خَوَاجَة فِي حُفرةِ كُلودو!

 


 

 

روزنامة الأسبوع ‎
الإثنين
في تصريح لـ «الترا سودان»، قال صديقنا معتز الفحل، مقرِّر القطاع السِّياسي بالحزب الاتِّحادي الدِّيموقراطي الأصل، إن لقاءهم الثَّاني مع الآليَّة الثُّلاثيَّة المشتركة تمَّ بطلب منها، تلبية لرغبتها في استيضاح محاور سبق للحزب أن طرحها في لقاء جرى قبلاً بينهما، خصوصاً ما يتعلَّق بمشاركة الجَّيش في الفترة الانتقاليَّة، من حيث «أن دور المؤسَّسة العسكريَّة أساسي، وأن إقصاءها لا يجوز، فيجب تشكيل مجلس سيادة مدني وعسكري مشترك» (الانتباهة؛ 16 مايو 2022م).
بهذا التَّصريح أعادنا معتز إلى ما سبق أن عرضنا له حول هذه الإشكاليَّة، من زاوية ضرورة التَّمييز بين الشَّريحة العليا من فئة الجَّنرالات الذين تتماهى مصالحهم مع مصالح الطَّبقة الاجتماعيَّة السَّائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً وثقافيَّاً، وبين السَّواد الأعظم من صغار الضُّبَّاط والأفراد الذين هم بمثابة «حطب النَّار» لتنفيذ أوامر وتعليمات هذه الشَّريحة العليا. وبما أن تصريح معتز لم يضع اعتباراً لهذا التَّمييز، فقد وجب استيضاحه بشأن «المؤسَّسة العسكريَّة» التي يرى حزبه أن «دورها أساسي»، وينبِّه، من ثمَّ، إلى عدم جواز إقصائها، فنتمنَّى أن يكاتبنا في هذا الشَّأن!

الثُّلاثاء
زميلتنا المهندسة النَّاشطة، والمدافعة الباسلة عن حقوق الانسان، أميرة عثمان حامد، رئيسة مبادرة «لا لقهر النِّساء»، توجَّهت، بالجُّمعة الفائتة، إلى العاصمة الإيرلنديَّة دبلن، لاستلام جائزة «منظَّمة مساندي الخطِّ الأمامي Front line defenders» العالمية رفيعة المستوى، والتي فازت بها، عن جدارة، ضمن خمسة مرشَّحين من مختلف أنحاء العالم. المنظَّمة تأسَّست بدبلن عام 2001م، أمَّا الجائزة فقد جرى تدشينها عام 2005م، وتُمنح دوريَّاً للنُّشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان عموماً، وعن حقوق النِّساء بصفة خاصَّة، مِمَّن يتعرَّضون ويتعرَّضن للمخاطر، ولانتهاك حقوقهم وحقوقهنَّ، من قبل الأنظمة القمعيَّة.
يجدر التَّنويه بأن أميرة تعرَّضت للاعتقال، بسبب نضالها الجَّسور، عدَّة مرَّات، كانت آخرها في يناير الماضي، حين اقتحمت منزل أسرتها، عند منتصف الليل، قوَّة عسكريَّة من زهاء الثَّلاثين فرداً مدجَّجين بالأسلحة النَّاريَّة، واستخدموا أقسى وسائل العنف لاعتقالها، واقتيادها من قسم شرطة إلى قسم شرطة، ومن حراسة إلى أخرى، انتهت بسجن النِّساء في أم درمان، دون أدنى مراعاة لظروفها الصِّحيَّة، إذ ظلت تعاني من إعاقة حركيَّة، بسبب انهيار منزلهم الخريف الماضي، وتتَّبع، منذ حينها، برنامجاً علاجيَّاً صارماً، في السُّودان والمانيا، مع اضطرارها للتَّوكؤ على عصا طبِّيَّة، مِمَّا أثار حملة تضامن واحتجاجات داخليَّة وخارجيَّة واسعة، وبعد قيد بلاغ جنائي ضدَّها تحشَّد للدِّفاع عنها فيه فريق ضخم من المحامين المتطوِّعين، حيث يُتوقَّع تقديمها للمحاكمة خلال الأيَّام القادمة. وقد تزامن ترشيحها لهذه الجَّائزة المستحقَّة مع هذا الاعتقال الأخير.

