“دارفور “منقذون وناجون” السياسة والحرب على الإرهاب”، للدكتور محمود ممداني، أو السودان ولعنة الخريطة (2من 2)

 


 

 

عرض ونقاش: الوليد محمد الأمين

أما فيما خص العلاقة بين دارفور وتشاد فيرى المؤلف أن الجماعات التشادية المسلحة قد تورطت في كل الحروب الرئيسية في دارفور منذ أواسط الثمانينات، وأن حروب العرب والمساليت شملت أعدادا كبيرة من العرب التشاديين، وكذلك فقد ضمت حروب الجنجويد التي بدأت في العام 2001 مجموعات مسلحة من أصول تشادية على نطاق واسع في كلا الجانبين. وعندما هاجم المتمردون التشاديون العاصمة التشادية إنجمينا في العام 2006، حاربت قوات حركة العدل والمساواة السودانية إلى جانب الرئيس التشادي إدريس دبي. ولكن الحرب وحالات الاقتتال لم تكن وحدها ما حدد علاقة دارفور بتشاد وعلاقتها بغرب القارة على وجه العموم، ففي الستينات والسبعينات ذكر المؤلف أنه ونتيجة لموجات الجفاف فقد هرب آلاف من البقارة وبدو التبو من تشاد إلى دارفور، وبدأ الآلاف من سكان وداي في تشاد ينتقلون شرقا إلى النيل. ومن مظاهر ذلك التداخل أيضا أن الجبهة الوطنية لتحرير تشاد نشأت في نيالا في جنوب دارفور. وبعد ظهور العقيد القذافي في المشهد سرعان ما أصبحت دارفور قاعدة لتدريب المليشيات التشادية. لم تكن الهجرة على الدوام من تشاد إلى دارفور، بل كانت هناك هجرات في الاتجاه المعاكس أيضا، وفي ذلك يرى ممداني أن أول ما يجب إدراكه أن ذلك انعكاس تاريخي لاتجاه الحركة على الحدود بين التشاد ودارفور. نتيجة لذلك، ذكر المؤلف أن تعداد السكان في دارفور ارتفع من 1,33 مليون نسمة في تعداد 1956 إلى نحو 6,5 مليون في العام 2004، في معدل يفوق بالطبع أي معدل طبيعي للزيادة، ما يوحي بأن الهجرة من التشاد ربما تكون عاملا رئيسا في هذا التغيير بحسب المؤلف الذي أورد تقديرات تشير إلى أنه وبنهاية التسعينات كان ما لا يقل عن 10% من سكان تشاد يعيشون في دارفور. وخارج الكتاب، فقد قالت منظمة أطباء بلا حدود في أغسطس من العام 2023 إن نحو 350 ألف لاجئ سوداني عبروا الحدود إلى المعسكرات في تشاد، بينما قدّر وزير الداخلية التشادي العدد الكلي بمليون شخص. من الواضح أن دارفور وتشاد لطالما كانتا وطنا واحدا لساكنيها، وبحسب ما ذكر ممداني فقد كان من النادر أن يحتفظ المهاجرون بهوية تشادية، فمجيئهم من القريب ووجود أقارب لهم يجعل تغيير الهوية سهلا نسبيا، ويشمل ذلك تغيير الولاء وبالتالي الإنتماء القبلي، ما يُمكِّن هؤلاء المهاجرين من الالتحاق بالقوات شبه العسكرية مثل الدفاع الشعبي والقوات البدوية، ومن بعد ذلك الحصول على الجنسية السودانية. وفي بعض الأوقات قدّرت الشرطة السودانية عدد المهاجرين من التشاد إلى غرب السودان بما يفوق نصف المليون نسمة. بالمقابل وكما يورد الكتاب فإن قلة من المجموعات الدارفورية تنظر إلى وداي كأرض أجنبية، وكذلك يفعل أهل وداي الذين كانوا يرسلون طلابهم الواعدين إلى دارفور والخرطوم فالقاهرة للحصول على المزيد من التعليم.
واحدة من المغالطات الكبيرة في حرب الحركات المتمردة ضد حكومة المركزية في الخرطوم والتي تناولها المؤلف بتفاصيل دقيقة كانت في توصيف الحرب، أهي حرب ضد تمرد داخلي كما وصفتها الحكومة السودانية أم هي إبادة جماعية كما سعت لتوصيفها الحركات المتمردة وجماعة ائتلاف أنقذوا دارفور. الخلاصة بعد قراءة الكتاب أن ما حدث في دارفور لم يكن إبادة جماعية بأي صورة من الصور. بل إن ما حدث في سبيل تثبيت هذا الوصف كان تدليسا وتضليلا متعمدا من جماعات الضغط والمصالح، استغلوا فيه السمعة السيئة للنظام السوداني الحاكم وقتها، واستغلوا فيه الجهل العالمي بتعقيدات منطقة السهل والصحراء الافريقية والتقاطعات الجيوسياسية. يرى ممداني أن العنف في دارفور كان مدفوعا بمسألتين، واحدة محلية والأخرى وطنية، وفي رأيه أن النقمة المحلية تركزت على الأرض، وهي هنا ذات خلفية مزدوجة: الخلفية العميقة للإرث الاستعماري الذي قسّم دارفور بين القبائل بحيث أعطى بعضها أرضاً وحرم أخرى، أما الخلفية المباشرة فيرى ممداني أنها تمثلت في أربعة عقود من الجفاف والتصحر فاقمت الصراع بين القبائل التي تملك الأرض والتي لا تملكها، والتمرد هو الذي أوصل الحال إلى حرب أهلية (قبلية) متواصلة. فالحرب الأهلية في دارفور عند ممداني لم تتطور كصراع بين المزارعين ورعاة قطاع الماشية، وإنما كصراع بين المجموعات التي تتمتع بحقوق الدور وتلك التي ليس لديها تلك الحقوق، أو لديها حقوق منقوصة. وفي هذه النقطة بالتحديد، أي مسألة امتلاك الدور من عدمها كان هناك دور كبير لعبته الإدارة الاستعمارية البريطانية يمكن الرجوع إلى تفاصيله في الكتاب.
