دروس وعبر لأهل مصر من تجارب السودان الانقلابية
د. عبد الوهاب الأفندي
15 August, 2013
15 August, 2013
هناك مقولة مشهورة منسوبة لكارل ماركس مفادها أن التاريخ حين يكرر نفسه يكون ذلك في أول كرة على شكل مأساة، ثم مهزلة في ثاني كرة. وهذه الحكمة تنطبق على الحالة المصرية، مع الفارق، وهو أن المأساة والمهزلة في هذه الحالة تطابقتا وحلتا معاً. ولا يتعلق الأمر هنا بالانقلاب الناصري على الملكية، ثم الانقلاب الساداتي على الناصرية، وأخيراً الانقلاب "الليبرالي" على الديمقراطية، رغم أن هناك أصداء من كل ذلك في كل انقلاب. فالانقلاب الناصري رفع شعارات التحرر من ثنائية الطغيان الملكي والاحتلال الأجنبي، ولكن الأمر انتهى بطغيان أشد وطأة، وبوقوع أجزاء من مصر تحت احتلال إسرائيلي، مع ارتهان القرار المصري للسوفيت. أما السادات فقد رفع شعارات التحرر من القمع الناصري ومن التبعية للسوفيت وتحرير الأرض من الاحتلال، ولكنه كذلك انتهى بقمع من نوع جديد، وبتبعية كاملة لأمريكا. وبينما تم "تحرير" سيناء (مع نسيان غزة التي احتلت معها)، فإن مصر كلها خسرت استقلالها وقرارها والكثير من سيادتها. وإذا كان من المبكر الحديث عن الانقلاب الأخير، فإن عنوان الكتاب يكشف عن كثير.
ولكن المفارقة هي أن الانقلاب المصري يعتبر تكراراً في نسخة طبق الأصل من محاولة "انقلابية" أخرى، قامت بها قيادة الجيش السوداني في عام 1989، أيضاً ضد حكومة منتخبة كان الإسلاميون جزءاً منها. ولعل المفارقة الأبلغ هي أن النظام المصري القائم وقتها، وبعض الأنظمة التي دعمت انقلاب مصر الأخير، كانت ضالعة في ذلك الانقلاب، فما أشبه الليلة بالبارحة!
ففي شهر فبراير من عام 1989، قام وزير الدفاع السوداني وقتها الفريق عبدالماجد حامد خليل بجولة عربية شملت مصر والأردن والسعودية في محاولة لاستقطاب دعم عسكري كان الجيش السوداني في حاجة ماسة إليه لخوض الحرب في الجنوب. وكانت النتيجة مخيبة لآمال الوزير وحكومته، حيث أن كل الحكومات العربية رفضت تزويد الجيش السوداني بالأسلحة التي كان يحتاجها أو إقراض الحكومة المال لشرائه من مصادر أخرى. وكانت الحجج تتلخص في أن الحكومة السودانية المدعومة من الإسلاميين تتبنى مواقف متطرفة لا تساهم في جهود السلام، وأن تقديم أي دعم لها يغضب الحلفاء الغربيين.
عاد الوزير إلى البلاد وشرح الوضع لحكومته ثم تقدم باستقالته من الحكومة. وكنتيجة لهذا الوضع اليائس، عقد كبار ضباط الجيش اجتماعات متوالية لمناقشة الوضع، وخلصوا إلى رفع مذكرة لرئيس الوزراء وقتها السيد الصادق المهدي، وقعها قائد الجيش الفريق فتحي أحمد علي (نظير السيسي). لخصت المذكرة الوضع غير المقبول في ساحات القتال، حيث يفتقد الجيش إلى الموارد الضرورية لخوض الحرب، وعزت ذلك إلى عزلة السودان الدولية، حيث كانت هذه ربما أول حرب أهلية يدعم فيها المعسكران الشرقي والغربي حركة التمرد، بينما لا تجد الدولة السودانية حليفاً. وطالبت المذكرة حكومة المهدي باتخاذ إجراءات عملية لفك العزلة الدولية، وكذلك لتوحيد الجبهة الداخلية عبر تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة. وطالبت المذكرة حكومة المهدي باتخاذ موقف جدي من الحرب، إما بالتوجه نحو السلام بهمة، وإما بتزويد الجيش بما يحتاجه لخوض الحرب. وبالطبع يكون من الأفضل لو تحقق الأمران.
جاءت المذكرة على خلفية وجود مبادرة سلام على أساس اتفاقية بين زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي السيد محمد عثمان الميرغني وزعيم الحركة الشعبية العقيد جون قرنق أبرمت في نوفمبر 1988. وقد نصت تلك الاتفاقية على وقف لإطلاق النار مقابل تجميد العمل بالقوانين الإسلامية وإلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك مع مصر وليبيا ثم عقد مؤتمر دستوري يناقش قضايا السودان ويخلص على توافق لحلها. وكان الحزب الاتحادي وقتها شريكاً في الائتلاف الحاكم مع حزب الأمة بزعامة المهدي والجبهة الإسلامية القومية بزعامة د. حسن الترابي، ولكنه انسحب من الحكومة بعد رفض مبادرته وبعد تفجر احتجاجات شعبية على خلفية رفع الدعم عن بعض السلع.