الأربعاء
لم تبك فاطمة، قط، مثل بكائها على صغيرها الوحيد، يتيم الأب، عبد الرحمن الذي اجتاز عتبة البيت، ذات صباح خريفيٍّ غائم من عام 1921م، وهو يحجل، بسنواته الخمس، مرحاً، كعادته، يطارد أسراب الفراش والكدندار، وينصب الشِّراك للقماري والحباري، على امتداد زقاقهم الكائن يتحدَّر، في قلب أم درمان، من «حُفرة كلودو»، بانسيابيَّة رفيقة، نواحي سوق المدينة الكبير. سوى أن عبد الرحمن لم يعُد، أبداً، من ساعته تلك، أو يُعثر له على أثر، أو يُسمع عنه أَوْهَى خبر، إلا شائعة سرت همساً بلغ أسماع فاطمة، فزادها فجيعة على فجيعتها، بأن مضوي، راعي الغنم الذي اختفى، هو الآخر، بالتلازم مع اختفاء عبد الرحمن، قد خطفه، وباعه، والعياذ بالله، لخواجات قطعوا به البحر! مع ذلك لم يفتر بحث الأسرة الدءوب، ولا أقاربها، ولا أصدقائها، ولا معارفها في المدينة، حيث شرَّقوا وغرَّبوا بلا طائل، وبلغوا أقاصي السَّافل والصَّعيد دون جدوى، حتى انفطر كبد فاطمة من شدَّة اللوعة، وكلَّت أضالعها من كثرة النَّحيب، وانحنى ظهرها تحت ثقل اليأس، وذبلت عيناها، وشحُبت روحها، وشاخت، بالمرَّة، قبل يومها.
خمسة وعشرون عاماً تصرَّمت انقطع البحث، خلالها، عن عبد الرحمن، عندما انقطع العشم في طريق يوصل إليه، وبهت ذكره سوى في قلب فاطمة، وخبت صورته إلا بين جوانحها، وانطفأت جذوة الأسى عليه ما عدا في أحشائها.
على أن مارد الذِّكرى ما لبث أن هبَّ، نفرة واحدة، من سباته، يوم استيقظ النَّاس، ذات صباح صيفي مشعشع من العام 1946م، على صوت عبد الرازق، مُنادي البلديَّة، يجوب الطرقات بعربة «الكارو» الميري، يعلن، عبر بوقه المعدني الضَّخم، كلَّ من له قريب مفقود منذ سنوات، أن يسارع للتعرُّف عليه بمركز بوليس المدينة!
وإنْ هي إلا لحظات حتى كان شارع المركز يزدحم بالنَّاس يخبُّون خبباً، كفيفهم يرتدف مُقعدهم، وفوق رؤوسهم تنعقد زوبعة من الغبار، وفي وسطهم فاطمة! حملتها موجة عالية من حدس قوي ما انفكَّ يهجس في تمرة فؤادها بأن القابع لدى الحكومة، وقتها، ليس سوى صغيرها الحبيب، وأنها ستراه، ستضمُّه، ستشمُّه، وستعود به، في زفة من الأهل والجِّيران، إلى البيت، تطعمه بيدها، في العشيَّات، بَليل الفريك الذي لم تنس، قط، كم كان يحبُّه بالسَّمن البلدي، وتسقيه اللبن الرَّائب المخلوط بعسل النَّحل، وتجعل مهاده بقربها، كما في الأيام الخوالي، تسأله، بشغف، أن يحكي لها الحكاية من أوَّلها، فيحدِّثها بلثغته التي لا تغباها، عن الذِّئبة الشَّفوق التي خلصته من بين براثن النَّصارى في الخلاء، وأوته، وربَّته مع أولادها في الغابة، وحَمَته من الغيلان والسَّعالي، وكانت أرأف به من غوائل الدَّهر، وأحنَّ عليه، من مضوي الكافـر، لعنة الله عليه، من فوق سـبع سماوات، في القِبَلِ الأربع!