يدفع ممداني بقوة أن حرب دارفور لم تصل ابدا إلى مرحلة الإبادة الجماعية، ويفند بمنهجية علمية وصبر دؤوب الحجج التي ساقها إئتلاف أنقذوا دارفور ومن والاه لوصم الحرب بالإبادة. وهو هنا يبدأ بتعريف مصطلح الإبادة الجماعية بأنها ذبح شعب لآخر، أما ذبح فريق من الشعب نفسه فيمكن أن يكون جريمة ضد الإنسانية ولكنه ليس إبادة. ولكن اليمين المسيحي والمجموعات الصهيونية العلمانية على وجه التحديد، يشير ممداني، كانت ترى أن دارفور موقع هولوكوست معاصرة يؤدي فيها العرب دور النازيين المعاصرين، وتلك بحسبه أيضا هي إحدى الطرق التي أُدمِجت بها دارفور في الحرب المعاصرة على الإرهاب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك ترافق مع الهوس العالمي بالإرهاب الإسلامي، وفي المخيلة تفجير برجي التجارة في نيويورك، وارتفاع صيت تنظيم القاعدة وغير ذلك من الأعمال الإرهابية التي كان منفذوها أو مخططوها من العرب. هناك بالطبع خطل كبير في هذه الحبكة، من ذلك أن الجنجويد كما يرى ممداني "ظاهرة بدوية وليست عربية، تمتد عبر السهل بأكمله من دارفور إلى التشاد وإفريقيا الوسطى وما وراءها"، كما أن "عرب السودان هم في الواقع من أهل السودان مثل معظم مواطنيه"، كما أنهم "لا تاريخ موحد يجمعهم مع عرب دارفور"، والاقتباسات بين الأقواس الصغيرة كلها من خلاصات المؤلف في الكتاب.
في المجمل يرى ممداني أن الصراع في دارفور في جوهره هو صراع بين القبائل التي تملك دارا وتلك التي لا تمتلكها، ومن ذلك أن الصراع في محوره الجنوبي كان يدور بين قبائل عربية تملك الأرض وقبائل عربية أخرى لا تملكها. ولكن ناشطي دارفور، يقول ممداني، عملوا على طمس الصراع على طول محور الجنوب - جنوب وحصروا تعريف الصراع بما يجري في محور الشمال – الجنوب وبالتالي تصويره بأنه صراع عرقي بين العرب والسود.
لعب إئتلاف إنقاذ دارفور دورا محوريا في تهمة الإبادة الجماعية، فالائتلاف الذي نما ليصبح اتحادا لأكثر من 180 منظمة دينية ودعوية وإنسانية، تفاخر بشبكة من 130 مليون شخص ولائحة ناشطين ضمت نحو مليون مهتم وغير ذلك من القدرات. في يوليو 2004 أقر مجلس النواب والشيوخ في الولايات المتحدة بالإجماع قرارين يعلنان عن وقوع إبادة جماعية في دارفور استنادا على تقارير تفيد بأن نحو 400 ألفا قد توفوا في دارفور منذ بداية الصراع، فكانت المرة الأولى يشير ممداني، التي تتهم فيها حكومة حكومةً أخرى بارتكاب إبادة جماعية. ولكن منظمة الصحة العالمية أصدرت في الشهر التالي تقريرا قدّرت فيه الوفيات بين 45 ألفا و80 ألفا في غضون ستة أشهر، وكذلك فقد وضع روبرت زوليك نائب وزير الخارجية للشئون الإفريقية تقديرات وزارة الخارجية الأمريكية بين 60 ألفا و160 ألفا. وفي مسألة الأرقام هذه كان هناك تضليل كبير مورس من جهات متعددة استعرضه وفنّده مؤلف الكتاب بمنهجية علمية صارمة وذِكر للأرقام بتفاصيلها، ويمكن الرجوع إلى ذلك في الكتاب. صاحب حُمّى الأرقام المكذوبة هذه أن دعت السيناتورة هيلاري كلنتون إلى منطقة حظر جوي تفرض عسكريا على دارفور. لم يحدث ذلك بالطبع ولكن الحملات والضغوط تصاعدت حتى وصل الأمر في مارس 2005 أن أقرّ مجلس الأمن القرار رقم 1591 (شمل حظر السفر وحظر الأسلحة وتجميد الأصول)، الذي يرى ممداني أنه وضع دارفور عمليا تحت الوصاية الدولية وعادل إعلان السودان دولة فاشلة.
بالمقابل لم يوافق الاتحاد الأوروبي على وصف الإبادة الجماعية، إذ صوّت فقط ستة من أعضائه لصالح ذلك مقابل 566. وهو نفس الموقف الذي تبناه الاتحاد الافريقي عبر رئيسه وقتها أولوسغون أوباسانجو، الذي قال إن ما يحدث لا يمثل إبادة جماعية، بل يمثل صراعا وعنفا. ولكن أوباسانجو نفسه عاد واستخدم مصطلح الإبادة الجماعية بعد زمن من ذلك. أما الأمم المتحدة التي استجابت للضغط الأمريكي وشكلت لجنة دولية للتحقيق فقد خلصت لجنتها إلى أن "حكومة السودان لم تنتهج سياسة الإبادة الجماعية مباشرة أو عبر مليشيات تخضع لسيطرتها"، بل كان ذلك العنف " موجها عمدا ودون تمييز ضد المدنيين". وخلصت اللجنة إلى أن هذه الأفعال لا تساوي الإبادة الجماعية بالقول: “يبدو أن عامل النية الحاسم في الإبادة الجماعية غير موجود، ويبدو أن من خطط الهجمات على القرى ونفّذها كانت لديه نية إخراج المدنيين من بيوتهم، لأغراض مكافحة التمرد في المقام الأول". وفي ذات التقرير حمّلت اللجنة القوات المتمردة – جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة- مسئولية جرائم اعتبرتها ترقى لتعادل جرائم الحرب. ولكن الحركات المتمردة لم يتم إدانتها بوضوح، وعندما اقترحت روسيا توقيع عقوبات عليها اعترضت الولايات المتحدة وبريطانيا ودعتا بدلا من ذلك إلى فرض منطقة حظر جوي فوق دارفور لمنع طائرات الحكومة من التحليق هناك. ذلك على الرغم من أن الفظائع التي ارتكبتها الحركات في دارفور كانت فظيعة وشملت النهب والاغتصاب وغير ذلك، إلى حد أن أحد قادة الحركات، عبد الواحد محمد نور، ذكر أنه أصيب بصدمة عميقة مما وجد عند زيارته جبل مرة في أكتوبر 2005، وفي مثال آخر يذكر المؤلف أنه في مارس 2006 أخذ السكان المحليون يطلقون على فصيل مني أركو مناوي اسم الجنجويد.
