داعش ليس تنظيماً إرهابياً
داعش ليس تنظيماً إرهابياً: لماذا لن تستطيع أجهزة مكافحة الإرهاب الأمريكية إيقاف التهديدات الجهادية المتطرفة؟
بقلم: أودري كورث كرونين
ترجمة: غانم سليمان غانمg_ghanim@hotmail.com
نقلاُ عن مجلة فورن أفيرز:
بعد أحداث 11 سبتمبر، أعرب العديد من المهتمين والمشتغلين في أجهزة الأمن القومي الأمريكية عن مخاوفهم من أن الحكومة الأمريكية، عقب عقود من التحضير لمواجهة الأعداء التقليديين، غير جاهزة الآن لمواجهة التحدي الذى فرضه أعداء غير تقليديين مثل تنظيم القاعدة. ولذلك قامت الولايات المتحدة، خلال العقد المنصرم، ببناء مؤسسات وأجهزة بيروقراطية متطورة لمحاربة التنظيمات الجهادية من خلال القيام بتعبئة قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية ووكالات تطبيق وتنفيذ القانون للقيام بمهام مكافحة الإرهاب والتمرد والعصيان.
الآن، وعلى أية حال، هناك جماعة جديدة: "الدولة الاسلامية فى العراق والشام" (داعش)، والتى أسمت نفسها كذلك "الدولة الاسلامية" قد حلت محل "تنظيم القاعدة" باعتبارها تهديد جهادي عظيم الخطورة. إن أيدولوجية (عقيدة) وشعارات وأهداف تنظيم داعش طويلة الأجل مشابهه لتلك المرتبطة بالقاعدة وقد اتحد التنظيمان من ذى قبل بشكل رسمي. ولذلك يفترض العديد من المراقبين أن التحدي الحالي الذي يواجه الحكومة الأمريكية يتمثل بكل بساطة في إعادة توجيه مهام أجهزتها الضاربة القوة والمرتبطة بمكافحة الإرهاب لهدف جديد. لكن تنظيم داعش ليس تنظيم القاعدة وليس فرعاً أو جزءاً من التنظيم الاسلامي الجهادي القديم ولا يمثل مرحلة من مراحل تطوره. وبالرغم من أن تنظيم القاعدة يظل يشكل تهديداً خطيراً – خاصة خلاياه الموجودة في شمال أفريقيا واليمن فإن تنظيم داعش يعتبر وريثها الجهادي، ويمثل تنظيم داعش التهديد الجهادي في مرحلة ما بعد تنظيم القاعدة.
أوضح الرئيس الأمريكي بارك أوباما، في كلمة تم بثها تلفزيونياً على المستوى القومي في سبتمبر الماضي، خطته لـ" إنهاك وتدمير" تنظيم داعش ورسم خطاً فاصلاً بين تنظيم داعش وتنظيم القاعدة وأدعي بأن تنظيم داعش، بكل صراحة وبساطة، ما هو إلا "تنظيم ارهابي". وهذا خطأ لأن هذا الوصف غير مناسب لتنظيم داعش، وبالطبع، ورغم أن تنظيم داعش يستخدم الإرهاب باعتباره تكتيكياً جهادياً فهو في واقع الأمر ليس تنظيماً إرهابياً على الإطلاق. إن الشبكات الإرهابية، مثل تنظيم القاعدة، تضم في عضويتها بشكل عام عشرات أو مئات الأعضاء فقط وتهاجم المدنيين و لا تستطيع إحتلال أو الاستيلاء على الأراضي كما لا تستطيع مواجهة القوات العسكرية بشكل مباشر. في الجانب الآخر، فإن تنظيم داعش يضم في عضويته حوالي 30,000 محارب ويحتل أراضي فى كل من العراق وسوريا ويمتلك قدرات وإمكانيات عسكرية كبيرة ويسيطر على خطوط الإتصالات ويدير شبكات البنية التحتية ويمول نفسه بنفسه ويدخل في عمليات عسكرية معقدة. وإذا كان تنظيم داعش بكل صراحة وبساطة لا يمثل شيئاً فإنه دولة شبه مكتملة يقودها جيش تقليدي. وهذا هو السبب في أن استراتيجيات مكافحة الإرهاب والتمرد والعصيان التى أسهمت بشكل كبير في تقليص تهديدات تنظيم القاعدة لم تفلح في العمل على إحتواء تهديدات تنظيم داعش.
كانت الولايات المتحدة بطيئة في تنفيذ سياساتها فى العراق وسوريا لمواجهة طبيعة التهديد الحقيقي من تنظيم داعش. في سوريا، فإن سياسات مكافحة الإرهاب أعطت الأولوية لقصف خلايا تنظيم القاعدة كما أعطت الفرصة لتنظيم داعش في التمدد وزودت نظام الأسد بفرصة سحق ثوار سوريا المعتدلين المتحالفين مع الولايات المتحدة. في العراق، استمرت الحكومة الأمريكية فى الإعتماد على شكل أو آخر من أشكال مكافحة التمرد والعصيان وذلك بالاعتماد على الحكومة المركزية في بغداد لاسترداد شرعيتها المفقودة وتوحيد البلاد وتكوين قوات محلية لهزيمة داعش. لقد تم إعداد هذه السياسات والإجراءات لاحتواء تهديد جديد ومختلف وقد تم تبنيها حسب الظروف والأحداث. ما هو مطلوب الآن هو إستراتيجية "الإحتواء الهجومي" ، وهي مزيج من العمل العسكري التكتيكي المحدود وعمل ونشاط دبلوماسي واسع وعريض لإيقاف توسع داعش وعزل التنظيم وإنهاك قدراته.
