دارفور في الدوحة: قائمة طعام شهية في غياب المدعوين

 


 

 


Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
لا شك أن كل من تابع الاحتفال المهيب الذي بثته "الجزيرة مباشر" من الدوحة على الهواء مباشرة في آخر أيام الشهر الماضي يكون معذوراً لو اعتقد بأن قضية دارفور قد حلت بحمدالله نهائياً، وأن السلام قد حل بهذا الإقليم المكلوم. فقد تنافس عدد كبير من الخطباء على منبر الحفل، كل يتحدث باسم منظمة دولية أو إقليمية، يشيد بالإنجاز العظيم، ويدعي بصورة غير مباشرة وصلاً به، في حين ضاق المقام عن آخرين، منهم ممثلون لقوى عظمى، كانوا يودون لو سمح لهم بالحديث، وهم جلوس غير بعيد ينتظرون. ذكر هذا المقام بالاحتفال الضخم الذي شهدته العاصمة الكينية نيروبي في التاسع من يناير عام 2005، وهو احتفال لم يغب عنه من كبار ممثلي الدول كبيرها وصغيرها إلا شقي أو محروم، وتعاقب الخطباء فيه يومها كما فعلوا في الدوحة الشهر الماضي، كل يغني على ليلاه.
عندها كان لمن ازدحموا على تلك المائدة عذر أفضل، لأن ذلك اليوم شهد توقيع اتفاق سلام أنهي أطول حرب شهدتها القارة الافريقية، وأعاد الوفاق والطمأنينة (مؤقتاً كما اتضح لاحقاً) إلى ربوع البلاد. أما في الدوحة في نهاية مايو، فلم يكن هناك توقيع ولا موقعون. بل لم يكن هناك متحدث واحد من دارفور ولا من السودان. ووجه الخطباء المتعاقبين الشكر لمنظمة بعد منظمة، ودولة بعد أخرى، دون أن يخطر لهؤلاء ذكر الحكومة السودانية بخير أوشر. فالسودان كان الغائب الأكبر عن ذلك الحفل، سوى المتفرجين ممن سموا "أصحاب المصلحة" في حل قضية دارفور (كأن هناك سوداني لا مصلحة له في إحلال السلام في دارفور، كما تعجب أحد قادة الحركات الدارفورية)، ممن كان حضورهم بالتصفيق المدوي دون سواه.
ما تم الإعلان عنه والاحتفال به في ذلك اليوم المشهود لم يكن اتفاق سلام، بل وعداً بشيء من ذلك في وقت لم يحدد، ومع جهات لم تحدد كذلك. فقد تحدثت الوثيقة التي أعدها الوسطاء عن مبادئ عامة لا بد أن يشتمل عليها الحل. وفي البيان الختامي للملتقى الذي دعيت له نخبة مختارة من ممثلي أهل دارفور والأطراف السودانية ذات الصلة، تمت الإشادة بما تم حتى الآن من إنجازات، منها التوقيع على اتفاقيات نبذها أصحابها وراء ظهورهم، ولقاءات سابقة لم تتمخص عنها نتائج ملموسة. وفي إشارة غير مباشرة لهذا الوضع، دعا المؤتمرون أطراف النزاع إلى الالتزام باتفاقيات وقف إطلاق النار التي وقعوها في السابق، كما دعوا الحركات التي لم توقع مثل هذه الاتفاقيات لأن تفعل. وخلص المؤتمر إلى تكليف قطر برئاسة لجنة دولية تتولى متابعة تنفيذ ما اتفق عليه.
ويعتبر أهم ما تم التوافق عليه هو إقرار ما سمي ب "مشروع وثيقة الدوحة"، التي اتفق على تكون أساساً "للوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار وتسوية سلمية شاملة تضم الجميع وسلام واستقرار مستدامين في دارفور." وثنى المؤتمرون بدعوة الحكومة وحركات التمرد "إلى بذل كافة الجهود بُغية الوصول إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار وإلى تسوية سلام شاملة تضم الجميع على أساس هذه الوثيقة." أي أن الأمر لم يتعد التمنيات والمناشدات، وهو أمر لم يكن يستحق كل هذا