من الواضح أن معاداة الإسلاميين في السودان للغرب وشعاراتهم المهدِدَة بالفناء والدمار للحضارة الغربية وغير ذلك من الأدبيات ارتدّت وبالا على السودان، وفي الحقيقة وكواحد من المواطنين العاديين في السودان، فإنها كانت وبالا على السودانيين العاديين بينما لم تؤثر كثيرا على الطبقة الحاكمة. ولكن ذلك كان يشير بطريقة أو بأخرى إلى ملامح النظام العالمي الجديد الذي كان قد بدأ في التشكل: لا مناص من الخضوع.
كان هناك بعض من تصدوا لهذه البروباغاندا في الأرقام ولكن التيار الجارف والقوة الكبيرة لائتلاف أنقذوا دارفور لم يترك لهم مجالا كبيرا للمناورة، من ذلك أن المبعوث الأمريكي إلى السودان أندرو ناتسيوس أكد أن معدلات الوفيات في المخيمات أدنى بكثير من مستويات الطوارئ، وأن معظم الذين يقتلون يسقطون من قبيلة عربية تقاتل قبيلة عربية أخرى. كما أنه قال بوضوح إنه "لا يمكن أن يستتب السلام إذا اعتقد الناس أن الأشرار كلهم عرب والأخيار كلهم من القبائل الإفريقية، الحال ليس كذلك". وأضاف أنه وبخلاف ذلك فإن دارفور يسودها السلام والتشاد هي قلب العنف في المنطقة: "فبعض أسوأ الفظائع ترتكب في التشاد الآن وليس في دارفور". ليس من المستغرب إذن أن يستقيل ناتسيوس من منصبه بعد ذلك بقليل.
خصّص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لمسألة الهوية في السودان، فتحت العنوان الرئيس: كتابة العرق في التاريخ، نقّب ممداني في واحدة من أكثر تعقيدات الأزمة السودانية - الهوية. فعل ممداني ذلك بصبر كبير بدأه من اسم السودان في التاريخ وتفسيراته التوراتية والحضارات القديمة، ومن بعد ذلك تفسيرات اللاحقة لدى مؤرخي النوبة والمهتمين بالدراسات النوبية وكذلك بعض الرحالة. وإن كان ممداني بعد تعمق واستعراض للعديد من المصادر والدراسات في هذا المجال يرى أن التاريخ التقليدي للسودان كُتب كتاريخ للهجرة جرى فيه انتقال أفراد مؤثرين ومجموعات موهوبة (العرب)، فهو يرى كذلك أن العلاقة بين الهجرة والتغيير الثقافي غير مباشرة، بل تتوسطها السلطة، وأن الهوية ليست مسألة خيار فحسب، بل مسألة اعتراف أيضاً. ونجده هنا يتفق مع البروفيسور يوسف فضل حسن في أنه لم يحدث قط غزو عربي ناجح للسودان، وأن التعريب هناك لم ينتشر كاتجاه خطي، بل إن التوجه العام في أرض النوبة والبجا لم يكن نحو التعريب، بل نحو إزالته، واستدل على ذلك من ضمن استدلالاته بأن الرحالة الفاطمي ابن سليم الأسواني لما زار المنطقة في العام 975م، وجد أن العرب المهاجرين مختلطون بالسكان المحليين إلى درجة أن بعضهم نسي اللغة العربية، وأدخلوا في الوقت نفسه كلمات عربية في اللغة البجاوية. يمكن بالطبع النظر إلى هذه المسألة كمسار طبيعي في التداخل بين السودانيين النهريين كما في وصف ممداني ، ويمكن بالطبع حتى يومنا هذا رد العديد من الكلمات في عربية السودانيين إلى اللغتين البجاوية والنوبية، خاصة المرتبطة منها بالزراعة، فكلمات مثل الكوريق والشادوف ، وكلمات أخرى مثل الكواريك والكديسة، بل وحتى أسماء بعض المدن مثل عطبرة وشندي تجد لها أصولا ذات سند قوي في اللغات البجاوية والنوبية، قد يتوافق ذلك بالطبع مع بعض الدراسات عن الأصل النوبي والبجاوي للمستعربين في السودان، وذلك بالطبع لا ينفي حدوث هجرات عربية إلى السودان، ولكنها على كل حال كانت محدودة في العدد، وما انتشر التعريب في السودان الشمالي إلا كنتيجة لغلبة الحضارة الإسلامية المرتبطة باللغة العربية في وقت من الأوقات تزامن مع انهيار ممالك السودان القديمة. وهذه الفرضية تتفق مع جاي سبولدنغ وآدمز اللذان يشددان على صيرورة التاريخ السوداني النوبي في غياب الدليل الحسي الذي يوحي بحدوث هجرات عربية جماعية إلى السودان، أو كما كتب سبولدنغ إن الأدلة المتعلقة بتأثير اختراق العرب جنوب دنقلا ضئيلة جدا.
يخلص ممداني من كل ذلك فيما خص الهجرات العربية إلى السودان إلى أنه ليس هناك تاريخ واحد للتعريب، وليس هناك تاريخ واحد للعرب في السودان، أي تاريخ واحد منسوج حول التجربة المشتركة للهجرة، فتواريخ الجماعات العربية تواريخ متعددة أدت فيها الهجرة دورا هامشيا في أحسن الأحوال. ويمكنني أن أضيف هنا أن خلاصته هذه وإن كانت عن السودان ككل، فإنها تعبر عن السودان النهري وريث حضارات النوبة والبجا بشكل أدق.