الإختلاف بين القاعدة وداعش
إن طبيعة الإختلاف بين تنظيم القاعدة وتنظيم داعش متجذرة بشكل كبير فى تاريخ كل منهما. جاء تنظيم القاعدة إلى الوجود بعد إحتلال الإتحاد السوفياتي لأفغانستان فى عام 1979م، وتشكلت المرئيات والأفكار الإستراتيجية لقادة تنظيم القاعدة خلال حرب العشرة سنوات التى إحتل فيها الإتحاد السوفياتي أفغانستان وعندما قام الآلاف من المجاهدين المسلمين بما في ذلك أسامة بن لادن بدخول افغانستان للجهاد. عندما توحد التنظيم اتخذ شكل شبكة عالمية وركز على القيام بتنفيذ هجمات كبيرة ضد أهداف في بلدان غربية أو أهداف في بلدان متحالفة مع الدول الغربية بهدف تعبئة وحشد المسلمين للانضمام لجبهة عالمية لمواجهة القوي العلمانية في الدول القريبة والبعيدة.
وجاء تنظيم داعش إلى الوجود بسبب الإحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003م و كان واحداً من مجموعة من التنظيمات السنية المتطرفة التى كانت تحارب القوات الأمريكية وتهاجم المواطنين الشيعة في محاولة لخلق حرب أهلية طائفية. وكان يسمي تنظيم القاعدة فى العراق وكان قائده وزعيمه أبو مصعب الزرقاوي قد بايع زعيم القاعدة أسامة بن لادن. وتم قتل أبو مصعب الزرقاوي فى أحدى هجمات الطائرات الأمريكية في عام 2006م وبعد ذلك كاد تنظيم داعش أن يتلاشى عندما قررت القبائل السنية العراقية الإشتراك مع القوات الأمريكية فى مواجهة المجموعات الجهادية. وكانت تلك الهزيمة مؤقتة، وقام تنظيم داعش بتجديد دمائه من داخل السجون التى تديرها القوات الأمريكية في العراق عندما قام المتمردون والعملاء والخلايا الإرهابية بالتواصل وتكوين شبكات جهادية – حيث قام الزعيم الحالي للتنظيم المدعي الخلافة أبو بكر البغدادي بتعيين نفسه زعيماً للتنظيم.
في عام 2011م، وعندما توسع نطاق الثورة ضد نظام الأسد وتحولت الثورة الى حرب أهلية شاملة استفاد تنظيم داعش من تلك الفوضى وقام باحتلال منطقة في شمال شرق سوريا وقام بتأسيس قاعدة عمليات وأعاد تسمية نفسه بدولة الاسلام فى العراق والشام (داعش). في العراق، استمر التنظيم فى الإستفادة من ضعف الحكومة المركزية والإستفادة من المواجهات الطائفية التى زادات وتيرتها بعد إنسحاب القوات الأمريكية. بذهاب الأمريكان اتبع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي سياسة متصلبة تحابي الشيعة وقام كذلك بتهميش العرب السنة في عموم البلاد. ويضم تنظيم داعش فى صفوفه الآن زعماء قبليين عرب عراقيين سنيين وثوار سابقين مناهضين للولايات المتحدة الأمريكية وضباط عراقيين علمانيين سابقين يسعون لإستعادة السلطة والأمن الذى تمتعوا به خلال حقبة حكم الرئيس صدام حسين.
كان توسع التنظيم فى احتلال الأراضي فى العراق صدمة كبيرة. فعندما قام تنظيم داعش باحتلال الفلوجة والرمادي في يناير 2014م توقع معظم المحللين السياسيين أن القوات الأمنية العراقية المدربة بواسطة القوات الأمريكية ستقوم بإحتواء تهديدات تنظيم داعش ولكن بحلول يونيو من نفس العام ووسط مزاعم كبيرة من الجيش العراقي بإبادة داعش توجه تنظيم داعش لبغداد محتلاً الموصل وتكريت والقائم ومجموعة من المدن العراقية. وبنهاية الشهر، قام تنظيم داعش باعادة تسمية نفسه بالدولة الاسلامية وأعلن المنطقة التى تحت سيطرته باعتبارها دولة الخلافة الجديدة. وفي نفس الوقت، وبحسب معلومات المخابرات الأمريكية جاء حوالي 15,000 مجند أجنبي من 80 دولة للمنطقة للإنضمام لتنظيم داعش بمعدل ألف (1,000) مجند شهرياً. وبالرغم من أن معظم هؤلاء المقاتلين جاءوا من بلدان اسلامية مثل تونس والسعودية فقد جاء البعض منهم من استراليا والصين وروسيا ودول أوروبا الغربية. وقد استطاع تنظيم داعش استقطاب بعض المراهقين الأمريكيين – بنين وبنات، على حد سواء – من الطبقة الوسطى العادية من دينفر ومينابولس وضواحي شيكاغو.
بنمو تنظيم داعش أصبحت أهدافه ونواياه أكثر وضوحاً. لقد أعتبر تنظيم القاعدة نفسه طليعة الثورة العالمية بتعبئة وحشد المجتمعات الإسلامية ضد الحكم العلماني. بالمقابل يسعي تنظيم داعش إلى السيطرة على المناطق وإنشاء دولة اسلامية خالصة تحكمها التفسيرات البربرية للشريعة لأجل القيام فوراً بتذويب الحدود السياسية لدول الشرق الأوسط التى خلقتها القوي الغربية في القرن العشرين وفرض نفسها باعتبارها السلطة السياسية والدينية والعسكرية الوحيدة المهيمنة على جميع العالم الإسلامي.
