خواطر وذكرى من الدفعة اثنين وثمانين.. زراعة

 


 

 

وفي هذا السرد
أرجو أن أصحح .. أو يضاف لهذه الذكريات الحبيبة..

فالشهود كثر وكلهم عدول. وتنتفي قرينة التدليس .. وتقوى قرينة النسيان..

محاضرة مسائية... المكان قاعة عدلان .. كلية الزراعة جامعة الخرطوم (شمبات) الزمان أحد أيام العام 1979..الحضور الدفعة 82 (أي التي تخرجت في العام 1982.

محاضرة يقدمها الاستاذ حسن مصطفى. أحد علماء تصنيف النبات القلائل في المنطقة العربية.. استاذ حسن بشعره الأبيض كالسحابة وبلونه القمحي .. وبقميص أبيض مشرب بالخضرة الخفيفة.. كأنما أكتسب لونه من اليخضور (الكلوروفيل) .

يدخل حسن مصطفى القاعة.. يحي.. يلتفت إلى السبورة ليمسحها .. ليجد مكتوبا عليها : في لحا الأشجار كتبته نحته في صم الحجارة ..

فيمسح كل السبورة ويترك بيت الشعر .. إذ تعمد أحدهم قبل قليل أن يكتبه.. ويختفي داخل المدرج. الآن أحد كبار المدراء..

كتب أستاذ حسن فوق بيت الشعر Plant Taxonomy..

فمادة حسن مصطفى هي مادة النبات الزراعي Agricultural Botany .. مادة تمهيدية للدخول إلى عالم المحاصيل أو سمه عالم النباتات الاقتصادية.. وبالطبع تمهيدي لعلوم وقاية النبات وغيرها.

وقبل أن يدخل المحاضر إلى تصنيفات النبات كان لابد أن يصف النبات الراقي المكتمل الصفات والملامح.. جذورا، سوقا، اوراقا زهرا وثمرا. بالطبع هناك عالم النباتات الأولية.. من نباتات حرشفية، طحالب وفطريات.. وحياة أولية يقدمها نحاير آخرون.. منهن البروفسور حامد درار.. ليتك ايها القارئ قرأن كتابه ميكروب.. لتعجب من فن السرد وسعة الثقافة.

وقد سبق مادة الاستاذ حسن مصطفى هذه المادة مادة النبات في كلية العلوم .. قدمها في العام الذي مضى الدكتور عبدالقادر.. من المرجع المشهور Class Book of Botany.. حيث تناول فيه تصنيف مملكة النبات الراقي المزهر وغير المزهر والأولي الفطري منه والطحلبي بجميع الأشكال والمسميات..

توازيها في ذات السيمستر مادة الحيوان الزراعي Agricultural Zoology والفتى البارع الوسيم .. المرحوم الدكتور صلاح عمر.. الذي يملأ محاضرته ستين دقيقة بالتمام والكمال.. لا تزيد ولا تنقص.. من يذكر ذلك؟. والتي مهدت لمادة الانتاج الحيواني ووقاية المحاصيل من الآفات وغيرها. وقد سبقتها في كلية العلوم مادة الزوولوجي قدمها المرحوم الدكتور الأمين الريح.. وصحبة الاستاذ فتحي الربعة والدكتور احمد عبدالمجيد.

وتتبع تلكم المادتين.. اعتر البستاني والزوولوجي في كلية الزراعة في السيمستر اللاحق مادة بيئة النبات Plant Ecology..

والتي قدمها الفتى فايز فارس بيباوي .. بطريقة تشبه الشعر المقفى.. هاجر هو الآخر إلى بلاد بعيدة المدى.

بالطبع في هذا العام كانت مواد أخرى ذات طبيعة عامة.. قدمها الفطاحل النحارير.. رحم الله من مضى وأحسن إلى من بقى الكاروري في الوراثة، وحديثة الشائق عن قانون مندل والانعزال في الامشاج..

عقباوي في نظم الزراعة General Agriculture الحريق والكمدوب والجروف .. الآلية والمروية..

التاج فضل الله الذي قدم الجيلوجيا كالاحجار الكريمة في قاعدة من المرمر وطبق من الكريستال الصافي.. بدءا من قشرة الأرض.. والعناصر الثمانية الاكثر انتشارا.. وقد لخصناها وقتها في جملة (أوسيال فكا مكنة) .. والتني (رحمه الله) وكيميائه العضوية.. سليمان جابر ومادته الفريدة (خاطفة اللونين) Physical Chemistry ... والمرحوم كامل حسن ابراهيم مع مادة في الاحصاء والاحتمالات والكتاب الأحمر الشهير (مسز اسبيقل) .. وغيرهم وغيرهم..

كانت مادة حسن مصطفى مكملة وشارحة لمادة النبات التي درست في مدخل الجامعة (البريليم). كان يريد حسن أن يبدأ من نقطة ما.. ليصل إلى العائلات الاقتصادية الكبرى في المحاصيل.. العائلة الخبازية.. حيث القطن والبامية والكركديه والكناف.. والعائلة الباذنجانية ومحاصيلها الباذنجان والبطاطا والطماطم والشطة وغير ذلك.. وعائلة القرعيات.. من البطيخ والخيار، القرع، الكوسة والشمام.. إلى الحنظل (ابن عم لزم للبطيخ .من يجرؤ على القول حلاة وحمار؟)..

وعائلة النجيليات وعلى راسها الذرة، الدخن، القمح وحتى قصب السكر.. ثم عائلة الكبار النخيليات.. وما وراء ذلكم من نباتات حقلية وبستانية وغابية..