أما فيما خص دارفور فيرى ممداني أن تاريخ الهجرة فيها يشتمل على ثلاث مجموعات: العرب البدو، والفلاحين الأفارقة الغربيين، والعبيد من الجنوب. وسيلاحظ القارئ أن الهجرات الأكبر كانت من الأفارقة من غرب القارة لأسباب مختلفة، ولكن ذلك أدى في النهاية إلى أن تكون دارفور أكثر ارتباطا وانتماء إلى غرب القارة منها إلى شرقها في القرن الافريقي أو إلى شمالها، بل إنه يمكننا الملاحظة بوضوح انه لم تكن هناك صلات معروفة بين حضارات شمال السودان ومناطق دارفور، على الأقل لم يكن هناك تواصل حضاري يعتد به، بل إن المجموعات السكانية في المنطقتين تختلف تمام الاختلاف. كانت الرحلة الموسمية عبر دارفور إلى مكة في موسم الحج أوضح الأمثلة على هجرات قبائل غرب القارة إلى دارفور، فقد كان حجاج تلك المناطق يفضلون الطريق الأطول ولكن الأكثر أمنا من طريق الصحراء الليبية الأقصر. وبما أن معظم هؤلاء الحجاج كانوا فقراء للغاية فقد كان الكثيرون منهم بعد ذلك يفضلون البقاء في دارفور في طريق العودة، بل وبعضهم يبقى هاك عِوض الذهاب إلى مكة. وغير الحج كانت هناك هجرات أخرى من غرب القارة إلى دارفور فصّلها المؤلف وذكر أسبابها، وبحسب التقديرات فقد بلغت أعدادهم في غرب السودان نحو 250 ألف نسمة على الأقل في الخمسينات من القرن العشرين، وأكثر من مليون في أواسط السبعينات، حتى أنهم في بعض التقديرات مثّلوا 70% من سكان الإقليم. اعتمادا على هذا النمط من الهجرة والتداخل بين سكان دارفور وسكان غرب القارة يمكننا أن نتصور ما يمكن أن يكون عليه الحال في وقتنا المعاصر بالنظر إلى معدلات النمو السكاني المرتفعة في غرب القارة.
يرى ممداني أن واحدا من أهم أسباب النزاعات والحروب في دارفور هو الأزمة الايكولوجية. وهو يرى كذلك أن هذا السبب لم يجد حظه الكافي من الاهتمام والدراسة ومن بعده اقتراح حلول الأزمة باستصحابه كسبب رئيس. فبسبب التغير المناخي والسلوك البشري من الرعي الجائر والزراعة، تعرضت أراضي السهل الإفريقي للتصحر وتآكل التربة بدءً من أوائل السبعينات، ولكن الجفاف الأشد ضراوة وقع في الفترة من 1980 إلى 1984، وصحبه نزوح واسع الانتشار ومجاعة محلية. أذكر هنا أننا كنا أطفالا وقتها حين بدأ تلفزيون السودان بعرض صور المجاعة والنزوح في غرب السودان ونشطت برامج مثل نداء السودان وغيره لتوفير الإغاثة للنازحين. بدأت المجاعة قبل منتصف الثمانينات بقليل ولكن السودان لم يعترف بها إلا بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في العام 1985 بالانتفاضة الشعبية الثانية في تاريخ السودان.
وعودا إلى الأزمة الايكولوجية يشير ممداني إلى تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة في العام 2007، وعلى الرغم من أن الدراسة خاصة بالسودان، يقول ممداني، فأنها تنطبق بشكل مماثل على القسم السهلي من التشاد. وحسب الدراسة فقد فقدت دارفور ثلث الغطاء الحرجي بين عامي 1973 و2006، وتراجع مستوى هطول الأمطار المتحرك في عشر سنوات من 300 ملمتر سنويا إلى 200 ملمتر تقريبا، وهو انخفاض يكفي بحسب التقرير لتغيير البيئة الطبيعية بصرف النظر عن الأثر الإنساني، ونتيجة لذلك انتقل المناخ الصحراوي إلى الجنوب لنحو 100 كيلو مترا في 40 سنة. وهو بحسب التقرير نفسه تغير مناخي غير مسبوق تاريخيا ونتج عنه أن تحولت ملايين الهكتارات من أرض الرعي شبه الصحراوية إلى صحراء، وكان التأثير الرئيسي هو التحول المستمر للقسم الشمالي من الحزام السهلي إلى صحراء، ما أجبر المجتمعات الرعوية إلى الانتقال جنوبا بحثا من المراعي. مع ذلك تشير إحدى التقارير إلى أن أكثر من 60% من أسباب هذا الانهيار البيئي ترجع للنشاط الإنساني الذي قد يشمل فيما يشمل القطع الجائر، وإزالة الغابات، والزراعة المفرطة، والرعي الجائر، وأسباب متنوعة أخرى كالحرائق مثلا. ومن الأسباب التي تذكر هنا كذلك ما لجأت إليه الجماعات البدوية والجيش السوداني من إسقاط الأشجار على نطاق واسع، وقد ارتفع الفقد السنوي للأراضي الحرجية في دارفور ارتفاعا هندسيا نحو سبعة أضعاف في خمسين عاما، من 818 كلم مربع في العام 1956 إلى 5600 كلم مربع في العام 2006. ترافق مع ذلك ومع موجات النزوح ودخول منظمات الإغاثة أن أصبح مجتمع الإغاثة الدولي مستهلكا رئيسيا للطوب، لا سيما بناء جدران المجمعات بارتفاع مترين كما تتطلب المعايير الدولية، وبالنظر إلى الطريقة التي يُصنع بها الطوب في السودان يمكن تصور مدى تأثير ذلك على مصادر المياه في المنطقة وكذلك على إزالة الغابات.
مسألة العامل الايكولوجي وأهميته في الصراع والحروب في دارفور تناوله بإسهاب وتفصيل أكثر قبل ممداني المفكر السوداني الدكتور محمد سليمان محمد في كتابه "السودان حروب الموارد والهوية" الصادر في العام 1999.