ليسوا هم المتهمون العاديين!
نظراً لأن استراتيجيات وأهداف تنظيم داعش تختلف تماماً عن استراتيجيات وأهداف تنظيم القاعدة فإن التنظيمان يعملان بشكل مختلف ولذلك فإن استراتيجيات مكافحة الإرهاب المفصلة لمحاربة تنظيم القاعدة لا تناسب الاستراتيجيات المعدة لمحاربة تنظيم داعش .
في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء بنية تحتية من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وأجهزة تنفيذ وتطبيق القانون وتشكيلات وهيئات عسكرية بلغت تكلفتها تريليون دولار أمريكي بهدف محاربة القاعدة وخلاياها. وطبقاً لتحقيق تم إجراؤه فى عام 2010م بواسطة الواشنطن بوست تم إنشاء أو إعادة تنظيم حوالى 263 هيئة حكومية كرد فعل لهجمات 11 سبتمبر بما في ذلك إدارة الأمن القومي والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب و إدارة أمن المواصلات. وتقوم وكالات الاستخبارات الأمريكية كل عام باعداد 50,000 تقرير عن الإرهاب. كما تقوم 51 منظمة اتحادية أمريكية وهيئة عسكرية بمتابعة تدفق الأموال على نطاق الشبكات الإرهابية. ساعدت هذه البنية التحتية من الأجهزة على تجنب وتفادي الهجمات الارهابية فى الأرض الأمريكية. وبهذا الإجراء، فقد نجحت هذه البنية التحتية في هذا الخصوص ولكنها ليست مناسبة للتعامل مع تنظيم داعش الذى يمثل تحدياً من نوع مختلف.
يجب الأخذ في الإعتبار أولاً الحملات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية الكبيرة للقبض على أو لقتل قيادات تنظيم القاعدة من خلال هجمات الطائرات بدون طيار أو من خلال مطارادات القوات الخاصة. لقد تم قتل 75% من قيادات تنظيم القاعدة بمطاردات القوات الخاصة وهجمات الطائرات بدون طيار وهي تقنية كانت مناسبة جداً لأداء المهام المرتبطة بأهداف مختبئة فى مناطق ريفية حيث تكون مخاطرة قتل المدنيين عشوائياً متدنية جداً. وهذه التكتيكات، على أية حال، قد تكون غير مجدية فى محاربة تنظيم داعش حيث يتواجد قادة ومجندي التنظيم في خلايا فى المناطق الحضرية منصهرة تماماً فى تجمعات سكانية مدنية وعادة ما تكون محاطة بمباني تجعل تنفيذ هجمات الطائرات بدون طيار ومطارادات القوات الخاصة أكثر صعوبة. وبكل بساطة، فإن قتل قادة تنظيم داعش لن يعيق التنظيم فهم يديرون دولة شبه مكتملة بتركيبة إدارية معقدة. ففي قمة القيادة العسكرية توجد الأمارة التى تشمل البغدادي ونائبين له وكلاهما عمل سابقاً ضابطأ نظامياً خلال فترة حكم الرئيس العراقي صدام حسين، وهما: أبو على الأنباري الذي يدير عمليات داعش في سوريا و أبو مسلم التركماني الذي يدير عمليات داعش فى العراق. ويشرف على دولاب الإدارة المدنية البيروقراطية في تنظيم داعش اثنا عشر (12) إدارياً يديرون المناطق في العراق وسوريا ويشرفون على المجالس التى تقوم بالتصدي لمختلف الشئون المالية والإعلامية والدينية. وبالرغم من أن الدولة الاسلامية فى العراق والشام لا تمثل الدولة الإسلامية النموذجية المروج عنها فى شرائط الفيديوهات الإعلامية لتنظيم داعش فإن هذه الدولة شبه المكتملة ستستمر بكل سهولة بدون البغدادي أو مساعديه المقربين.
وتمثل الدولة الاسلامية في الشام والعراق (داعش) تهديداً خطيراً لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب الأمريكية التى تستهدف عمليات تمويل وإعلام ودعاية وتجنيد الجهاديين. كان تجفيف تمويل تنظيم القاعدة أحد أهم انجازات أجهزة ووكالات مكافحة الإرهاب الأمريكية. عقب هجمات 11 سبتمبر بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات الأمريكية بالتنسيق معاً فيما يتصل بالاستخبارات المالية وبعد فترة قصيرة انضمت لهما وزارة الدفاع. قام عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي المزروعين في الوحدات العسكرية الأمريكية خلال الحملة على العراق في عام 2003م باستخلاص المعلومات من الإرهابيين المشتبه فيهم والمحتجزين بسجن غونتانامو الأمريكي في كوبا. في عام 2004م، قامت وزارة الخزانة الأمريكية بإنشاء مكتب استخبارات الإرهاب وتمويل الإرهاب الذى أثر بشكل كبير على مقدرة تنظيم القاعدة على الاستفادة من عمليات غسل الأمول وتلقي الأموال تحت ستار الأعمال الخيرية. وتم إنشاء شبكة عالمية لمكافحة عمليات تمويل الإرهاب مدعومة بواسطة الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي ومئات الحكومات المتعاونة. وكانت نتيجة ذلك تجفيف تام لتمويل تنظيم القاعدة، وبحلول عام 2011م أوردت تقارير وزارة الخزانة بأن تنظيم القاعدة كان "يسعى لتأمين تمويل مستمر لأجل تخطيط وتنفيذ الهجمات الإرهابية".