الاحتفال. ولا نريد هنا التقليل من أهمية التوافق على وثيقة تحوي مبادئ عامة، ومن قبل أطياف واسعة من أهل الرأي في دارفور، بمن فيهم ممثلو الحكومة وبعض الحركات. ولكن هذا التوافق تم تحديداً لأن الوثيقة، التي لم ينشر نصها النهائي الكامل بعد، تركت كثيراً من التفاصيل  إلى مفاوضات لاحقة بين الحكومة وحركات التمرد. وتكمن أهمية هذا التوافق في أنه سيعطي غطاءً لحركة التحرير والعدالة التي يرأسها الدكتور التجاني السيسي لتوقع مع الحكومة اتفاق سلام ظل قيد الإعداد لأكثر من عام، وأوشك أن يكتمل. وستتعزز قيمة هذا الغطاء إذا ما تم دعم الوثيقة من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي، كما يسعى الوسطاء. ولكن هذا الاتفاق لن ينهي الحرب.
هذا علاوة على أن فهم الحكومة لمقتضى إقرار الوثيقة يفرغ التوافق المفترض من محتواه المحدود الذي اقتصر على المناشدة والتمني، بعد أن تنصل ممثلو الحكومة من المناشدات التي وافقوا عليها بمجرد هبوط طائرتهم في مطار الخرطوم. فقد جاء في تصريحات للدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب قوله إن الوثيقة "تمثل نهاية الحوار والتفاوض مع الحركات المسلحة"، وأن المجال الوحيد المفتوح للتفاوض يقتصر على مناقشة وضع الحركات التي توقع على الوثيقة خلال مهلة الثلاث أشهر المتاحة في "الترتيبات الانتقالية". وإذا صح هذا فإن ما ورد في الوثيقة وبيان الدوحة من مناشدات للحكومة والحركات لسرعة التفاوض من أجل تحقيق السلام يصبح غير ذي معنى.
مهما يكن فإنه، حتى لو تراجع المسؤولون عن تراجعهم، فإن قيمة ما تحقق في الدوحة حتى الآن يظل موضع تساؤل. ذلك أن المسألة لا تتعلق بإعلان مبادئ أو التوافق على ملامح عامة لحل قضية دارفور وقضايا السودان الأخرى. فقد تم من قبل التوافق على عموميات، منذ توقيع اتفاقية الخرطوم عام 1997، وتضمين ما نصت عليه من مبادئ المواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان وقواعد التبادل السلمي للسلطة والحكم الفدرالي في دستور عام 1998. وقد جاءت اتفاقيات نيفاشا (ودستور عام 2005) بتأكيدات زائدة ومفصلة على هذه المبادئ، وزادت النص على مؤسسات لوضع هذه المبادئ موضع التنفيذ. ونسجت اتفاقية سلام دارفور في أبوجا عام 2006 على نفس المنوال، فلم تدع خصلة خير إلا ودعت إليها وأعلنت الالتزام بها.
وقد كانت المعضلة في كل من اتفاق الخرطوم واتفاق أبوجا أن الحركات الفاعلة رفضت الدخول في الاتفاق، قائلة عنه ما قال الزعيم الراحل اسماعيل الأزهري عن مشروع الجمعية التشريعية التي اقترحاها السلطات الاستعمارية في عام 1948: "سنرفضها ولو جاءت مبرأة من كل عيب." فالمسألة عند هذه الحركات لم تكن في نص الاتفاقية ومحتواها، بل موقع قياداتها هي في الوضع الناتج عنها. وإذا كانت بعض الحركات تردد دائماً أنها ترفض شرعة تقاسم الوظائف، إلا أن تقاسم الوظائف يظل هو العامل الأهم عند قبول أو رفض أي اتفاقية. أما مصدر الخلل في اتفاقية نيفاشا فيأتي أساساً من كونها تركت قضايا حيوية، مثل وحدة البلاد، بدون حسم، وفتحت الباب أمام تنافس الشريكين بدلاً من توافقهما، ونتج عن ذلك خلافات لا نهاية لها حول تفسير كل بند من الاتفاق.