من العوامل المهمة المعروفة في صراعات دارفور، والتي تناولها مؤلف الكتاب بإسهاب مسألة الدور التشادي، ويشير المؤلف إلى أنه بإزاء التعريب (والأسلمة) الذي انتهجته الحكومات السودانية فقد انتهجت الحكومات التشادية الأفرقة (والمسيحة)، ونتيجة لذلك مُنع السكان المسلمون في التشاد من دخول الجيش والعمل في الخدمة المدنية، واستبعدوا عموما من المشاركة في الدولة، ويمكننا من هنا أن نخمن – والتعبير للمداني- أن أكثر المسلمين حرمانا وكانوا في أسفل الدرك هم العرب البدو! يمكن للقارئ بالتالي تصور ما عنته دارفور لهؤلاء البدو المحرومين، وهو ما ظهر أثره أكثر وبوضوح كبير في حرب الخرطوم في أبريل من العام 2023، حيث كان البدو التشاديون جزءً مهما من تكوين قوات الجنجويد التي تطورت إلى قوات الدعم السريع وحاولت الاستيلاء على السلطة في السودان.
واحد من التطورات المهمة في المنطقة التي أثّرت على السهل الإفريقي ومن ضمنه دارفور وتشاد كان وصول العقيد القذافي إلى السلطة في ليبيا. قام القذافي الذي اعتمد المفهوم الجيوسياسي للدوائر المتمركزة الثلاث، العربية والإسلامية والافريقية، بحسب تعبير ممداني، قام بدعوة المعارضة التشادية لفتح أول قاعدة دائمة في ليبيا، وذلك بعد عدة أشهر من تسلمه السلطة في ليبيا، ثم أصبحت تشاد في قلب الحرب الباردة في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. بعدها هبت رياح كثيرة على المنطقة، كان من أبرزها تمكن المعارضة التشادية بزعامة حسين حبري المدعوم من السودان في عهد النميري من الإطاحة بالرئيس التشادي جوكوني عويضي. هناك الكثير من التفاصيل فيما خص التغيرات الجيوسياسية في المنطقة التي تناولها الكاتب بتفاصيل متعمقة يمكن الرجوع إليها في الكتاب، غير أن ما سنهتم بذكره هنا هو الاحصائيات التي تشير إلى أنه في عام 1973 استضاف غرب دارفور أكثر من 200 ألف لاجئ تشادي بسبب الحرب الأهلية والجفاف، وفي أكتوبر 1994 لجأ 94 ألفاً من التشاديين معظمهم من الزغاوة والتبو إلى مخيمات سودانية. ما أدى إلى الارتفاع الكبير في تعداد السكان في دارفور كما ذُكر سابقاً. ويشير ممداني إلى أن معظم اللاجئين التشاديين الذين عبروا الحدود إلى داخل دارفور كانوا خبراء في استعمال الأسلحة وعليه فلم يكن من المفاجئ لجوء العديد منهم إلى السرقة المسلحة للعيش، وهو ما عرف في أدبيات السياسة السودانية بالنهب المسلح.
من التأثيرات غير المنظورة ولكنها مهمة للتغيرات البيئية والايكولوجية ما نتج عن الانتقال الجماعي للمجموعات السكانية والمواشي إلى الحزام الزراعي، الذي هو أرض الفور وجماعات أخرى صغيرة. وعندما أصاب الجفاف شمال دارفور ووسطها هاجر السكان هناك إلى الجنوب حيث دور قبائل البقارة من الرزيقات والهبانية وبني هلبة، فأغلقت المستوطنات الجديدة طرق حيوانات البقارة وحرمتهم من بعض أراضي الرعي. وفي العقود الثلاثة التي أعقبت عام 1972 أُغلق ما مجموعه سبعة مراكز بيطرية فتحولت إلى أراض زراعية، وفي عام 1986 وحده نزح نحو 384 ألف نسمة من شمال دارفور إلى جنوبها. ترتب على ذلك حدوث بعض التغيرات التي لم يتم التركيز عليها كأسباب للصراع في دارفور، من ذلك مثلا أن الفلاحين الذين كانوا يسمحون للرعاة برعي ماشيتهم من بقايا المحاصيل، فضّلوا في وقت لاحق بيعها، فرد الرعاة بإطلاق حيواناتهم في المزارع. كما أدى توسع الأراضي الزراعية إلى إغلاق بعض طرق الهجرة، مثلما حدث عندما بنى بنو الهلبة في جنوب دارفور أسيجة واسعة للحماية، ما أطلق شرارة حرب قبلية بينهم وبين الأبّالة الرزيقات.
واحدة من المسائل المهمة التي انتبه إليها المؤلف وعرضها بطريقة محكمة هي بدايات تشكل التحالف العربي لبدو السهل الأفريقي وتشكل الجنجويد. يشير ممداني إلى انه وبتوجيه من الليبيين قسّم أحمد الباقلاني (والذي ترجع إليه - رفقة أحمد أصيل - القومية العربية المقاتلة في السياسة التشادية)، قسّم جيشه إلى ثلاث فئات، واحدة منها دخلت التشاد عبر دارفور في 1976، وهذه المجموعة هي التي وفّرت الصلة التاريخية بين أحمد أصيل والشيخ هلال أحمد عبد الله، زعيم المحاميد في السودان. وفي العام 1986، أصيب الشيخ هلال بعجز، فتسلم ابنه موسى الزعامة. سيكون للسيد موسى هلال دور كبير في السياسة السودانية بعد ذلك كما سيكتشف السودانيون النهريون الذين لم يكن أغلبهم، ومنهم كاتب هذا المقال يعلمون بهذه التقاطعات في دارفور، ولكنهم دفعوا ثمنا غاليا مقابل تسامحهم وتساهلهم، بل قل ثمن غفلتهم. سلّح الليبيون المحاميد أولا ثم بعد ذلك القبائل الأخرى في دارفور بمن في ذلك الرزيقات العرب والبدو غير العرب والزغاوة والبديات. وكنتيجة للتضييق على العرب التشاديين لجأ الفور إلى الإحراق الجماعي لحقول الرعي بغية إرغام العرب على الانتقال إلى مراع أخرى، فكان على العرب التشاديين القتال بضراوة، إذ كانت القوات التشادية العسكرية وشبه العسكرية تطاردهم في نفس الوقت، وكان الفور يمنعونهم من عبور جبل مرة. وتحت ظل هذه الظروف أصدروا نداء لتشكيل منظمة واسعة تدعى التجمع العربي. ووفقا لذلك فقد كان التجمع العربي مبادرة تشادية في دارفور، ظهرت أولا في بيانات قريش لمؤسسها أحمد أصيل الذي يشار إليه بأبي القومية العربية في تشاد. لن يكون من المستغرب بالطبع أن يتلقى التجمع العربي الأسلحة من عقيد ليبيا الذي كان يعجبه أن ينادى بأمين القومية العربية في وصف منسوب للزعيم القومي العربي وقتها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لقد كانت تلك فترة الطموحات الكبيرة والمشاريع الحالمة التي خرج منها السودان صفر اليدين بتبنيه لقضايا الآخرين.