لكن هذه الوسائل والأساليب لن تسهم بشكل كبير فى الحرب ضد تنظيم داعش لأنه لا يحتاج إلى تمويل خارجي نظراً لأن السيطرة على بعض المناطق سمحت لتنظيم داعش بتحقيق نموذج مالي من التمويل الذاتي لم يخطر على بال معظم المجموعات الإرهابية. وإعتباراً من عام 2012م بدأ تنظيم داعش تدريجياً في السيطرة على بعض أصول ومرافق النفط في شرق سوريا وهو الآن يسيطر على ما يقارب 60 في المائة من الطاقة الإنتاجية لمرافق النفط السوري. وفي ذات الوقت وخلال اندفاعه وتوغله فى الأراضي العراقية في الصيف الماضي قام تنظيم داعش كذلك بالاستيلاء على سبع مرافق لانتاج النفط فى العراق. واستطاع التنظيم بيع بعضاً من هذا النفط في السوق الأسود فى العراق وسوريا - بما في ذلك طبقاً لبعض التقارير - لنظام الأسد نفسه. ويقوم تنظيم داعش بتهريب النفط من العراق و سوريا للأردن وتركيا حيث يجد العديد من المشترين الفرصة بالشراء بأقل من الأسعار السائدة في سوق للنفط الخام. ويعرف الجميع أن ايرادات تنظيم داعش من النفط تقدر بما يتراوح مليون وثلاثة ملايين دولار يومياً.
ولا يتعتبر النفط المورد الوحيد فى المحفظة المالية لتنظيم داعش. ففي شهر يونيو الماضي عندما قام تنظيم داعش بالسيطرة على مدينة الموصل في شمال العراق قام بسلب ونهب فرع البنك المركزي وأفرع البنوك الأخرى فى المحافظة، كما سلب ونهب المقتنيات والآثار من المتاحف لبيعها في السوق السوداء. ويقوم تنظيم داعش بسلب ونهب المجوهرات والسيارات والآليات والماشية من السكان الذين يحتل أراضيهم. كما يقوم التنظيم بالسيطرة كذلك على طرق المواصلات الرئيسية في غرب العراق و يقوم بفرض الرسوم والضرائب على حركة السلع والبضائع ويحقق التنظيم كذلك ايرادات من القطن والقمح المنتج فى محافظة الرقة، سلة غذاء سوريا.
يقوم تنظيم داعش، مثل التنظيمات الإرهابية الأخرى، بخطف الرهائن ويطالب بدفع فديات تبلغ عشرات الملايين من الدولارات. لكن الأمر الأكثر أهمية في تمويل التنظيم هو الابتزاز واسع النطاق الذى يستهدف صغار الملاك والمنتجين فى المناطق التى يسيطر عليها تنظيم داعش حيث يتم فرض الضرائب على كل شيء إنطلاقاً من المزارع العائلية الصغيرة وحتي المؤسسات التجارية الكبيرة مثل شركات الإتصالات وشركات المياه والكهرباء. إن مالية تنظيم داعش معقدة جداً حتى أن وزراة الخزانة الأمريكية اعتذرت عن تقديم تقرير عن إجمالي أصول وايرادات تنظيم داعش لكن من الواضح أن تنظيم داعش يمتلك محفظة مالية كبيرة ومتنوعة وتتجاوز ثرواته ثروة أي تنظيم إرهابي آخر، ولا يوجد دليل بأن الحكومة الأمريكية نجحت فى تجفيف الموارد المالية لتنظيم داعش.
الجنس والجهادي الأعزب
هناك جانب آخر فى الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب التى نجحت بشكل جيد في محاربة تنظيم القاعدة ويتمثل هذا الجانب في الجهود التى بذلت فى شيطنة ونزع الشرعية من تنظيم القاعدة وذلك بنشر أخطاءه وتجاوزاته العنيفة أو مساعدة حلفاء أمريكا للقيام بذلك. كانت الهجمات التى يقوم بها تنظيم القاعدة تقتل باستمرار المسلمين وكان هذا في وجهة نظر قادة التنظيم يمثل تهديداً كبيرا للصورة الذهنية للتنظيم باعتباره تنظيم طليعي لحراك جماهير المسلمين. جميع الهجمات التى قام بها تنظيم القاعدة فى المغرب والمملكة العربية السعودية وتركيا فى عام 2003م وفي أسبانيا عام 2004م وفي الأردن والمملكة المتحدة في عام 2005م أدت إلى قتل وإصابة مسلمين وهذه الهجمات أثارت غضب وسخط العديد من المجتمعات الإسلامية وقلصت الدعم والمساندة التى كان يتلقاها تنظيم القاعدة على نطاق العالم الإسلامي، وفقد تنظيم القاعدة المساندة الشعبية بشكل مطرد منذ عام 2007م والآن أصبح تنظيم القاعدة مكروهاً على نطاق واسع فى العالم الإسلامي. قام "مركز بيو للأبحاث" بإجراء مسح لما يقارب 9,000 مسلم في 11 دولة في عام 2013م و وجد المركز نسبة معارضة كبيرة لتنظيم القاعدة بلغت في متوسطها 57%: وفي العديد من الدول كانت النسبة أكبر من ذلك بكثير حيث بلغت 96% من نسبة المسلمين الذين شملهم المسح في لبنان و81% في الأردن و73% في تركيا و69% في مصر من الذين يحملون وجهة نظر سلبية عن تنظيم القاعدة.