داخل المركز كان الأهالي يحدِّقون فيه برهبة، بينما هو جالس صامت، أمامهم، على سرير سفري مفروش ببطانيَّة عسكريَّة سوداء، يدخِّن غليونه، في هدوء، متكئ الظهر على مخدة قديمة حائلة اللون، ويكاد لا يعنيه من أمرهم شيئاً! أمَّا فاطمة فقد جاهدت بآخر نفس فيها، شاقَّة الزِّحام، حتَّى ألفت نفسها واقفة قبالته، والضَّجة قد سكنت، شيئاً، تسند ظهرها المقوَّس بيمناها، بينما راحت تقطِّب عينيها الكليلتين، وتجعل فوقهما مظلة من كفِّها الأيسر، كي تراه جيِّداً. و ..
بغتة عرفته! كبُر كثيراً جدَّاً، ومع ذلك عرفته! نما له شارب، واستطالت لحية، ومع ذلك عرفته! فتح لونه شيئاً، ومع ذلك عرفته! خلع عرَّاقي الدمُّوريَّة الصَّغير، والحجاب الذي كان اصطنعه له الفكي أزرق، في الزَّمان السَّحيق، وارتدى، بدلاً منهما، ذينك القميص والبنطال الرماديَّين، وانتعل ذلك الحذاء الأسود الغليظ، ووضع بين أسنانه ذلك الغليون الأسود المقوَّس، وفوق رأسه تلك القبُّعة الأفرنجيَّة عميقة الزُّرقة، ومع ذلك كله عرفته! لكنها، للوهلة الأولى، تسمَّرت، جاحظة العينين، راجفة الخدَّين، واجفة الشَّفتين، متخشِّبة الأطراف، مبهورة الأنفاس، تتصبَّب عرقاً!
أما هو، فما أن أعاد البصر في وجهها كرَّتين، حتى نزع غليونه، بغتة، واعتدل في جلسته، لبرهة، ثمَّ، في البرهة التَّالية، قفز يضمُّ جسدها الناحل بين ساعديه المفتولين، بينما راحت مفاصلها الواهنة تسوخ في أحضانه ببطء!
تعالى، في صحن المركز، صياح الجَّمع، وارتفع التَّهليل والتَّكبير. أحاط البعض بهما يساعدونهما على الخروج، وهرول البعض يتكئون بسواعدهم على الحيطان وجذوع الأشجار، يدفنون وجوههم هناك، ويجهشون بالبكاء! وتطوَّع البعض بحمل حقيبة ذلك العائد بمعجزة لا شبيه لها سوى في الأحاجي! حتى البوليس نفسه ما احتاج، كي يتركهما يمضيان معاً وسط ذلك المهرجان الأسطوري، إلى أيِّ إجراءات، ولا حتى للتَّحقُّق من وجود أثر الجُّرح القديم الذي كانت، في بلاغها الباكر، قد وصفت مكانه في فخذه الأيمن، أو الشَّامة الكبيرة التي كانت قالت إنها في منتصف ظهره!
..........................
..........................
عند هذا الحدِّ يؤسفنا أن ننبِّه القارئ الشَّغوف بالنِّهايات السَّعيدة إلى أننا سنضطر، بعد كلِّ هذا العلوِّ الباذخ الذي تصعَّدت إليه هذه السَّرديَّة، وتربَّعت فوق قمَّته، للانحدار بها في هبوط فاجع ربَّما يرى البعض أنه كان حريَّاً بنا تفاديه، ولو بعمليَّة تجميل اصطناعيَّة! على كلٍّ، ومهما يكن من أمر، فإن ما جرى خلال الأشهر الثَّلاثة التَّالية هو، في ما يبدو، المسؤول، لا نحن، عن هذا المصير! أو دعونا نبرِّر ذلك باجتراح ضرورة أخلاقيَّة تفرض علينا اقتسام المذاق المرَّ لهذه النهاية الفاجعة مع فاطمة، وربَّما، بالمناسبة، مع عبد الرحمن ذاته!