يعتقد ممداني أن الجنجويد كظاهرة اجتماعية تعبر عن أزمة البداوة في الحزام السهلي، وبالمقارنة مع دارفور، فهو يرى أن أزمة البداوة أعمق في التشاد. وتشير بعض الدراسات إلى أن التشاديين المسلحين يشكلون نسبة كبيرة من الجنجويد. وعندما تحول الصراع في دارفور إلى حرب أهلية، برز الجنجويد في الواجهة كقوة عسكرية. والمصطلح نفسه، يقول ممداني، أنه ظهر في الستينات كوصف تحقيري لوصف المتشردين الفقراء من القبائل الرحل، وفي وقت لاحق استخدم المصطلح لوصف مليشيا البدو التي تسمى الفرسان. بالمقابل أنشأ الفور ما سموه " جيش دارفور الاتحادي". ولكن الاستعانة الحكومية الكبيرة بالجنجويد، يقول ممداني، كانت في الفترة من 1996 إلى 1999، ومن وقتها أصبحوا مركزا لاستراتيجية مكافحة التمرد، وأصبحوا أكثر تنظيما وتسليحا، على الرغم من أنهم عند بداية تشكلهم في أواخر الثمانينات كانت تلك المليشيا القبلية بحسب وصف ممداني، تتكون من مجموعتين رئيسيتين: أعضاء القبائل البدوية التي ليس لها دار، ومجموعات مختلفة من الخارجين على القانون واللصوص والمجرمين، الذين يقول ممداني أنه يقال عن بعضهم أفرج عنه من السجن من أجل القتال. ستتكرر مسألة الإفراج عن اللصوص والخارجين على القانون من السجون من قبل المليشيا مرة أخرى في العام 2023 في حرب الخرطوم، ولكن من سجون الخرطوم والمدن الكبيرة التي وصلتها الحرب هذه المرة.
ولكن الجنجويد الذين شعروا بأن الحكومة قد تخلت عنهم وتمت خيانتهم بعد اتفاقية أبوجا، يقول ممداني، أخذوا يتساءلون عن الحكمة من ربط مصيرهم بالحكومة، وشيئا فشيئا بدأ مسار جديد للأزمة في دارفور. تضخم هذا المسار كثيرا إلى أن انتهى إلى حرب الخرطوم الأخيرة بعد تغيرات عميقة وجذرية في المشهد السياسي والعسكري السوداني، وعلى الرغم من أن ذلك حدث بعد صدور الكتاب، فإنه شديد الارتباط بما استعرضه ممداني في كتابه.
تغيرات كثيرة وتحالفات متغيرة على الساحة الدولية أدت في النهاية إلى عسكرة دارفور، فأصبح الكلاشنكوف موجودا في كل مكان هناك. يقول المؤلف، مستشهدا بمقولة محلية: " الكلاشن يجلب المال، من دون الكلاشن تصبح تافها لا محالة". بعد نحو أكثر من أربعين عاما بقليل من ذلك، سيسمع النهريون بل عموم السودانيون ذات المقولة في قلب عاصمتهم من قائد قوات الدعم السريع- الجنجويد سابقا- الذي قال لهم "زول ما بكاتل ما عنده راي"!
أود أن أورد هنا النص البديع أو الملاحظة الحكيمة لممداني تعليقا على انتشار السلاح في دارفور: لقد أصبحت دارفور مغمورة بالسلاح مع أنها تفتقر إلى المياه.
للحروب بالوكالة تاريخ قديم في السودان، يرى المؤلف، وفي كل العالم بالطبع. في السودان كانت الحكومة الانجلو- مصرية تزود الكبابيش والزريقات بالسلاح والذخيرة لمقاتلة قوات علي دينار، وفي تاريخ دارفور الأقرب قام بذلك كل من الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان والليبي الأسبق معمر القذافي. أما في الحكومات الوطنية وفي عهد حكومة السيد الصادق المهدي في فترة الديمقراطية الثالثة في النصف الثاني من الثمانينات، فقد سلحت الحكومة التي كان وزير الدفاع فيها السيد برمة ناصر المنتمي لحزب الأمة ولقبيلة البقارة، سلّحت الحكومة البقارة بأسلحة أوتوماتيكية في مليشيا سميت بقوات المراحيل، كان الغرض منها التصدي لمقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان. وبعيد انقلاب الإسلاميين في السودان في العام 1989 دُمجت العديد من مليشيات المراحيل في قوات الدفاع الشعبي، المليشيا الرديفة التي أنشأها النظام الإسلامي الذي أوضح عرابه وقتها الدكتور حسن الترابي صراحة، كما يقول ممداني، إن أيديولوجيا قوات الدفاع الشعبي هي الحلول محل الجيش المحترف، لأن من المستحيل أسلمة الجيش السوداني مادام بقيادة ضباط محترفين علمانيين. من الواضح ان السودان لم ينته إلى ما انتهى إليه من هيِّن! (العبارة الأخيرة لكاتب المقال وليست لممداني).