على أية حال، يبدو أن تنظيم داعش غير مبالي بالصورة الذهنية للتنظيم، وبقيام البغدادي بإدعاء الخلافة فإنه قد قام بادعاء جريء، إن لم يكن إدعاء غريباً، لسلطة ومقام دينى رفيع. ومع ذلك، فإن هدف تنظيم داعش الأساسي هو الإستيلاء علي السلطة والإنتقام وليس الشرعية. وقد تم تصميم عملياته البربرية – قطع الرؤوس والإعدامات الجماعية المصورة بالفيديو – لإرهاب الأعداء وتخويف المنشقين. قد يؤدي التقزز والاشمئزاز السائد بين المسلمين من هذه القسوة والبربرية تدريجياً إلى إضعاف تنظيم داعش. وبقيام الحكومة الأمريكية فى الوقت الراهن بالتركيز فقط على وحشية وبربرية تنظيم داعش فإن ذلك سيساعد التنظيم على استعراض عضلاته وقوته.
لنفس الأسباب ثبت أنه من الصعوبة بالنسبة للحكومة الأمريكية وشركاءها مكافحة عمليات التجنيد والاستقطاب لتنظيم داعش التي استقطبت وجذبت العديد من الشباب المسلم للانضمام لصفوف تنظيم داعش. لقد قام قادة تنظيم القاعدة باستقطاب أتباعهم من خلال الدعوة الدينية ورسالة عقيدية زائفة عن الإيثار وتفضيل الآخرين على الذات لصالح الأمة. و قام أسامة بن لادن ورفيق دربه وخليفته أيمن الظواهري بكل عناية ودقة ببناء صورة ذهنية من الشرعية الدينية والتقوى. وفي صور الفيديوهات الدعائية التى بثها تنظيم القاعدة يبدو الرجلان كمحاربين زاهدين يجلسان على الأرض فى الكهوف ويطالعان الكتب في المكتبات أو يلجآن إلى المغارات والمعسكرات النائية. وبالرغم من أن بعض خلايا تنظيم القاعدة قد استخدمت أساليب تجنيد واستقطاب أفضل إلا أن التنظيم الأساسي يسعي لتأسيس دولة الخلافة كهدف على الأمد البعيد أو كهدف متخيل وتأتي مهمة تربية وحشد طاقات الأمة كهدف أول. ولهذا الإعتبار، فإن الصورة الذهنية لتنظيم القاعدة لا يشوبها الجنس وبالطبع وبالنسبة لمجندي تنظيم القاعدة الشباب يأتي الجنس فقط بعد الزواج – أو الشهادة.
وحتي بالنسبة للشاب المسلم المتمرد فإن الجنس لا يكون وسيلة للإغراء. سعى قادة تنظيم القاعدة بأن يصوروا أنفسهم أشخاصاً ذوي أخلاق وقيم فاضلة و لاتحوم حولهم شبهات الرزيلة. كما أن برامج محاربة التطرف الناجحة التى أقامها تنظيم القاعدة فى أماكن مثل أندونيسيا وسنغافورة قد أزالت الفوارق بين ما يقدمه تنظيم القاعدة من حوافز وما يرغب فى تحقيقه معظم الشباب وشجعت الشباب الثائر للتكامل والإنخراط فى المجتمع حيث يتم تلبية تطلعاتهم ورغباتهم بشكل طبيعي.
وفي المقابل، يقدم تنظيم داعش حوافز مختلفة للشباب وفي بعض الأحيان للنساء. يقوم تنظيم داعش باستقطاب الأتباع الذين لا يسعون فقط للالتزام الديني والتقوى بل يسعون كذلك للمغامرة والحصول على النفوذ والترقي الشخصي والإجتماعي، وبالطبع، فإن بعض الأفرد يرغبون فى قتل البشر – ويرحب بهم تنظيم داعش كذلك. إن العنف البربري لتنظيم داعش يجذب الإنتباه ويعكس الهيمنة ويستقطب ويجذب الناس للإثارة.
يعمل تنظيم داعش في مناطق حضرية ويقدم لمجنديه فرص فورية للقتال، ويقوم بالاعلان عن عملياته بتوزيع منتجات إعلامية مثيرة يتم إنتاجها بواسطة المقاتلين فى الجبهات الحربية المختلفة. ويقوم تنظيم داعش كذلك بجلب شريكات جنس لمجنديه الذكور وبعض هؤلاء النسوة متطوعات لممارسة هذا الدور وبعضهن مجبورات علي ذلك وبعضهن أسيرات. ولا يهتم التنظيم أبداً بتبرير هذا السلوك بالنظر للمحظورات الدينية ويتمثل هدف التنظيم النصر بكافة أشكاله بما في ذلك في مجال الجنس. وقام التنظيم بإنشاء خلافة يترأسها البغدادي بصفته الخليفة وبذلك حقق تنظيم داعش (حتي ولو بشكل محدود وفى الوقت الراهن) ما كان يعتقده تنظيم القاعدة شيء يقارب حلم طوباوي.
باختصار، يقدم تنظيم داعش حوافز بدائية قصيرة الأجل، ولا يقوم بدفع الناس للتطرف بطرق يمكن أن تعد مقبولة من خلال المنطق. ويتم استقطاب الشباب المراهقين للانضمام لتنظيم داعش حتى بدون فهم ماهية التنظيم وكبار المحاربين المخضرمين يريدون فقط المشاركة فى نجاحات وانتصارات تنظيم داعش. ومقارنة باستراتيجية محاربة تنظيم القاعدة المتزمت نسبياً وجدت الحكومة الأمريكية أنه من الصعب مواجهة الرغبة الشديدة بين الشباب للإنضمام لتنظيم داعش لسبب بسيط جداً: هو أن الرغبة في الحصول على السلطة والنفوذ والمكاسب الآنية تسيطر كذلك على الثقافة الأمريكية.
