درس الجابون : ليس الحل في الإقتراع …. بقلم: مؤيد شريف
14 September, 2009
Sharifmuayad@gmail.com
بشروع فرنسا في مشروعها الكبير للعلاقات الفرنسية-الأفريقية (la Françafrique) ، وبذر نواته وتثبُت أشبكة مصالحه في العهد الديغولي ، دائما ما أُعتبر عمر بونقو ، الرئيس الجابوني الراحل ، ركيزة من الركائز الأساس لذات المشروع الفرنسي ذو الأبعاد الثقافية،السياسية،العسكرية والاقتصادية شديدة التعقيد والتشبك والإبهام .
والتوصيف الغالب والمنطبق على غالب البلدان الأفريقية الفرانكفونية : هو توفر الثروات الطبيعية المنجمية والموارد النفطية الوفيرة والثروات المكنونة في بواطن الارض وعلى سطوحها ، غير أن أوضاع الاقتصاد ومستويات المعيشة للشعب تظل متدنية على نحو مريع يثير الصدمة قبل الاستفهامات المفهومة المعقولة .
والجابون ليست إستثناءً في هذا التوصيف . وعلى الرغم من ثراء الأرض ، ووفرة الموارد ، يظل أكثر من 70% من شعبها يرزح تحت معدلات صادمة من الفقر (70% يعيشون بدولار واحد في اليوم) .
وعلى الرغم من "مظاهر" الحيدة التى حاولت فرنسا رسمها من إنتخابات الجابون الأخيرة ، إلا أن أوساطاً جابونية عديدة من المعارضين ، ومن خارج المعارضين ، لازالت تعتقد وتجزم في دعم فرنسا لوراثة آل بونقو للرئاسة في الجابون .
والثابت أن فرنسا وجدت نفسها في موقف الممزق : بين أن ترعى مصالحها البترولية والتى تتعهدها على الارض الجابونية "توتال" الفرنسية ، وفوائدها التعدينية (المانجنيز /أيرميت) – (اليورانيوم / أريفا ) ، وخشيتها من صعود المعارضات المتشبعة بالشعور الطاغي للعداء لفرنسا وأدوارها السياسية والاقتصادية القديمة والمتجددة والداعمة لسياسات بونقو الراحل ، وبين إلتزامها الحيدة ودعم وتشجيع الحياة الديمقراطية النزيهة وسلامة العملية الإنتخابية ككل ، وهو ما يبدو متعذرا من واقع تشابك المصالح والتصميم الفرنسي على رعاية وتوسيع الوجود الفرنسي في سياق التنافس الدولي على أفريقيا .
برحيل بونقو الأب ، إستشعرت المعارضات الجابونية على تنوع مشاربها وإتجاهاتها ، محاولة للدوائر المسيطرة والمهيمنة على الحكم وموارد البلاد لأربعين عاما ، لأخذ المبادرة بترتيب وطبخ عملية إقتراع "محسوبة النتائج" ومتعجلة ، يُستوثق من خلالها توفر كل عوامل عودة بونقو الإبن لخلافة الأب الراحل وعدم وقوع تغير حاد في بنية وصيغة الحكم.
وكان لافتا موقف بعض القوى المعارضة ومطالبتها بضرورة تأجيل عملية الإقتراع لحين الفراغ من تنزيل إصلاحات تشريعية وقانونية وسياسية ضرورية وملحة تتصل بالمناخ السياسي غير المواتي وأوضاع الحقوق والحريات ، وأخرى فنية إجرائية تتصل بالعملية الانتخابية ومراجعة القوائم الإنتخابية وتنقيحها ، في سبيل ضمان سلامتها ونزع إحتمالية عنف ما بعد الإقتراع المتوقع سيما وما هو معروف وراتب عن الطبائع الإثنية والتوظيفات العرقية المطبوعة في الثقافة السياسية للجابون ، وهي الحالة المتماثلة في الكثير من البلدان الأفريقية .
ذهب البعض لوصف عملية الإقتراع بأنها ستكون خطرا حقيقيا يهدد استقرار وسلامة الجابون ، ويعيد إيقاظ الفتن الإثنية والعرقية الكامنة - خاصة وقد عُرف بونقو الأب بتوظيفاته للأبعاد الإثنية والقبلية في تثبيت سيطرته وفرض هيمنته على مفاصل البلاد لأكثر من أربعين عاما متصلة - فيما لو أُلح في الدخول العجل لمرحلة الإقتراع ، وفيما لو لم يتم الوفاء بالكثير من الاستحقاقات الإصلاحية والتمهيدية المهمة لكل عملية إنتخابية يُراد لها أن تكون آمنة .