أوَّل ذلك حاجز اللغة السَّميك الذي نهض كجدار أسود أصمٍّ يباعد ما بين كليهما، دَعْ ما بين عبد الرحمن والآخرين، في بيئة «كلودو» الثَّقافيَّة المتواضعة! فقد اتضح، أوَّل ما اتَّضح، أنه لا يعرف حتَّى اسمه الحقيقي، إذ راح يصرُّ على أنه «جاك»، ولا يفقه كلمة واحدة بالعربيَّة، كما وأنه لم يبدِ أدنى استعداد لتعلم شئ منها، فكُتب عليه أن يتفاهم، حتى مع أمِّه، بلغة الإشارة، مِمَّا ضيَّق صدره بتلك الحياة، ومسَّخ عودته، مع كرِّ مسبحة الأيَّام، في نفوس الأهل والجِّيران!
وليت اللغة وحدها كانت المشكلة، فلربَّما استطاعت أن تخفِّف منها شيئاً، جهود التَّرجمة، على بؤسها، والتي تطوَّع بها ثابت، إبن أخت فاطمة، والطالب، وقتها، بالمرحلة المتوسِّطة، بمدارس كمبوني، إلى جانب العوضي، المتطوِّع السَّابق بقوَّة دفاع السُّودان، والمتزوِّج، للتوِّ، من إحدى قريبات فاطمة، فور عودته من صحراء «الكُفرة» بعد أن وضعت الحرب الثَّانية أوزارها. لكن فجيعة فاطمة الكبرى كانت اكتشافها أن عبد الرحمن لا يصلِّي، بل ليس مسلماً، بل ولا يهتمُّ بالدِّين أصلاً، وأنه يأكل، أحياناً، بيسراه، وأن له عادات غير حميدة في قضاء الحاجة، رغم أنها وضعت له، فوق فوهة الحفرة مباشرة، كرسي خزران بعد أن أزالت قاعدته، كما ولم يكن يفهم معنى الحائط الفاصل بين «حوش الرِّجال» و«حوش النِّسوان»، ولا يستشعر أوهى حرج في تحيَّة قريباتها وجاراتها، من مختلف الأعمار، بمحاولة تقبيل ظاهر أكفِّهنَّ، أو إفزاعهنَّ، حين يزرنها، بالجلوس إليهنَّ عارياً إلا من شورت قصير، أو بدعوتهنَّ لتدخين سيجارة، أو تناول كأس من الخمر التي كان يجلبها من بار الخواجة أرونت بالمحطة الوسطى، وقد فشلت كلُّ جهودها في نهيه عن مضايقة هاتيك النِّسوة، وجميع محاولاتها في إفهامه أن ما يفعل عيب، ولا يجوز، مِمَّا تسبَّب في مشاكل لا حصر لها بينهما، ومعهنَّ، ومع ذويهنَّ، حتى انقطعن عن زيارتها، وانقطع حتَّى الرِّجال عن طرق بابها، كعادتهم القديمة، للسُّؤال عن الأحوال. من جهته لم يستسغ عبد الرحمن الطعام الذي كانت تطبخه فاطمة، ولا ماء الزير، ولا حرارة الجو، ولا انعدام الكهرباء، ولا افتقار البيت لحمَّام بمقعد أفرنجي! وصار كثير النَّرفزة من أمرين أحالا حياته إلى جحيم دون أن يفهم سبباً واحداً لأيٍّ منهما: بكاء فاطمة المتواصل، وسخرية النَّاس، حتى الأطفال، منه، الأمر الذي جعله دائم التضجُّر، والبرطمة، والتَّباذؤ: بلضي فول .. فكنق بلضي فول!
هكذا، عندما رأته فاطمة، ذات فجر خريفي، يتسلَّل من الباب الخارجي، وحقيبته بيمناه، لم تحرِّك ساكناً! وعندما جاءها العوضي، في الضُّحى، يقول، والمطر نثيث ناعم، إنه لمحه يدلف، في دغش الصَّبح، إلى إحدى عربات قطار الشَّمال، لم يبدُ عليها أنها سمعت شيئاً، بل واصلت مداعبة حبَّات مسبحتها، صامتة، وهي تحدِّق، بعينين كابيتين، كما لو في فراغ عريض!

