خواطر صينية (1): صمًّ بكمً في شنغهاي!

 


 

 



aelhassan@gmail.com
توجست خيفة وأنا أتوجه للصين (لأول مرّة) للإقامة هناك لشهور طويلة، ومردّ توجّسي جهلي بما ينتظرني وأنا مُقبل على العيش في شنغهاي، وسط الصينيين، في أحيائهم الصينية، ولفترة ليست بالقصيرة؛ أمشي في أسواقهم، وأأكل طعامهم، وأحتك بهم صباح مساء.
كانت إقامتي في الصين تجربة مدهشة مثيرة وثرّة تعلمت فيها الكثير عن نفسي، وعن الآخرين؛ وعن الصين وعن العالم. وسأحاول في هذه المقالات إشراك القراء في هذه التجربة دون إدعاء جهد بحثي، أو منهج علمي. فهي أولا وأخيرا خواطر وانطباعات شخصية آمل أن يكون فيها ما ينفع الناس ويُنير بصائرهم ليروا الصين على حقيقتها وهي تزحف مثل أنهار الجليد في بطء وفي صمت، ودون هوادة، تدهس ما يعترض طريقها إلي التربّع على عرش العالم، قوة عُظمى، بل القوّة الأعظم، مثلما كانت منذ فجر التاريخ، إلا قليلا.
صورة الصين في مُخيلتي (وفي أذهان الكثيرين لا شك) صورة مركبة (كولاج)، معقدة ومتناقضة؛ صورة شائهة أحيانا، وظالمة احيانا أخرى، وخاطئة في معظم الأحيان؛ سلبية أكثر مما يجب عند البعض، وإيجابية أكثر مما يجب عند البعض الآخر. والجهل بالصين، عند العرب، وعند غيرهم، أمر يُثير العجب. فعلى مرّ العصور، جابت أساطيل الصين بحار الدنيا السبع (ورسمت خرائطها)، ووصلت بضائعها إلى أسواق اليمن والشام، وأسواق تمبكتو وهرر، ومكة وبيت المقدس، وغرناطة وطليطلة، والبندقية وجنوة، وكل أسواق العالم القديم؛ وعُرف حريرها وخزفها فائق الصنعة، وانتشرت إختراعاتها وفنونها واسهاماتها الحضارية في مشارق الأرض ومغاربها، ونظر العالم إليها في إعجاب ومهابة. من العجب إذن أن تكون صورة الصين عندنا صورة تتجاهل كل هذا التاريخ الطويل لتعتمد أساسا على الصور النمطية التي أورثها إيّانا الغرب خلال القرنين المنصرمين حين ذلّت الصين وانهكتها الحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة بعدما كانت عزيز الدنيا دون مُنازع لقرون وقرون. ومن هذه الصور النظرة الدونية التي ينظر بها الغرب الحديث إلى الشعوب الصفراء والسمراء والسوداء، والتي قادت في القرن التاسع عشر إلى الإستهانة بها وغزوها واستعمارها، وغمط ماضيها المُشرق واسهاماتها الحضارية، وإنكار مقدرتها على النهوض من سباتها، واستعادة أمجادها القديمة. ومنها الصورة النمطية التي ترى الشعب الصيني جيشا من النمل لا ملامح لأفراده، مُطيع، سلس القياد، يأمرونه  فيزيح الجبال ويحوّل مجارى الأنهار بين عشية وضحاها؛ أو الصورة النمطية السائدة الآن والتي ترى الصين مصنعا ضخما يُغرق أسواق الدنيا بالبضائع الرخيصة رديئة الصنع.
اكتشفت، وأنا أتجول في شوارع شنغهاي، أتفرّس في وجوه الصينيين (وما أكثرهم)، حقائق كثيرة عن نفسي وعنهم. اكتشفت مثلا أنني أصم وأبكم وأمّي. أراهم يتحدثون ويتجادلون ويلوّحون بأيديهم، ولا "أسمع" ولا أعي كلمة واحدة مما يقولون. وحتى حين يُخاطبونني "بالسرعة البطيئة" - مثلما تُخاطب أطفال الثالثة والمُعاقين ذهنيا ومن بلغ من العُمر عتيّا - لا يغيّر ذلك من عجزي شيئا، بل يملؤني عجبا وغيظا في آن معا. كيف لا أعرف من لغة يتحدثها ثلث سكان العالم كلمة واحدة؟ جبتُ بلاد الدنيا واستطعت التواصل (في الحد الأدنى) مع أهلها ببضعة كلمات من لغتهم، أو من لغة أخرى مشابهة. غير أنني في شنغهاي، وبعد مضي ستة أشهر، لم يفتح الله عليّ بكلمة واحدة من الكلمات البسيطة التي يلتقطتها الزائر أول يومين مثل "نعم، ولا، وشكرا، وكم، وكيف". وحين أحاول الرد، تزدحم لغات الدنيا في رأسي، ثم لا تخرج في نهاية المطاف إلا همهمة تؤكد لمُحدِّثي أنني أصم وأبكم أو متخلف ذهنيا!
اكتشفت أيضا أنني أُمّيً بعد سنوات من التعليم الجامعي وفوق الجامعي، وقراءة آلاف الكتب. أنظر إلي اللافتات الضخمة التي يُغرم بها الصينيون، تُزيّن واجهات المباني  والجسور والمحلات التجارية، ولا أعرف إن كانت تقول "ممنوع مرور الأجانب أمام المبنى"، أو "احترس من الكلاب آكلة لحوم البشر"، أو "حقل ألغام"، او "شقق مجانية للزوار". أنظر إلى هذه اللافتات المكتوبة باللون الأحمر (اللون المفضّل في الصين)، ولا استطيع فكّ طلاسم حرف واحد منها ولو كانت نجاتي من موت مُحقق تعتمد على ذلك!
أكثر ما كان يملؤني غيظا وإحباطا هو عدم مقدرتي على التواصل مع عواجيز الصين، (وما أكثرهم). أراهم في الحدائق العامة أو أمام مساكنهم، يمارسون رياضة  "التاي شي"، أو يرعون أحفادهم، فيفترسني فضول طاغ ورغبة ملحّة في الجلوس إليهم، وتبادل نوع الحديث الذي يدور بين المسافرين في رحلات طويلة في بلدان العالم الثالث. أود أن أسألهم عن اسمائهم وأعمارهم، وأين وُلدوا، وماذا كانوا يفعلون قبل التقاعد، عن أسعار الأرز، وغلاء المعيشة، وعن "أيام زمان"، بحلوها ومرِّها، وعن الثورة الثقافية وأيام الرئيس ماو، وعن الأحداث الجسام التي عصفت بالصين، وعن الثراء الذي هبط علي البلاد وجعلها تخطو في تؤدة لقيادة اقتصاد العالم، وعن مظاهر العولمة وأثرها في الحياة الصينية، و"الاستلاب الثقافي" الذي أحال شباب الصين إلى "شباب كوريا" وشباب باقي العالم، وعن إحساسهم وهم يرون الصين القديمة تتآكل تدريجيا من تحت أقدامهم، وآلاف الأسئلة الأخرى. وأكاد أرى في عيونهم الضيقة اللامعة الفضول الملِّح نفسه، يريدون سؤالي من أين أنا، وأين هو السودان، وماذا نأكل، ولماذا أنا في شنغهاي، وغير ذلك من التساؤلات. غير أن حاجز اللغة يحيل الأمر في نهاية المطاف إلى غمغمة من جانبي وابتسامة بلهاء ونظرة عاجزة تطفح بكل ذلك الفضول.
(يتبع)

 

آراء