وثيقة دارفور لم تصل بعد حتى إلى مرحلة أبوجا فضلاً عن أن تبلغ مقام نيفاشا. فهنا نجد أنفسنا أمام قائمة طويلة من المبادئ السامية والمطالب الملحة، هي أشبه بقائمة طعام فيها كل ما لذ وطاب. ولكن القائمة لا تشكل سوى أمان، لأن الأطباق لم تحضر بعد في انتظار وصول المدعوين حتى يختاروا ما يروق لهم من الأطباق. ولكن الإشكالية هنا هي أن معظم المدعوين لم يحضروا، والقلة التي حضرت لد بعضها مشاكل صحية تعيقها عن تذوق وهضم ما هو متاح على المائدة.
المحصلة هي أن أن إصدار الوثيقة وإقرارها لا يمكنه أن يخفى أن مسار الدوحة قد وصل إلى طريق مسدود. ولا يتعلق الأمر هنا بأي عجز أو تقصير من الوسطاء أو الدولة المضيفة، بل يرجع إلى تعقيدات القضية وكثرة التداخلات والتدخلات فيها. فالقضية لها أبعاد داخلية في إقليم دارفور نفسه، خارجة عن سيطرة الحكومة والحركات، ولها أبعاد دولية زادت من تعقيداتها الداخلية. فقد تعرضت القضية إلى "نصف تدويل"، و"ثلث تدخل دولي" والعديد من التدخلات الإقليمية. وكنتيجة لكل هذا، فإن الضجة الدولية حول أزمة دارفور رفعت سقف المطالب دون أن تؤدي إلى أي خطوات عملية تدفع باتجاه الاستجابة لها، سوى إرسال قوة حفظ سلام عقدت الأمر لأنها أخرجت الحل العسكري من المعادلة دون أن تكون قادرة على وقف العمليات العسكرية وإحلال السلام، أو حتى الدفاع بفاعلية عن المدنيين. وكنتيجة لذلك وجدت دارفور نفسها في حالة لا حرب ولا سلم، تفرخ كل يوم حركات جديدة لن تساهم بالتسريع بحل عسكري، ولا تسمح بعودة الهدوء الذي يخلق جواً ملائماً لمساعي السلام.
من هنا فإن هناك حاجة إلى إعادة نظر جذرية في الأساليب التقليدية التي اتبعها مسار الدوحة حتى الآن، لأن الاستمرار في هذا الأسلوب لن تكون له نتيجة سوى استمرار معاناة أهل دارفور إلى ما لانهاية. فالمسار التفاوضي المختل يشكل في حقيقة الأمر غطاء لاستمرار الحرب أكثر من توفيره منبراً للمساعدة في إنهائها. وقد كان ذاك شأن منبر الإيغاد للسلام في الجنوب الذي تابعناه عن كثب، وظل خلال قرابة العشر سنوات أداة لصرف النظر عن الحرب أكثر من أي شيء آخر. ولم يتغير الأمر إلا بعد أن اتخذت إدارة الرئيس السابق جورج بوش الأصغر قرارها في عام 2001 (بالتوافق مع النرويج وبريطانيا) للضغط من أجل إنهاء الحرب.
وكنا قد دعونا في وقت سابق إلى انتهاج نهج ثوري في معالجة أزمة دارفور، يستلهم الثورات العربية ودروسها، ويستند على مبادئ الديمقراطية لحسم كل القضايا العالقة، بما في ذلك قضايا التمثيل، أعقد عقبات الحل في دارفور. لقد حاول منبر الدوحة التغلب على مسألة التمثيل وتشرذم الحركات بدعوة ممثلي المجتمع المدني ومن سموا ب "أصحاب المصلحة" حتى تتسع المشاركة. ولكن هذه الخطوة، حتى لو تجاوزنا عن مصداقية تمثيل من دعي لكل أهل الحل والعقد في دارفور، تصطدم بإشكالية أن قادة المجتمع المدني ليسوا هم من أشعل الحرب، ولا هم بالتالي بالقادرين على وقفها.
وعليه فلا بد من حل جذري ينطلق من التوافق على قرار بوقف العمليات المسلحة تماماً، وإجراء انتخابات في دارفور بإشراف دولي تأتي بممثلين عن كل طوائف الإقليم، ويتم عبر هؤلاء الممثلين ومعهم التفاوض على حسم القضايا السياسية العالقة هناك. ولنا لهذه القضية عودة إن شاء الله.

 

آراء