الخميس
البداوة تربية، وسلوك، ولغة، ومزاج، وطبع غالب يستعصي على التَّطبُّع، بحيث أن التَّمدُّن المكتسب، والذي لا يقترن بصميم النَّشأة، لا يعدو كونه محض طلاءٍ خارجيٍّ لا تجدي محاولة التَّخلُّص منه، بالغاً ما بلغ الجهد المبذول في محوه. والبدو، رغم السَِّجايا العديدة التي لا تخلو منها خصالهم، يستبطنون الاستعلاء على مظاهر المدنيَّة والتَّحضُّر، بصرف النَّظر عن مكانة أصحابها المهنيَّة أو الاجتماعيَّة، ويعدُّونها من علامات الذًّل والمهانة! في هذا الإطار نعرض لنَّموذجين مترابطين على النَّحو الآتي:
النموذج الأوَّل: هو محمد الحسن ولد لبَّات، الدِّبلوماسي الأفريقي الرَّفيع، والذي سبق أن تقلَّد منصب وزير خارجيَّة موريتانيا، كما وأنه، حاليَّاً، مبعوث الاتحاد الإفريقي لمعالجة الأزمة السِّياسيَّة في السُّودان. درس القانون بجامعة نواكشوط، وأكمل دراساته العليا بفرنسا، ثمَّ عمل أستاذاً بالكليَّة، ورئيساً للجَّامعة، مثلما عمل أستاذاً زائراً في عدد من الجَّامعات الإفريقيَّة والفرنسيَّة، وعُيِّن، عام 1991م، ضمن فريق من كبار فقهاء القانون لصياغة أوَّل دستور موريتاني مؤسَّس على التَّعدُّديَّة.
مع ذلك لم يستطع الرَّجل التَّخلُّص من رواسب بداوته المتأصِّلة، بخصائصها السَّالبة التي قلَّما تحترم الصِّدق، وما يستتبعه من تسليم بالحقيقة، وخضوع لها، بل والتي قد تعتبر اللجوء، أحياناً، لمعكوس هذه القيم من دلائل القوَّة والغلبة! فولد لبَّات المنحدر من مقاطعة واد النَّاقة بجنوب غرب موريتانيا، والذي ينتسب إلى بعض قبائل التَّرارزة، زعم، ضمن مؤتمر صحفي له، مؤخَّراً، وبملء فيه، أن آليَّة الوساطة الأفريقيَّة حدَّدت العاشر والثَّاني عشر من مايو المنصرم موعداً لعقد لقاء تحضيري بين الأطراف السُّودانيَّة لنزع فتيل الأزمة المستفحلة في البلاد بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر. على أن تصريحه ذاك ما لبث أن انقلب إلى فضيحة داوية حين كشفت دوائر دبلوماسيَّة مطلعة أن الرَّجل، في الحقيقة، قد «اخترع» هذا «اللقاء التَّحضيري» اختراعاً، وقطع موعده من رأسه، بدون علم آليَّته الإفريقيَّة، أو مشاورتها!