ومحاصيل حبوب زيتية وألياف ونباتات عطرية وطبية. وحتى الزهور والورد الشتلوها جو قلبي. ويا ما كم كم سمعنا التذكارا ديمة عندي.

لكن وجود بيت الشعر في السبورة جعل أستاذ حسن مصطفى يبدأ من حيث بيت الشعر.. اظنها أغنية وردي .. بسأل عنك نجمة جارة للدوش. ليتحدث استاذ حسن بدءا من عن النبات بدءا اللحا نفسه وخلاياه الفلينية (الكولنشيما) وخلايا أخرى بارانشيمية وخلايا زايلم وميتازايلم.. المكونة لأجزاء النبات الكبرى في الهواء أو تحت الارض.

فاللحا هو الطبقة الحامية لكل كيان الشجرة.. والناقلة للغذاء إلى بقية أجزاء النبات حتى الجذور. وبإزالة اللحاء ستختنق الشجرة وتموت..

وصحة الشجرة من صحة لحاها.. منوهاً إلى أهمية حسن التعامل مع لحا الأشجار.. وعدم الكتابة عليها .. كقول هذا الشاعر..

يعرج بعدها في مناورة بارعة إلى موضوع تصنيف النبات من حيث عائلاته الاقتصادية الكبرى..

حضرت ورشة عمل عن التنوع الحيوي في أول سنوات الالفية، في قاعة بالبنك الزراعي .. دعاني إليها المرحوم بروفسور أحمد سليمان الوكيل.. منسق برنامج التنوع الحيوي في السودان في تلكم الفترة.. لإلفة وصداقة بيننا.. وود مستدام..

وقد فاجأني رحيله وآلمني.. فنعيته إلى الملأ في الشبكة الدولية.

وقد اصدر بروفسور الوكيل تقريره بعد سلسة من الورش .. تقرير جدير أن يمتلكه كل مختص (مجتهد كان أم مقتصد).. وجدير أن يعكف عليه البحاثة .. خاصة في مطابقة الاسماء اللاتينية مع الاسماء المحلية للنباتات .. وجدير بالمراجعة مع ما كتبه أندروز قبل ستين عاما في تصنيفه الشهير نباتات السودان.. العربية والرطانية.

أما مدير تلكم الجلسة الفارهة في التنوع الحيوي فقد كان هو المرحوم البروفسور محمود ود أحمد (سيد الاسم).. حيث ذكر أن السودان له ستة من علماء تصنيف النبات.. كلهم أوجلهم في ذاك الوقت كانوا خارج السودان.. أحدهم الاستاذ حسن مصطفى المذكور أعلاه بالخير..

لكنه قال إن مراجع النبات في السودان هي التي أنجزها الانجليز.. ولم تكن وقتها لهم أدوات الانتقال والاقامة كما اليوم.. ولم تتوفر لهم تنقنيات الالتقاط والتصوير والتوثيق كما اليوم.. لكن كانت لهم مشروعات جادة.. لما تدعمه الجمعيات الكشفية العلمية ومنها جمعية الجغرافيين البريطانيين وغيرها من الجمعيات العلمية..

فوق ذلك لم يكونوا مختصين.. كانوا هواة ليس إلا. كان أحدهم ضابط سجن في وسط النيل الازرق.. وآخر ضابط إداري يهوى الطبيعة.. عاش في اقصى شمال كردفان.. أنجزوا كل ذلك..

يقول ود احمد: اليوم وصيتي للشباب المنتشرين في كافة بقاع السودان أن يعكفوا على دراسة النباتات توثيقها بالموقع الحغرافي وبالصورة، باسمائها المحلية ثم العروج إلى تصنيفها واستخداماتها.. بل وتسجيلها في الملكية الفكرية، فهي ارث سوداني يستأهل التوثيق.

ثم ختم ود أحمد عليه رحمة الله الورشة بقوله. أما لو كان لي أن أختار شعارا مسموعاً لمثل هذه الورشة، بل شعارا لمسألة التنوع الحيوي لاخترت.. قصيدة خليل فرح (في الضواحي) ..

وعلى ذكرها ترد الابيات: في الضواحى وطرف المداين يلا ننظر شفق الصباح
قوموا خلو الضيق في الجناين شوفوا عز الصيد في العساين
يلا نقنص نطرد نعاين كلبي يا جمجوم أصله خاين شوفوا كيفن يبرأ الملاين هب شال وكشح المراح
*****
للقنيص الخيل خف راسن نحن ما بنخاف من مراسن
المكارم غرقنا ساسن والمجاهل مين غيرنا ساسن .وأن عشقنا بنعشق محاسن فى المحاسن كفي يومنا راح
****
يا الطبيعه الواديك ساكن ما في مثلك قط في الأماكن
يا جمال النال في ثراكن ياحلاة البرعن أراكن
في قفاهن تور قرنو ماكن

لا غشن لا شافن مساكن في الخزام والشيخ والبراح.
شوف صباح الوادي وجماله وشوف خضاره وصيده ورماله
شوف يمينه وعاين شماله شوف نسيم الليل صاحي ماله
شوف فريع الشاو مين أماله

القمر خجلان من كماله
والصباح لاح بهل الوشاح
******
داك نسيم الليل بي برودك نامت الازهار فوق خدودك
غرد العصفور فوق عودك

النفوس ما اتعدت حدودك
ما عرفنا عدوك من ودودك بس أنا المقسوم لي صدودك
يا حياتي وأملي اللي راح

اللهم أرحم كل من مضى منّا.. وأحسن وأكرم من بقى.. وتولنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الصادق .. بكين ..
24 يوليو 2017
sadigabdala@gmail.com

 

آراء