خليل فرح .. لَمْحَةُ جَانِبِيَّة

 


 

عثمان عامر
1 October, 2023

 

أَطَلَّ خليل فرح، على المَشْهَدِ الشِّعرَّيِ والغِنائِّي في أم درمان منذُ مَطَالعَِ القَرْنِ الْمَاضِي. يَسْتَشِفَّ ويَتَحَسَّس ويُجَرِّب. لَم يَمضِ وقتٌ طويلٌ، حتى تَحَمَّلَ عِبْءَ الرِّيَادَة الجُسُورَة، في اِرْتِيَادِ مَسَالِكٍ جديدة، تبدأ من الذَّاتِ، وتَمُرُّ بالوَطَنِ، لتُؤَدِّي إلى الإنسانِيَّةِ الرَّحَبَةِ.

بِذَكَاءٍ واِقْتِدَارٍ، مَزَجَ الوَعْيَ بالجَمالِ، وَعْيٌ يَقِظٌ بمَهَامِّ الضَّرُورَاتِ المُلِحَّةِ للمُوَاطَنَةِ الحُرَّةِ، وجَمَالُ الذَّاتُ عِندَما تَتَوحَّد بِالذَّاتِ، في جَدَلِ التَوَاصُلِ بالحَيَاةِ، فتَلْتَذّ بِلذَّاتِها وتَحترِق بآلَاَمِها.

حِسُّه الوَطَنِيّ زَادَ تَوَهُّجه بَريقاً، بَريِقٌ لم يُضِئ لنا رُؤَيتِه، بِقَدَرِ ما أوْقَعَنا في مَزَالِقِ التَأوِيلِ والرَّمْزِيَّةِ التي لَمْ تُرَاجِعْ تَجرِبَته الشِّعرِية والغِنَائِيَّة، بكُلِّ مُكوِّناتِ وعَنَاصِرِ بِنَاءِهَا الفَنِّيَّ في حَيِّزٍ وَاقِعِيِّ وعَادِيِّ بَسيط. بَريِقُ لم يُضِئ لنا رُؤَية الخليل خارج الإطار المَعدنِيّ للوَطَنِ، بِتَلازُمٍ حَدِيدِيِّ معه وإِحَالَة دائمة إليه.

وُضِعَ مَشْهَدُ الخليل الفَنِّي الجَاذِب خارج مَسْرَحِه، وعُزِل عن مُعَاصِريه من الشُّعَرَاءِ وأَهْلِ الغِنَاءِ، وكَأَنَّ تِلكَ سُّبَّة، و زُجَّ بِهِ مَعَ السَّاسَةِ والثُّوَّارِ وكَأَنَّ ذَلِكَ مَدَحُ. فضُيِّقتَ بَرَاحات التَّمتُّع بِشِّعريتَهِ، وأُهْدِرَت فُرَصٌ لا تَتَكَرَّر لِلتَّوثِيقِ والدَّرْسِ، بِسَبَبِ تِلكَ الحُجُبِ المُقَدَّسَة التي أَسدَلَها الدَّارِسُون على مُعاصِريه من أَهْلِهِ وخُلاَّنهِ، فمَضَى كَثِيرٌ من الحَفَظَة بِما في صُدُورِهم من وَقَائِعِ أيَّامِ الخليل، وبِأشْعارِه في الخَمْرِيَّاتِ والإخوانيَّات والحِسِّيَّة الشَّفِيفَة.

الاِتِّفَاق الجَمَعيِّ الذي ضُرِبَ حَولَ الخليل، تَمَّ بمَعَايِيرِ من الْقِيَمِ الَّتيِ تَضَعَ الحِسّ الوَطَنيِّ، بِأفكارهِ السِّيَاسِيةِ المُجَرَّدةِ، في عُزْلَةٍ وقَطِيعَةٍ عن التَّجْرِبَةِ الذَّاتَّيِة العَيْنِيّة المْحسُوسة، التَّجْرِبَةُ الْغَارِقةِ في لُجَجِ الوَقَائِعِ اليَومِيِّةِ التي تَمُور بين رَتَابَةِ العَادِيّ ونَشْوَة المُغَايِرَ. هذا الغِشاءُ غَيَّبَ الكَثِير من الشَوَاهِدِ الدَّالة على تَكامُلِ تَجرِبتَه الشِّعرِية والإِنسَانِيَّة، وحَالَ دُونَ التَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ الصٌّورِ الشِّعرِيةِ العَالِيَةِ الإِتْقَانِ بِقُوَّةِ تَّعْبِيرِها بِاللُّغَةِ والمُوسِيقَى.