النموذج الثَّاني: هو محمد حمدان دقلو «حميدتي» الذي اشتغل في العشرينات من عمره، خلال تسعينات القرن الماضي، بتجارة الإبل بين ليبيا ومالي وتشاد، فضلاً عن حماية القوافل التِّجاريَّة من قُطَّاع الطرق في مناطق سيطرة قبيلته الرِّزيقات البدو المستعربين بإقليم دارفور، حيث جنى ثروة كبيرة مكَّنته من تكوين ميليشيا من عناصر هذه القبيلة. وعند اكتشاف الذَّهب في «جبل عامر» سيطرت ميليشيته هذه على مناجمه. ثمَّ انتقل من خارج المؤسَّسة العسكريَّة والحزبيَّة إلى واجهة المشهد السِّياسي، حين قرَّبه الرَّئيس المخلوع إليه، ومنحه رتبة الفريق، وأضفى الشَّرعيَّة على ميليشيته تحت اسم «قوَّات الدَّعم السَّريع»، وفق مرسوم رئاسي صادر عام 2013م، وكان البشير يأمل في مساندة حميدتي له، وتوفير الحماية لمقعده الرِّئاسي، حتَّى في مواجهة المؤسَّسة العسكريَّة الرَّسميَّة نفسها! غير أن حميدتي انقلب عليه، إثر ثورة ديسمبر 2018م المجيدة، وساند القوى التي أسقطته في الحادي عشر من أبريل 2019م! وفي الثَّالث عشر منه رُقِّي إلى رتبة الفريق أوَّل، وعُيِّن نائباً للفريق أوَّل ركن عبد الفتَّاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، آنذاك. وفي العشرين من أغسطس من نفس العام، لدى تشكيل المجلس السَّيادي الانتقالي الذي ترأَّسه البرهان، أصبح حميدتي النَّائب الأول له أيضاً!
لكن، عندما احتدم الخلاف بين قوى الثَّورة، وبين انقلابيي الخامس والعشرين من أكتوبر، حول تفاوض الطرفين الذي كان الانقلابيُّون يطلبونه، بينما ترفضه قوى الثَّورة، لجأ حميدتي إلى الكذب، محاولاً التَّشكيك في صدقيَّة ما يعلن الثَّوريُّون من رفض للتَّفاوض مع الانقلابيِّين، زاعماً، خلال كلمة له أمام العاملين في القصر الجُّمهوري، بالثُّلاثاء العاشر من مايو المنصرم، أن قيادات المجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير اجتمعت معه، شخصيَّاً، في «مفاوضات سرِّيَّة»، قبل ذلك بأسبوع! وإمعاناً في التَّشكيك أردف قائلاً دون أن يطرف له جفن: «نحنا الآن بنتفرَّج، لكننا متابعين عمليَّات التَّذاكي، والمؤامرات، والبرمجة التي تتمُّ تحت التَّربيزة»!
أثارت تَّصريحات الرَّجل العديد من علامات الاستفهام والتَّعجُّب! مِمَّا دفع أصحاب الشَّأن لإلقاء ما يشبه قفَّاز التَّحدِّي في وجهه، مطالبين إيَّاه بكشف أسماء القيادات التي اجتمعت به «تحت التَّربيزة» كما زعم .. لكنه، وقد مرَّ، حتَّى الآن، كلُّ هذا الزَّمن الطويل، لم يبدِ أيَّ استعداد لالتقاط هذا القفاز!