عام 2015م ليس كعام 2006م
لم تكن مكافحة الإرهاب هي العنصر الوحيد في ممارسات الأمن القومي الذى قامت الحكومة الأمريكية باعادة اكتشافه وإعادة إحياءه بعد أحداث 11 سبتمبر، لقد شهدت مكافحة التمرد والعصيان كذلك إعادة إحياء. نظراً لإندلاع الفوضي في العراق بعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية بغزو وإحتلال العراق في عام 2003م بدأ الجيش الأمريكي التفكير بجدية حول مخاطر التمرد والعصيان وهو موضوع سقط من أجندة وإهتمامات أجهزة الأمن القومي الأمريكية بعد حرب فيتنام. كانت عمليات "الصحوة" أفضل تطبيق لاستراتيجية مكافحة التمرد والعصيان الأمريكية في العراق في عام 2007م التى كان يشرف عليها الجنرال ديفيد بترايوس. في عام 2006م عندما ازدادت وتيرة العنف في محافظة الأنبار التى تسكنها أغلبية سنية استنتج المسؤلون الأمريكيون أن الولايات المتحدة سوف تخسر الحرب. كرد فعل لهذه الإستنتاجات قرر الرئيس الأمريكى جورج بوش وقتئذٍ إرسال 20,000 جندى أمريكي إضافي للعراق. وكان الجنرال جون آلان، الذي كان يعمل حينئذٍ نائباً لقائد القوات العسكرية متعددة الجنسيات في الأنبار، قد خلق علاقات مع القبائل السنية المحلية وقام برعاية ما كان يسمى "الصحوة السنية" التى قامت بسببها حوالي 40 قبيلة عراقية سنية بتحويل موقفها وقررت مشاركة القوات الأمريكية التى وصلت حديثاً في محاربة تنظيم القاعدة في العراق. بحلول صيف عام 2008م، إنخفضت هجمات المتمردين بما يزيد عن 80%.
بالنظر إلى حجم المكاسب الأخيرة التى حققها تنظيم داعش فى المناطق السنية في العراق والتى أجهضت التطور الذى حققته عمليات الصحوة في مكافحة التمرد والعصيان، فقد اقترح بعض الخبراء أن تستجيب الحكومة الأمريكية لهذه التطورات باستخدام استراتيجية مكافحة التمرد والعصيان في العراق مرة ثانية. يبدو أن البيت الأبيض اقتنع مؤخراً بهذه المقترحات وقام الرئيس أوباما في العام الماضي بالطلب من الجنرال جون آلان القيام بالعمل كمبعوث خاص لأجل اقامة تحالف مضاد لتنظيم داعش في المنطقة. هناك منطق عملي لهذا المقترح نظراً لأن تنظيم داعش يجد الدعم والمساندة من العديد من الجماعات المتمردة التى قامت بتحييدها سابقاً عمليات الصحوة والصحوة السنية وهي الجماعات التى ظهرت مجدداً وشكلت تهديداً كبيراً بسبب الفراغ الذى خلقه إنسحاب القوات الأمريكية في عام 2011م وحكم المالكي الطائفي في بغداد.
توجد هناك الآن اختلافات كبيرة بين الوضع السائد اليوم والوضع الذى واجهته الجكومة الأمريكية في عام 2006م، كما يبدو فإن استراتيجية مكافحة التمرد والعصيان الأمريكية لا تناسب الحرب ضد تنظيم داعش. لن تستطيع الحكومة الأمريكية كسب قلوب وعقول العرب السنيين العراقيين نظراً لأن حكومة المالكي خسرتهم بالفعل، كما أن الحكومة العراقية التي تهيمن عليها الطائفة الشيعية أجهضت شرعيتها السياسية وسيكون من الصعب جداً ارجاع هذه الشرعية. إضافة الي ذلك لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تحتل العراق. قد تستطيع الحكومة الأمريكية إرسال قوات للعراق ولكنها لن تستطيع إصباغ الشرعية لحكومة لم تعد تسيطر عليها. يمثل تنظيم داعش جماعة وتنظيم متمرد على جكومة قائمة وليس طرفاً في حرب أهلية تقليدية بين مقاطعة تريد الإنفصال و حكومة مركزية ضعيفة.
فرق تسد
اعتمدت الولايات المتحدة على استراتيجية مكافحة التمرد والعصيان ليس فقط لإيقاف انزلاق العراق إلى دولة فاشلة بل كذلك لتكون الإستراتيجية نموذجاً لكيفية محاربة الحركات الجهادية المتعددة. توسع تنظيم القاعدة من خلال اقناع الجماعات المسلمة المتمردة والثائرة على نطاق العالم للتحول من أجنداتها وأهدافها الوطنية الضيقة والإلتحاق بشبكة جهاد تنظيم القاعدة العالمي وفي بعض الأحيان تحويل أنفسها إلى خلايا منتمية لتنظيم القاعدة. لكن كان هناك قليل من أوجه الشبه في الرؤى المتبعة والإستراتيجيات المستهدفة بواسطة الحركات الجهادية الشيشانية والفلبينية والأندونيسية والكشميرية والفلسطينية ومليشيات الإجهور الصينية التى سعى بن لادن لاستقطابها جميعاً لخيمة تنظيم القاعدة، كما واجه تنظيم القاعدة متاعب جمة في التوفيق بين أهدافه الخاصة ومصالح خلاياه البعيدة جغرافياً.