(ما هو عارف) قَصِيدَةُ شَجَى وأُغْنِيَةُ في الحَنِينِ لِلأَوْطَانِ . خليل فرح دُونَ مُعَاصِرِيهِ الشُّعرَاءِ، أُتِيحَت له فُرْصَة السَّفَر خَارِج السودان، في ظَرْفٍ صِحِّي ونَفْسِيِّ قَاسِي، كانت القَصِيدةُ نِتاجَاً عَفَوِيَّاً لِشَاعِرٍ مُكتَمِلِ الأَدَوَاتِ الْفَنِّية، إِلاَّ إِنَّهَا حُمِّلْت بِما لا تَحْتَمِل، وسُكِتَ عن حِسِّيَّةِ جَلِيَّة لا تُنِقَّص مِن قِيَمَتِها الوَطَنِيَّةِ، بِقْدَرِ مَا تَزِيد من صِدْقِها الفَنِّي.

أين منى الودعتو شاهق
باكي ناهد لسع مراهق
عيني ما بتشوف إلا شاهق
اين وجه البدر التمام
أين مني الفى زهوه باسق
في شبابه نقى من مفاسق

وكذلك تَمَّ القَفْزُ عَمْداً فَوْقَ الخَمرِياتِ والأخوانياتِ.

مجلس اللذات في النمارق
والترف لا زال وصفه خارق
يا جميل يا نور الشقايق
أملا كاسك واصبر دقايق
مجلسك مفهوم شوفه رايق
عقده ناقص زول ولاتام

خليل فرح المُدَوَّن يَسْتَحِقّ إِعادَة قِرَاءة مَفْتُوحَة، والخليل الذي لم يُدَوَّنْ، جَدِيرٌ بِالخُرُوجِ مِن الصُّدُورِ والأَوْرَاقِ المُصْفَرَّةِ المُتَرَّبة التي آلَت لِلوُرَّاثِ، إِنَّهُ أَمَرٌّ يَسْتَحِقَّ بَذْلُ الجُهْدِ.

صحيفة الخرطوم القاهرة ١٩٩٤م

إِسْحَاق الحلنقي
لَمْحَةُ جَانِبِيَّة

بِلا تردد في القول، هو شاعر فَذُّ، مُكثِّرُ بِلا ترهل، و مُجوِّد دون تصنُّع. ذخيرة مفرداته كأنها تأتيه مِن نَبعِ نشطِ، وبحِذقِ موهبتهِ، ينظِمُ جُملتهِ الشِعرية بتدقيق مُتأنِّ فتخرج أبياته سهلة في مجملها متناسقة في داخلها.

إسحق، رجل لا يخلو من مُكرٍ، يوهِمك بِأن الشعرِ يأتيه عفو الخاطر، وأن قصيدته تَخلق ذاتها بِمعزلِ عنه، مثل طالب متفوق يخفي طول ساعات درسه ومثابرته، أو لعل حياءه ولطف شمائله يبعداه عن التعرض لتعقيد جدل الشعر مابين عناصره العديدة، مضاف لذلك أنه شعر للغناء، شِعر للالحان والاداء. فهل تعتقد أنه لا يدرك سِعة ما وُهب من بحر مفردات زاخر وبراعة تخفي عنك الصِنعِّة خلف الشاعرية العريضة.؟ هل تظن ذلك، انا لا اظن.

إِنظر، مثلا، لهذا التركيب(وَعد النُوَّار)، هذا عُنوان لِقصيدةِ تُغنَّى! إنظر مَرة اخرى لهذا التكوين، رغم جماله السهل، فهو إنشاء بليغ لا يتأتى بِيُسرِ عَفويِّ، ولا تبدعه المصادفة او حُسن الطالع، هو حصاد شاق لإِعمال الذوق والمَلكات الخلاقة مِن رصِّ وتبديل وتعديل وتقليب و...، إنه الإنتخاب الذكِّي والإجتباء الخلاَّق للغة عذبة ووجدان نقِّي.

والله ماكنت ازمع الكتابة حوله، ولا شأن لي بذلك، فلستُ بناقدِ شِعر او موسيقى، لكن محبتي لاِسحاق ولعطاءه المديد، دفعا بي للخوض في شأنه، فقد أخذني الإشفاق عليه من التواجد المُزمن والجلوس الدائم بحُجرات القنوات الفضائية، حتى أنهكه الكلل، وأكمل كُل ما يمكن أن يقال، لان مَن يستضيفه قد نفَدت أسئلته، لِشُحِ الذكاء وفتور الالمَعيِّة. أحزنُ حين أراه في مَعيِّة مذيعة قليلة العقل، صاخبة التبرج، تأتئ لِمحاورة إسحاق دون معرفة بما أنجز ودون دراية بالشعر، ودون دراية بِأيِّ شيئِ.

رسالة للأصدقاء
الخرطوم ديسمبر٢.١١

osman.amer@icloud.com
///////////////

 

آراء