الجُّمعة
رَهَنَ المجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير قبوله المشاركة في الاجتماع التَّحضيري للآليَّة الثُّلاثيَّة ببعض الشُّروط. لكن، بصرف النَّظر عن صدقيَّة هذه الشُّروط، فإن «جماعة الميثاق الوطني» استنكروها، قائلين: «الصَّحيح أن يدخلوا الاجتماع التَّحضيري أوَّلاً، وبعد ذلك يطرحون شروطهم»!
يا سبحان الله .. يقولون لهم: «تيس»، فيقولون: «أحلبوه»!

السَّبت
اطلعت في بعض المواقع، مؤخَّراً، على قول للمدعو محمد نور السَّمؤال الذي جرى التَّعريف به كرئيس لـ «تجمُّع الشَّباب المستقلين»! ومفاد قوله، باختصار وتصرُّف، أنه رأى، في المنام، الفريق عبد الفتاح البرهان في هيئة أسد يفرد جناحين عظيمين، أحدهما أبيض والآخر أخضر، وعلي رأسه تاج في شكل صقر الجِّديان، وهو يطوف، في مشهد مهيب، بسماء السُّودان، ويغرز أنيابه في صدور بعض الضِّباع! ومضى السَّمؤال يؤكِّد أن ذلك لم يكن محض «حلم»، بل كان «رؤيا» تنتظر التَّحقُّق، لأنه، كما زعم، لا يخلد للنوم إلا متوضِّئاً، ومكتمل التَّحصين! ومن رأيه، إلى ذلك، أن مفاتيح التَّغيير هي، أصلاً، بيد «شرفاء الجَّيش»! وأن الله مكَّن للبرهان كقائد للسُّودان بين ليلة وضحاها! لذا انطلق يناشده قائلاً: «أكرب قاشَك أيُّها الأسد، ولا تنتظر أن يطمع في السُّلطة بغاث الطير! عليك أن تكون في المقدِّمة، وسنكون نحن الشَّباب المستقلين خلفك، لتنظِّف السَّاحة من الضِّباع ومصَّاصي الدِّماء! ويواصل مناشدته بقوله: «أكرب قاشك، وأعد للوطن كرامته المسلوبة، وسيادته المسروقه، فالأحزاب عاجزة عن أيِّ مخرج وطني، والحلُّ في خارطة طريق تتقدمها المؤسَّسة العسكريَّة تحت لواء وطني يعيد ترميم ما انهار من مبادئ وقيم كنَّا نأمل أن نجدها عند هذه الأحزاب الهرمة التي تقتات علي ضعف السُّودان، لكنَّها مازالت تمارس العمالة والارتزاق، لصالح المنظَّمات، وأجهزة الاستخبارات العالميَّة»! ويختتم السَّمؤال كلمته بقوله: «القوي المدنيَّة المتحزِّبة غير راشدة، ولا تستطيع أن تخرج نفسها من الأطماع والمصالح الشَّخصيَّة. ولقد طالت الفترة الانتقاليَّة بما أضرَّ بالشَّعب الذي صار يهرب الي دول الجوار، إذ لم يعد يرغب في هذه الصِّراعات اللامتناهية، فلا بُدَّ من خطوة صارمة تعيد الأمور الي نصابها، متجاوزة القوي المدنيَّة الوهميَّة، ومعتمدة علي التَّيَّار المحافظ غير المندرج تحت مسمَّيات حزبيَّة (نتنة!)، والذي يحرِّكه الولاء للدِّين والوطن؛ فانطلق اليومَ، وحقِّق (لنا!) هذه الغاية، فأنت منصور بإذن الله»!
لم تقدَّر لي، من قبل، أيَّة معرفة بهذا السَّمؤال، في أيِّ مستوى، أو الاطِّلاع على أيِّ رأي سياسي له، بل ولم أسمع، أصلاً، بـ «تجمُّعه الشَّبابي» المشار إليه، دع أن يكون لديَّ علم بهُويَّته. سوى أنِّي، الآن، وبعد مطالعة مقالته هذه، أستطيع أن أجزم بأن الرَّجل محض «واهم إسلاموي» من داعمي انقلاب 25 أكتوبر، وأن منظَّمته الشَّبابيَّة المزعومة هي مجرَّد رافد لحركة الاسلام السِّياسي السُّودانيَّة، و .. كفانا استهبالاً!

الأحد
تنازع رجل مع امرأة كانت تخبز، وفي كفَّيها بقايا دقيق، فوضعتها في صُرَّة تحت حزامها. وعندما مثلا أمام القاضي، وكان فاسداً، لمح الصُّرَّة، فظنَّها دراهم جلبتها المرأة لتعطيه إيَّاها كي يحكم لها! فجعل، كلما جاء الرَّجل بحُجَّة، أبطلها؛ وكلما جاءت المرأة بحُجَّة، أيَّدها؛ حتَّى حكم لها عليه، ثمَّ خرجا. فلمَّا رأى سعادته أنَّها لم تعطه شيئاً، أرسل وراءها، وأشار إلى أنه يريد الصُّرَّة. فأخرجتها، فإذا فيها دقيق، وسألته: «أخبزه لك أم تأكله دقيقاً»؟! فأجابها: «بل انثريه على لحية من يحكم قبل أن يقبض»!

***

kgizouli@gmail.com
//////////////////////////////

 

آراء