خلق هذا التباين في الأهداف والإستراتيجيات نقاط ضعف لدى تنظيم القاعدة وقامت الحكومة الأمريكية وحلفاءها بالسعي لاستغلال ذلك. أحرزت حكومات أندونيسيا والفلبين انتصارات كبيرة في مجال محاربة خلايا القاعدة في تلك البلاد بدمج عمليات مكافحة التمرد والعصيان مع إقامة وخلق العلاقات مع المجتمعات المحلية ومباشرة برامج محاربة التطرف وتقديم التوجيه والإرشاد الدينى في السجون واستخدام العملاء الإرهابيين السابقين المعاد تأهيلهم كناطقين حكوميين رسميين وفي بعض الأحيان القيام بالتفاوض حول المظالم المحلية.
طالب بعض المراقبين الحكومة الأمريكية بالقيام بتطبيق واستخدام نفس الإستراتيجية ضد تنظيم داعش بالسعي لاستغلال نقاط الخلاف بين ضباط الجيش العراقي العلمانيين السابقين وزعماء القبائل السنية ومحاربي المقاومة السنية من جانب وجهاديي التنظيم المخضرمين من جانب آخر. يقود تنظيم داعش الآن قادة عسكريين عراقيين سابقين مقتدرين من ذوى التدريب الممتاز وهم يعرفون تقنيات وأساليب الجيش الأمريكي لأن الحكومة الأمريكية ساعدت في تدريبهم سابقاً. وبعد اكتشاف مكامن ومخازن سلاح الجيش العراقي المحلول والاستيلاء على المعدات العسكرية التي زودته بها الولايات المتحدة الأمريكية فإن تنظيم داعش مزود الآن بالدبابات الأمريكية والمدافع والأسلحة الثقيلة ومدرعات همفي الأمريكية والناقلات المضادة للألغام.
ربما تدريجيا سيكون التطرف الدينى الأعمي لتنظيم داعش أكثر مضاضة لحلفاءها البعثيين العلمانيين السابقين. ولكن في الوقت الراهن، فإن ضباط نظام صدام السابقين ليسوا ببعيدين من كونهم محاربين كارهين لتنظيم داعش. ومع ذلك، فهم يتولون القيادة وبأيديهم قام تنظيم داعش بتكوين جيش من كتائب مشاة خفيفة أكثر تطوراً وهذا الجيش يتباهي بامتلاكه أسلحة أمريكية.
بالطبع هذا يفتح الطريق لاستخدام استراتيجية ثالثة لمحاربة تنظيم داعش إلى جانب استراتيجية مكافحة الإرهاب واستراتيجية مكافحة التمرد والعصيان: وذلك بشن حرب تقليدية واسعة النطاق ضد تنظيم داعش بهدف تدمير وإبادة تنظيم داعش بالكامل. سيكون شن هذه الحرب حماقة، لأنه وبكل بساطة وبعد معاناة أكثر من عشر سنوات من الحرب المستمرة لن يقوم المواطنون الأمريكيون بدعم إحتلال طويل الأجل وحرب ضرورية لإبادة تنظيم داعش. إن تبني حرب عسكرية شاملة سيستنزف الموارد الأمريكية ولا يتيح سوى فرصاً محدودة لتحقيق الأهداف المنشودة، ولن يتم النصر في الحروب التى يتم شنها بدون مراعاة الواقع السياسي.
إحتواء التهديدات
إن الحقيقة المجردة هي أن الولايات المتحدة ليس لها خيارات عسكرية جيدة في حربها ضد تنظيم داعش، كما أن كل من استراتيجية مكافحة الإرهاب أو استراتيجية مكافحة التمرد والعصيان أو الحرب العسكرية الشاملة لن تؤمن للحكومة الأمريكية نصر حاسم ضد تنظيم داعش. على الأقل وفي الوقت الراهن فإن الاستراتيجية التى تناسب الأهداف والوسائل بشكل جيد والتى يكون لها حظ أفضل في تأمين مصالح الولايات المتحدة هي استراتيجية الإحتواء الهجومي: وهي دمج الحرب العسكرية المحدودة مع الجهود الدبلوماسية والإقتصادية لإضعاف تنظيم داعش وتحقيق مصالح العديد من الدول المهددة بالتقدم الميداني لتنظيم داعش.
لا يعتبر تنظيم داعش مشكلة للولايات المتحدة فحسب حيث أن الحروب في سوريا والعرق لا تشمل لاعبين إقليميين فقط بل كذلك لاعبين عالميين رئيسيين مثل روسيا وتركيا وايران والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. يجب على الحكومة الأمريكية وقف طريقة تعاملها وتصرفها كما لو أنها ستحسم مشاكل المنطقة بالقوة العسكرية بل بدلاً عن ذلك عليها إحياء دورها كقوة دبلوماسية كبرى.
