خواطر صينية 3: «صناعة صينية» .. بقلم/ عوض محمد الحسن

 


 

 



الصورة النمطية الثالثة للصين في العالم، خاصة العالم الثالث، هي أنها مصدرٌ مهولٌ للبضائع المُصنّعة زهيدة الثمن رديئة الصنعة، وأصبحت عبارة «صناعة صينية» تكفي لتنبئك بأن ما اشتريته لن يدومَ أكثر من يوم أو بعض يوم، وهذه الصورة، مثلها مثل كل الصور النمطية، تستند على قدرٍ محدودٍ من الحقيقة وقدرٍ أكبر من التهويل والمُبالغة والتحامل أو الجهل، ولا بد ألا ننسى أن الاقتصاد الصيني، رغم حجمه المتنامي، ورغم العمق الحضاري للصين، لا يزال في طور الشباب، يعتوره ما يعتور الشباب من بعض طيش وشطط يشوب حيويته وعنفوانه، وقد لا يلتزم دائمًا بقواعد اللعبة مثلما يفعل الشباب أحيانًا، وهو ينتج لأسواق متعددة، بعضها (كدول أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان) تنظر للجودة والتزام المواصفات وانخفاض التكلفة في آنٍ معًا، والبعض الآخر (مثل معظم أسواق العالم الثالث) ينظر إلى التكلفة الزهيدة فقط فيما يُستورد من الصين، أضف إلى ذلك أنّ الاقتصاد الصيني ما زال فيه بعض سمات الاقتصاد الرأسمالي المُتوحّش من جريٍ وراء الربح السريع دون اعتبار للكوابح الأخلاقية أو القانونية من احترام لحقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وحقوق المؤلف وقواعد التجارة الدولية وحقوق المستهلك والاعتبارات الصحيّة. ودونكم فضيحة حليب الأطفال قبل سنوات قلائل حين اتضح أن شركات الحليب الصينية تُضيف معدن الميلامين إلى الحليب لزيادة نسبة البروتين فيه ما سبّب حالات الفشل الكلوي عند الأطفال.
غير أنه من الضروري النظر إلى هذه المظاهر السالبة في الاقتصاد الصيني والصناعة الصينية في الإطار التاريخي وفي ضوء الحقائق والأرقام والمُعطيات الاقتصادية الحالية والمُستقبلية، وأهمها أن ٨٠٪ من تجارة الصين تتم مع الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) وهي دولٌ لا أظنّ أنها تغضّ الطرف عن الجودة ودقة المواصفات في تجارتها مع الصين (الفائض في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في العام الماضي بلغ أكثر من ٥٠٠ بليون دولار) ولكن تجتذبها تكلفة الإنتاج في الصين التي دفعت شركات هذه الدول إلى نقل معظم عملياتها (خاصة التصنيع) إلى الصين رغم ما يعنيه ذلك من بطالةٍ في بلدانها (٤٠٪ من الحواسيب المحمولة -لابتوب- تُصنّع في شنغهاي وحدها) ولا أظنّ أن هذه الدول - في ضوء المنافسة التجارية الحادة - ستغفر للصين أي هنّاتٍ تتصل بجودة ما يُصنّع هناك ويُصدّر إلى أسواقها، ومن المؤكد أن المستقبل سيشهد تحسنًا مطردًا في جودة المنتجات المتجهة إلى أسواق إفريقيا وآسيا وباقي الدول النامية، فالصين تُحاول حثيثًا، بعد أن حصلت على عضوية منظمة التجارة الدولية واقتربت من تسنم قيادة الاقتصاد العالمي، التحلي بالمسؤولية التي تفرضها هذه القيادة والالتزام بالقواعد المُنظمة للتجارة وللتعاون الدولي في ذلك المجال الحيوي.
وفي ظني أن الصورة النمطية لرداءة المنتوجات الصينية نابعة أيضًا عن جهل بتاريخ الصين وإسهاماتها الضخمة والعديدة في مجال الاختراعات والابتكارات وتقدمها المُبكر في تجويد وتوثيق التكنولوجيات المُتصلة بالميكانيكا والهايدروليكا، والرياضيات، والفلك والزراعة، والمعادن، والزراعة، والهندسة، ونظرية الموسيقى، والملاحة في أعالي البحار والمهارات اليدوية، فالصين موطن اختراعات مهمة مثل الورق والطباعة والبوصلة والبارود، وهي اختراعات مهّدت الطريق أمام فتوحاتٍ أخرى في مجالات متعددة في العلوم والتكنولوجيا قبل قرون من عصر النهضة الأوروبي، عرفت الصين صناعة السفن عابرة المحيطات، والخزف الفاخر، والحرير، وورق التواليت، وصهر الحديد لإنتاج الصُلب، والكباري المُعلّقة والقذائف الصاروخية والألغام البحرية، وعشرات الاختراعات والمنتجات الأخرى التي عمّت العالم فيما بعد. أضف إلى ذلك الرصيد الهائل من فنون الإدارة الناتج عن قرون من إدارة إمبراطورية ضخمة مُترامية الأطراف والقيام بمشاريعَ عملاقةٍ مثل بناء سور الصين، والمدينة المحرمة في بكين والأساطيل التي عبرت محيطات الدنيا ورسمت خرائطها، ومشاريع الري والزراعة اللازمة لإطعام سكان هذه الإمبراطورية.
مثل هذا الأساس المتين لا بدّ أن يُمكّن الصين من تبوؤ مكانتها كقوة عظمى - إن لم نقل الأعظم - في كافة المجالات (ومنها تجويد الصناعة) غير أن ذلك تعترضه عقبات وتحديات جِسام نأتي إلى ذكرها لاحقًا.

aelhassan@gmail.com

 

آراء