلا على دوي مدافع وبنادق المهمشين.
استقبل اقتصاديو حكومة الإنقاذ الهجمة الاستثمارية كأحسن ما يكون الاستقبال المخطط له وقد يكونون هم السبب من ورائها فقد عودونا الشك في كل نواياهم و(أنهم يقولون ما لا يفعلون). فتفتقت عقول اقتصاديي الإنقاذ – ممن كانت لديهم إقامات وكفلاء في دول الخليج - لخصخصة كل شيء ، حتى المشاريع الحكومية الناجحة، لصالح الإنقاذيين. وجردت الدولة السودانية من مقوماتها الاقتصادية الرئيسية.
وأخشى ما أخشى أن تكون هذه الهجمة الاستثمارية بأمر من دول الاستكبار لصنائعها من الدول العربية بعدما شهد السودان تنمية واستثمارات من الصين ودول جنوب شرق آسيا وبعدما فشلت تلك الدول في مزاحمة الصين في ثروات السودان وخشيت أن تأتي الصين وحدها على (الكيكة) كلها.
بعد كل هذه التكلفة الباهظة من حروب وتدمير وتخلف عن ركب الحضارة أرجو أن نكون قد انتبهنا لحساسية أجهزة الإعلام وخطورتها بعد ما رأينا (البيان بالعمل) كما يقول العسكر. وأرجو ألا يكون قد فات الأوان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه !!!
ونصيحة أسديها للمسئولين عن الإعلام في بلادنا العزيزة: يجب ألا تولوا على هذه الأجهزة إلا من يقدر المسئولية الوطنية الملقاة على عاتقة، ويعلم المهمة المطلوبة منه، ويكون إضافة لا سلبا على المسيرة السودانية. وأن تتم مراجعة أداء أجهزة الإعلام والبرامج والإعلاميين من وقت لآخر.
فقد قصرت حكومات الوسط الجغرافي الظالم طوال عقود زمنية فساهمت مساهمة مباشرة في تعميق الظلم وإشعال نيران الحروب في السودان كنتيجة طبيعية لقصر نظرها.
فعندما تطالع التلفاز السوداني الرسمي تحتار كثيرا. أليس بهذا الجهاز الحساس مشرفين على الصوت. ففي معظم الأوقات تجد أن الصوت عاليا للغاية لدرجة الإزعاج. وتطالعك مذيعات (نباحات) ومعذرة على هذا التشبيه ولكنها الحقيقة. فتضطر إلى تغيير القناة أو اللجوء لخفض الصوت.
وتسمع أحيان أصواتا مألوفة من مذيعات مألوفات ولكن تطالعك وجوه غريبة حتى تتبين أخيرا أنها هي الشخصيات ذاتها ولكنها (انبرطت) بفعل المساحيق والكريمات الخ. ويبدو أنها أصبحت من رعايا إبليس بتغيير خلق الله!!! العجيب في الأمر حتى الداعيات الإسلاميات أصبحن بوجوه وبشرات جديدة!!!!
وصرنا نرى الفنانات الجديدات يأتين بشكل وبعد مدة وجيزة يطالعننا بوجوه غير التي أتين بها. و(انهبلت) بعض الفنانات الكبيرات في السن وتغيرت ملامحهن بفعل المساحيق المستوردة.
وأحيانا أخرى تسمع مذيعات يقرأن نشرات الأخبار وغيرها بصوت له لحن لا تدري من أين جئن بهذا اللحن. لحن قد يحير حتى دارسي الموسيقى في بلادنا الكريمة. فتحتار أهي لغة الضاد المعروفة بجرسها المعهود أم شيئا مشابها لها؟!!!
ويفاجئك المذيعون (المتحنفشون) في قراءة نشرة الأخبار وهم (يجاهدون) النشرة. ويأتون بحركات وجلسات وإيماءات تشغلك عن النشرة الرئيسية وتتعجب ولا تدري السبب في كل ذلك!!! ألا رحم الله مذيعي الإذاعة البريطانية – مديحة المدفعي وأكرم صالح وغيرهم.
وأحيانا أخرى لا تجد فارقا في نطق المذيعين والمذيعات للزاي والذال ولا الغين والقاف حتى أصبحت سمة لكل من يتهكم علينا ويصمنا بالكسل وغيره من الصفات الذميمة. وعلى سبيل المثال إليك بعض التهكمات في منطقة الخليج:
- بيان من الديوان السوداني: لغد (لقد) تم تغيير الإجازة في السودان على النحو التالي: الخميس والجمعة........تغليدن (تقليدا) للسعودية، السبت والأحد..... تغليدن (تقليدا) للدول المتغدمة (المتقدمة) ........وكمان الاثنين والثلاثاء عشان دايرين نتميز عن باغي (باقي) الأمم. والأربعاء بإذن الله الريس داير يدينا هو مكرمة.
- طريقة عمل كعك سوداني: المغادير (المقادير): كعك جاهز وسكين حادة. تغوم (تقوم) بالتغطيع (بالتقطيع) وبالهنا والشفا. ملحوظة: أن تغوم (تقوم) بشرائها مغطعة (مقطعة) أفضل.
- سوداني يصبغ بويه على جدران غرفة خلص جدار واحد وباقي الجدران كتب عليها: اللون زاأأأتوه.
- سوداني سوا حادث وانشل. زاروه جماعته يباركون له بالشلل قالوا له: حظك يازول الحين طول الوقت طايح ومرتاح. قال لهم: والله أنا زاتي ما مصدق أخاف من الفرحة أقيف.
فإذا أردنا أن نكسب احترام الآخرين علينا أن نجود بضاعتنا ونتفوق على الآخرين حتى نسكتهم. فقد كان إلى عهد قريب يشار إلينا بالبنان، فما الذي حدث؟!!!
ما حدث هو تدهور التعليم ابتداء مع حكومة مايو الفاسدة (سبة الدهر) وسلمها التعليمي الذي يؤدى إلى تحت إلى سابع أرض، وثورة التعليم التي دشنتها حكومة الإنقاذ والتي انحدرت بالتعليم إلى درجات متدنية للغاية. فأصبحت المدارس بلا تربية وبلا تعليم. وكثر الدكاترة الأميين الذين يقرأون خطأ ويكتبون خطأ ولا يستحون. وكثرت .الشهادات المزورة. وأصبح خريج الثورة التعليمية مهزوزا وغير واثق من نفسه. وكثر الفاقد التعليمي نتيجة جبايات الإنقاذ التي لا حصر لها.
ونحمد لرئيس الجمهورية قراره الأخير بإلغاء كل الرسوم المدرسية. ونأمل أن يلجم قراره المدرسين ورجال (التأليم) - وليس التعليم - الذين أرهقوا ظهور العائلات بطلباتهم التي لا تنتهي. وليت قراره يسرى هذه المرة فقد سبق أن رأينا العديد من قرارات الرئيس تذهب مع الريح ولا ندرى السبب!!!
فإذا أردنا أن نعيش في وطن يسع الجميع، علينا أولا أن ندرك أننا نعيش مع آخرين في هذا الوطن المترامي الأطراف. ونترك الممارسات العنصرية والاستعلائية القبيحة وقبول الآخر واحتماله، فهو شريك لابد منه.
واعتقد بأننا قد قطعنا شوطا بعيدا في بلورة الشخصية السودانية بعدما انداحت دائرة الوسط الجغرافي المحتكر لكل شيء إلى خارج نطاقه، بوفود مجموعات من شتى أنحاء السودان وبالزيجات والتصاهرات، إلى مساحات مقدرة من السودان الحبيب.
ولنقد الذات بقية إن شاء الله.....