بالطبع فإن القوة الأمريكية سيكون لها دور مهم في استراتيجية الإحتواء الهجومي، ويمكن للضربات الجوية أن توجع تنظيم داعش وتوقف تزوده بالتكنولوجيا والأسلحة والتموينات، كما أن ضرب طرق التهريب سيضعف وينهك التنظيم. في نفس الوقت، يجب على الحكومة الأمريكية الاستمرار فى تقديم الاستشارات والدعم للجيش العراقي ومساعدة القوي الإقليمية مثل البشمرجة الكردية وعليها كذلك القيام بتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين الهاربين من المناطق المحتلة بواسطة تنظيم داعش. يجب على الحكومة الأمريكية التوسع فى تقديم المساعدات للدول المجاورة مثل الأردن ولبنان التى تكافح من أجل استيعاب التدفق الكبير للنازحين واللاجئين من سوريا. لكن وضع المزيد من القوات الأمريكية على الأرض سيكون غير مجدي وسيعرض الحكومة الأمريكية لحرب لا يمكن كسبها أو الإنتصار فيها والتى قد تستمر لعدة عقود. لا تستطيع الولايات المتحدة إعادة بناء دولة العراق أو تحديد نتيجة الحرب الأهلية السورية. قد يبدو الأمر محبطاً لبعض الناس وعندما يتعلق الأمر بالعمل العسكري يجب على الحكومة الأمريكية التقيد والإلتزام باستراتيجية واقعية تأخذ فى الإعتبار محددات القوة العسكرية الأمريكية كحل طويل الأجل.
قامت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما مؤخراً بعقد "قمة حول مكافحة التطرف العنيف" ودعت قادة وزعماء دول العالم لواشنطن لأجل مناقشة كيفية محاربة التنظيمات الجهادية المتطرفة، وكانت هذه القمة ذات مردود قيم. وبالرغم من أن القمة سلطت الضوء على التهديد الحالي الذي تمثله الخلايا الإقليمية لتنظيم القاعدة إلا انها عززت الإعتقاد السائد بأن تنظيم داعش هو التحدي الرئيسي فى أجندة مكافحة الإرهاب. في الواقع، يمثل تنظيم داعش تحدياً كبيراً: لأنه يقوم بتحدي النظام العالمي القائم حالياً وبعكس التنظيم الأساسي لتنظيم القاعدة فقد أصبح تنظيم داعش قريباً من أن يحقق ذلك الهدف. لن تستطيع الولايات المتحدة منفردة، ولا ينبغي لها، حماية المنطقة والعالم من دولة دينية رجعية متطرفة. يجب على القوي العالمية الكبرى صياغة استراتيجية دبلوماسية واقتصادية وعسكرية عامة لضمان إحتواء هذه الدولة المتطرفة ومعاملتها بإعتبارها دوله منبوذه عالمياً. الشيء الجيد أنه لا توجد حكومة تدعم وتساند تنظيم داعش ولقد استطاع تنظيم داعش أن يجعل من نفسه عدواً لكل دول المنطقة وبالطبع عدواً لكل دول العالم. ولاستغلال هذه الحقيقة يجب على الحكومة الأمريكية إتباع استراتيجية دبلوماسية رفيعة المستوى أكثر حسماً بالتنسيق مع القوى الكبرى العالمية الرئيسية بما في ذلك إيران والمملكة العربية السعودية وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وروسيا وحتي الصين وكذلك الدول المجاورة للعراق وسوريا لأجل تصميم وصياغة خطة عمل موحدة لمحاربة تنظيم داعش.
يجب أن تتجاوز خطة العمل الموحدة أي التزام جماعي لمنع أي عمليات لتجنيد واستقطاب مجندين ومتطرفين جدد لتنظيم داعش وأن تتجاوز كذلك التحالف العسكري الإقليمي الذي أقامته الولايات المتحدة. يجب على القوي العالمية الكبرى واللاعبين الإقليميين الإتفاق على تشديد حظر الأسلحة المفروض حالياً على تنظيم داعش وفرض المزيد من المقاطعات الفعالة شديدة التأثير علي تنظيم داعش والقيام بدوريات حدودية مشتركة وتقديم مزيد من المساعدات للاجئين والنازحين وتعزيز مهام قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة الموجودة في الدول المجاورة للعراق وسوريا. وبالرغم من أن بعض هذه الوسائل تتجاوز مكافحة الإرهاب لكنه يجب تبنيها وتنفيذها كاستراتيجية لمحاربة عدو مشابه فى حقيقته لدولة عدو: إن تنظيم داعش ليس قوة أو دولة نووية ولكنه تنظيم يمثل تهديدا كبيراً للاستقرار العالمي يشابه التهديد الذي تمثله دولة كوريا الشمالية ويجب معاملته بطريقة أكثر جدية.
بالأخذ فى الإعتبار أن الجدل السياسي حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة سيزداد شدة عند اقتراب الانتخابات الرئاسة الأمريكية فى عام 2016م ، فإن البيض الأبيض سيواجه عدة انتقادات بخصوص استراتيجية الإحتواء التى لن ترضى معسكر الصقور أو معسكر عدم التدخل في نطاق أجهزة الأمن القومي الأمريكية. في مواجهة مثل هذه الانتقادات يجب على الولايات المتحدة أن تظل ملتزمة بمحاربة تنظيم داعش على المدى البعيد بشكل ينسجم مع الأهداف والوسائل والقيام بمراجعة وتطوير جهود الولايات المتحدة فى احتواء تهديد تنظيم داعش من خلال تجاوز الأشكال القديمة لمكافحة الأرهاب ومكافحة التمرد والعصيان والقيام في نفس الوقت بمقاومة الضغوط للدخول في حرب شاملة. بمرور الزمن فإن الإحتواء الناجح لتهديدات تنظيم داعش قد يفتح الطريق لخيارات استراتيجية أفضل ولكن على المدى القريب يعتبر الإحتواء أفضل استراتيجية يمكن أن تتبعها الولايات المتحدة.