في حديثه عن الصراع في دارفور يرجع ممداني تحوله إلى حرب أهلية بين العرب والفور إلى أواسط الثمانينات، عندما اجتمعت كل القبائل العربية للمرة الأولى تحت راية واحدة سمتها "التجمع العربي". على الجانب الآخر، عدّ الفور ذلك استهدافا عنصريا واستخدموا لفظ الإبادة الجماعية والإبادة التامة ضدهم من العرب للمرة الأولى في المؤتمر الذي عقدته الحكومة في مايو 1989. بالمقابل وفي ذات المؤتمر قال ممثل القبائل العربية إن شعار دارفور للفور استخدم لطردهم من دارفور باعتبارهم غرباء في سعي الفور لتوسيع ما يدعى بالحزام الزنجي.
يرى ممداني أن الحكومة قامت في التسعينات بعدة محاولات لمعالجة شكاوى القبائل العربية التي ليس لها دور في دارفور، والمهاجرين من التشاد، باستحداث دور لهم من الأراضي التي كانت القبائل المستقرة تعتبرها إرثا تقليديا لها. وأصدر حاكم غرب دارفور مرسوما قسم الدور التقليدية للمساليت إلى 13 إمارة، تسع منها خصصت لمجموعات عربية ليس لها دور لإنشاء إمارات عربية، وكانت هذه المسألة بحسب ممداني خلفية الصراعات التي استعرت بين المساليت والقبائل العربية في أواخر التسعينات. ولكن المحاولات الأكثر ثورية كانت هي ما قام به الرئيس الأسبق جعفر نميري قبل ذلك في السبعينات وما بعدها، ولكن ما أضعفها كان الطبيعة الدكتاتورية للنظام الحاكم، وفي ذلك يقول ممداني إن من حمّلوا إصلاحات النميري المسئولية عن تنامي الصراع الإثني ليسوا مخطئين تماما، غير أن خطأهم كان ارجاع هذه النتيجة إلى إدخال الإصلاح بدلا من الفشل في المحافظة عليه.
في تحليله لمشاكل السودان ككل، يرى ممداني إن مشكلة السودان تتعلق بالسلطة السياسية، لا بالتنوع الثقافي. وهو هنا يتفق هنا مع منصور خالد الذي كتب في العام 1987: " لذا فإن جيش تحرير شعب السودان لا يتحدى العروبة كهوية ثقافية، بل كتفوق سياسي قائم على الوراثة العرقية، كما أن التعدد الإثني الذي يدعوا إليه الجيش الشعبي لا يعدو عن كونه احتراما للخصوصيات الثقافية بدلا من إدامة الإثنية كمصدر للشقاق". وفي ذات الإطار يرى ممداني أن قرنق (الذي يشير إليه بأنه مات قبل الأوان)، ميّز بين العروبة كمشروع سياسي والعروبة كثقافة عربية، حيث أنه، أي قرنق، قال: "إننا نتاج تطور ثقافي. يحب أن تكون العربية اللغة القومية في السودان الجديد، لذا علينا تعلمها. لا يمكن القول إن العربية لغة العرب. لا، إنها لغة السودان. الانكليزية هي لغة الأمريكيين، لكن البلد أمريكا، لا إنجلترا...". ولكن كل ذلك انتهى بمقتل قرنق أو وفاته الغامضة، واختار الجنوبيون الانفصال وتكوين دولتهم المستقلة بعيدا عن ميكانيزميات الصراع الثقافي في السودان الكبير. لم تشهد الساحة الدارفورية نقاشا على هذا المستوى فيما خص الهوية والتقاطعات مع السودان النهري والنهريين، فقد كان خطاب المظلومية هو الخطاب الأسهل للحصول على المكاسب وللتجييش وبعد ذلك لمخاطبة المجتمع الدولي.
تعرض ممداني في الكتاب لما عرف بالكتاب الأسود، ووصفه بأنه كان مليئا بالمعلومات التي تصف القاعدة الضيقة جدا التي استُمِدت منها الطبقة الحاكمة للسودان، ابتداء من الحكومة الأولى بعد الاستقلال. يرى ممداني أن الكتاب الأسود شق الجبهة القومية الإسلامية إلى مجموعتين مستقطبتين اثنياً: قريش كرمز للقبائل العربية، والكتاب الأسود كرمز للقبائل غير العربية التي دُعيت إفريقية على نحو متعمد. وهذه بالطبع رؤية لا تخلو من الحصافة والتعمق في فهم جذور الصراع، غير أنني أعتقد أن التقليل من الأثر الثقافي لجذور الصراع في السودان وإعلاء الشق السلطوي السياسي ينطوي على الكثير من المخاطرة، واعتمادا على هذا التصور سعت الحكومات الوطنية المختلفة إلى استيعاب قادة حركات التمرد على الدولة ضمن النادي السياسي الحاكم بتوزيع المناصب الوزارية والسيادية، وهي سياسة لم تنتج غير المزيد من الاستنزاف والابتزاز من قبل هذه الحركات ومن قبل من كانت تمثلهم ثم رأوا أنها تنكرت لهم، فساروا في نفس المسار بالتمرد على الدولة للحصول على الغنائم في السلطة السياسية. وليس بعيدا عن ذلك يمكننا النظر إلى الصراع الثقافي في السودان كصراع وجودي يعبر في بعض أوجهه عن ثقافات استئصالية غير متقبلة للآخر، بالطبع يمكن النظر إلى ذلك كوجه من أوجه فشل دولة ما بعد الاستعمار في السودان، وواحد من أسباب ذلك هو هروب الدولة ونخبتها عن مواجهة المسكوت عنه من العنصرية المتبادلة والتاريخ المزيف. يجادل البعض هنا بأن السودان ليس نسيج وحده في التنوع الإثني وأن هذا التنوع يمكن تطويعه ليكون مصدر قوة، وهذا صحيح، ولكن بالمقابل وبما أننا فشلنا في ذلك فإن الصراع الثقافي سيظل يتمظهر في صور مختلفة ليس أقلها الصراع العسكري، وفي هذا الإطار يقول أبكر آدم إسماعيل: "ومن الآن فصاعدا فإننا عندما نتحدث عن جدلية المركز والهامش نعني هذا المستوى، أي الصراعات بين الثقافات المتعددة"، بل إن أبكر يعتبر أن استيعاب بعض الزعماء وبعض الأفراد المتفوقين في الهامش وإشراكهم في بعض المواقع في المركز وتسليط الضوء عليهم هو محاولة لإعطاء انطباع مزيف عن المشاركة، وعدّ ذلك من أساليب المركز في التسلط على الهامش فيما سماه بميكانزم الترميز التضليلي. ويمكنني أن أضيف إلى ذلك هنا أن الفرصة ليست متاحة دائما، ففرصة بناء دولة المواطنة التي توفرت للسودانيين غير مرة في تاريخهم المعاصر، ربما لم تعد متاحة الآن، مما يجعل من الانفصال الثقافي مقدمة حتمية للانفصال الجغرافي، ولا ينبغي النظر هنا للانفصال الجغرافي وكأنه خطيئة أو سبة، فربما كان ذلك تصحيحا لخريطة رافقتها اللعنة من يومها الأول وفرصة لشعوب لا رابط بينها للنماء والتطور بعيدا عمن نسبت إليه أسباب تأخرها على الدوام.