مثل فشل المعارضات الجابونية في الإلتقاء والتواضع على مرشح وحيد يمثلها أمام مرشح الحزب الحاكم في الحزب الديمقراطي الجابوني علي بونقو الإبن ، مثل داعمة قوية للحزب الحاكم وعزز حظوظ مرشحه في الفوز على الرغم من "عدم إرتياح" قطاعات واسعة من الشعب الجابوني ومعارضتهم تحول الجابون لمملكة يتوارثها آل بونقو جيلاً بعد آخر ، فضلا عما هو مشاع هناك ومتداول من تشكك في نسبة بونقو الإبن الى الأب (إبن متبنى).
ما أن يُعاد إنتخاب أحد الرؤساء في أفريقيا الفرانكفونية ، على وجه التحديد، أو يستبدل بآخر من ذات الدائرة المسيطرة ، حتى ينصب عنف المعترضين والقائلين بتزوير الإنتخابات ، على البعثات الدبلوماسية التابعة لفرنسا في المقام الاول ، وقد يصل الامر لكونه موجة من تخريب وإستهداف للإستثمارات الاجنبية عامة : ففي مخيلة المحتجين ، تكون فرنسا باستثماراتها الضخمة وعلاقاتها الممتدة بالدائرة النافذة والمسيطرة ، العدو الاول ، والمتهم الرئيس ، والمسؤولة عن إعادة انتخاب الرئيس الموالي لها والمتعهد أمامها بحفظ مصالحها . وهذه الحالة من العنف الموجه ليست قصرا على الحالة التى نحن بصددها في الجابون ، وتتعداه للعديد من الدول الفرانكفونية .
كان لافتاً ، وبعد إغلاق مراكز الإقتراع بساعات ، أن بدأ المرشحون الرئيسيون الثلاث : " على بونقو أونديمبا " عن الحزب الديمقراطي الجابوني الحاكم ، " بيير مامبوندو " عن حزب إتحاد الشعب الجابوني ، " أندري مابا أوباما " وزير الداخلية السابق والمنشق عن الحزب الحاكم ، بدأوا في إعلان فوزهم وإكتساحهم للإنتخابات وتحديد نسب للفوز قالوا انها مستقاة من الرصد الشفاهي للناخبين . وما أن أعلن مفوض لجنة الإنتخابات فوز على بونقو حتى سارعت جماعات المعارضة برفض الإقرار بهزيمتها ، وإدعت بتزوير الانتخابات في كثير من المراكز الحضرية المناصرة لعلى بونقو ، وتحدثت عن حالات محددة لتعدد بطاقات التصويت وتصويت الفرد ، تبعا لذلك ، في اكثر من مرة ، والمبالغة في أعداد قوائم الناخبين في مناطق نفوذ الحزب الحاكم . فضلا عن ذلك ، عمد مرشح المعارضة "مامبوندو" لنشر نتائج تصويت الناخبين الجابونيين في مدن فرنسا المختلفة ، وتفوقه فيها بفارق كبير عن بونقو الإبن .
بإعلان فوز بونقو الإبن تفجرت أعمال عنف واسعة في "ليبرفيل" و "جينتيل" الساحلية ، وتعرضت القنصلية الفرنسية ومبنى يتبع لتوتال الفرنسية للإحراق الكامل ، ووصلت أعمال التخريب الى لكثير من المصالح الأجنبية على الأرض الجابونية .
تلاقت أطراف المعارضة على القطع بوقوع تزوير واسع وتلاعب في نتائج الإقتراع ، وطالبوا بضرورة فتح تحقيق دولي لكشف عملية التزوير . في الأثناء ، منع وزير الداخلية أقطاب المعارضة من السفر وحظر تحركهم ، وحملهم مسؤولية العنف الذى اعقب إعلان فوز على بونقو . ولازال الأمر يتفاعل هناك ويتصاعد .
وخلاصة الدرس الجابوني وما يقول : ضرورة أن نفرق بين الإنتخابات كعملية ديمقراطية تبدأ فعليا بتهيئة الأجواء وتنقيتها من كل شائبة قد تعوق سيرها ، وبين الإقتراع كعملية إجرائية فنية ، تمثل تتويجا آخيرا لمراحل ضرورية ، لازمة وحتمية تسبقها . وأيما دخول عجل لعملية الإقتراع ، وأيما نزوع بإتجاه طباخة الأوضاع العامة ، لا تراعي فيها تهيئة أجواء الحريات ، والتواضع على إصلاحات وطنية بإجماع الوطنيين وتوافقهم ، تمثل كارثة وطنية حقيقية ، سيما في أوضاع متحفزة ومكتملة من نوعية مستجدة للسياسة الإثنية القبلية ، والآمال العراض المعلقة من كافة المجموعات على العملية الإنتخابية ، وأيضا من واقع وجود إختلافات أساسية بين شركاء الحكم في السودان ، وقضايا أساسية معلقة ، ومأساة انسانية منسية ومهملة ، وإقليم يمثل الثلث من الوطن ولا يبدو أنه سيكون جزء منه ما بعد الإقتراع العجل .
تحاياي وإحترامي
صحيفة السوداني
14/9/2009