يقول ممداني إن السودانية والافريقية وجدا تعبيرا في شمال السودان في الستينات كمصطلحي انتقاد مختلفين للعروبة في العالم الفني والأدبي، ومن بعدهما جاء مصطلح السودانوية، كذلك أشار ممداني إلى مدرسة الغابة والصحراء وإلى العودة الى سنار، القصيدة التي قال إنها وصفت اللحظة الملحمية، صعود سنار. بالنسبة لي يشير ذلك من ضمن ما يشير إلى التدافع الثقافي في المركز ذا الثقافة الشمالية ومحاولته اجتراح صيغ مختلفة للتعبير عن التنوع السوداني واستيعابه، وعلى الرغم من أن ممداني اعتبر أن تياري السودانية والإفريقية مهدا للتيارات السياسية اللاحقة، فإننا نرى الآن أن ذلك في النهاية لم ينتج عنه تيارات سياسية تملك تصورا لإدارة التنوع في الدولة السودانية، مما يجعل من انتظار أن يحدث ذلك الآن بعد كل الصراعات والحروب، ومياه الاستقطاب الإثني والعرقي، بل والدماء، التي جرت تحت الجسر ضربا من الأمنيات الحالمة.
لقد كتب ممداني كتابه وأصدره في العام 2009 كما تقدم، وكان ذلك بالطبع قبل انفصال جنوب السودان في 2011، وقبل ثورة ديسمبر 2018 التي انتهت بانهيار نظام الرئيس عمر البشير في السودان، وقبل حرب الخرطوم في أبريل 2023 من قبل قوات الدعم السريع التي كانت نواتها قوات الجنجويد. إن ما بعد حرب 15 أبريل في السودان لن يكون كما قبله بأي حال من الأحوال. وفيما خص الكتاب الذي بأيدينا فبالإضافة إلى إحاطته المبهرة بتفاصيل الأزمة في دارفور، فإنه يوفر فهما أفضل لتفسير حرب الخرطوم، ويوفر كذلك إطارا معرفيا أشمل للمهتمين حين الكتابة والحديث عن مسائل مثل الفدرالية في السودان أو حتى استقلال بعض الأقاليم السودانية وخروجها عن خريطة الانجليز.
الكتاب حافل بالتفاصيل وبالرؤى التي يصعب تناول بعضها دون الإخلال بالفكرة العامة، مما يصعب من مهمة تلخيص وعرض الكتاب، ولكن هذا الكتاب في النهاية لا غنى عنه لمن يريد فهم تعقيدات المسألة الدارفورية وتقاطعاتها وتأثيراتها على السودان ككل. إن التعمق في الإحاطة بالمسألة السودانية الذي بذله الكاتب يبدو جليا عبر صفحات الكتاب، ستصادف القارئ شعارات وتعبيرات لن يعرفها غير السودانيين، ولكن ممداني تعرف عليها واستعرضها بما يليق بها من الاستشهاد، من ذلك شعار لا زعامة للقدامى الذي ساد في الساحة السياسية لفترة من الزمن ولا تزال أصداؤه تتردد مرةً مرة، ومن ذلك شرحه لاشتهار اسم القيادي الإسلامي في حكومة الإنقاذ الطيب إبراهيم بالطيب سيخة، ومن ذلك ملاحظته اللمّاحة عند المقارنة بين قرنق والترابي في كون أن ما قالاه كان أكثر تأثيرا مما فعلاه، وعلى الرغم من أن المؤلف يستدل على ذلك من نشوء حركتي تمرد في دارفور إحداهما تستلهم العلمانية الإفريقية لجون قرنق (جيش تحرير السودان) والأخرى تستلهم الإسلامية الافريقية للترابي (حركة العدل والمساواة) فإن ما انتهت إليه الحركتان قد يطعن في هذه الملاحظة. إلا أن ملاحظته في التشابه بين قرنق والترابي لجديرة بالتأمل.
أود أن أختم هذا العرض للكتاب باقتباس منه، فعلى الرغم من المقولة الشائعة بأن التاريخ قد لا يعيد نفسه ولكنه يتشابه كثيرا، إلا أنه بدا لي أن ذلك يحدث في السودان بطريقة سمجة جرّاء عدم تعلمنا من الدروس. يذكر ممداني في معرض حديثه عن سقوط نظام النميري، الذي سقط في العام 1985، ولك أن تقارن ذلك بما حدث بعد سقوط الإنقاذ في 2019 وتجربة تجمع المهنيين وما تلاها، ما يلي: "وكما كان الحال مع نظام عبود في عام 1964، تمت تعبئة أفراد القطاع الحديث بنجاح لإسقاط الدكتاتورية، لكنهم عجزوا عن تشكيل حكومة وطنية تقدم للبلاد صيغ حكم للفترة التالية. وفشلت الاحتجاجات الشعبية ثانية في بلورة إصلاحات شعبية". انتهى!

wmelamin@hotmail.com

 

آراء