من معظم النواحي، كان المنطق مع قيادات الجيش، لأن أطراف الائتلاف الأخرى رفضت اتفاق الميرغني-قرنق لأسباب غير منطقية: الجبهة الإسلامية تنطعاً وتشدداً، وحزب الأمة غيرة من شريكه في الحكم ومنافسه التقليدي. ولم يكن لدى الرافضين بديل عملي لجهود سلام ولا لخوض الحرب بصورة فعالة. ولم تكن مذكرة الجيش تعبر فقط عن موقف العسكريين والوضع الحرج الذي وضعوا فيه، بل كذلك عن رأي شعبي واسع تجاه أداء الحكومة المتردي تجاه قضايا البلاد الملحة.
وكما هو الحال في مصر، فإن القوى اليسارية والليبرالية (وهي أقل حجماً بكثير من نظائرها في مصر واضعف شأناً) رحبت بمذكرة الجيش ورأت فيها نصراً مبيناً. أما الإسلاميون فقد انتقدوا المذكرة بشدة واعتبروها بمثابة محاولة انقلابية. ولكن الإشكال هو أن قادة الجيش لم تكن لديهم خطة انقلابية، وإن كان التهديد بالانقلاب مضمراً في المذكرة التي منحت الحكومة مهلة محددة للاستجابة لمطالبها. وخلال الأسابيع التي تلت، كانت قيادة الجيش في حالة تمرد فعلي وخروج عن طاعة الحكومة المنتخبة. وكانت قيادات الجيش تأتي إلى الاجتماعات مع قيادات الحكومة في حراسة عشرات الجنود المدججين بالسلاح، بينما كانت الأسلحة في حالة تأهب واستعداد. وقد كان القوم يتحسبون من هذا لوضع مماثل وجد فيه وزير الدفاع المستقيل نفسه في ظل نظام الرئيس الاسبق جعفر النميري، حين كان خليل وقتها يشغل منصب قائد الجيش والنائب الاول لرئيس الجمهورية. وقد وقعت مواجهة بين الرئيس والجيش بقيادة خليل وقتها، وضع هؤلاء فيها مطالب محددة. وقد وعد الرئيس الضباط بالرد على مطالبهم في اليوم التالي ودعاهم إلى لقاء آخر. ولكنه هذه المرة جاء مستعداً، حيث أوسعهم شتماً وتحقيراً ثم أقالهم جميعاً، بمن فيهم نائبه.
بعد مداولات استمرت أسبوعين، استجاب المهدي لمطالب الجيش، وقام بحل الحكومة وتشكيل حكومة أخرى صادقت على اتفاقية الميرغني-قرنق. ولكن الإسلاميين رفضوا المشاركة في تلك الحكومة واعتبروها نتيجة غير شرعية لعملية "انقلابية". الطريف أن مراسلي الصحافة المصرية في الخرطوم وضباط المخابرات فيها (والصفتان كثيراً ما تنطبقان على نفس الشخص) عبروا وقتها عن أسفهم لما وصفوه بتراجع الجيش عن تسلم السلطة بحسب ما كانت مصر ترجو وتأمل. ولهذا السبب رحبت مصر والسعودية والإمارات بانقلاب البشير عندما وقع في الثلاثين من يونيو (وهو –ويا للمفارقة- نفس تاريخ "ثورة" أعداء الديمقراطية في مصر)، ظناً منها بأن الجيش قد استجاب أخيراً لمناشداتها. فقد كان النظام العربي يخشى أكثر ما يخشى تهديدين خطيرين: أولهما الديمقراطية وفكرة أن الشعب هو مصدر السلطات، والثاني هو الحركات الإسلامية. وفي السودان وقتها كما كان الحال في مصر عهد مرسي، اندمج الخطران معاً فكانت هذه الكارثة والمصيبة، والقارعة التي تهدد أسس تلك الأنظمة. فكان لا بد من التحرك للتخلص من هذا "التهديد" الخطير.
هناك أكثر من عبرة للقوى السياسية في مصر مما وقع في السودان. أولها أنه في مثل هذه المواجهات، فإن الحق كله لا يكون مع طرف واحد. فقيادة الجيش كانت على حق في أن الوضع التي وجدت نفسها لم يكن محتملاً، وفي أن الحكومة – التي لم تكن تمثل كل أطياف المجتمع- قصرت في واجباتها ولم تول جهود الحرب والسلام الجدية اللازمة. ولكن في نفس الوقت، لم يكن من حق قيادات الجيش أن تتمرد على السلطة المنتخبة أوتهدد بالانقلاب، وإن كان من حقها أن تتبع سنة وزير الدفاع وتعلن الاستقالة أو تهدد بها، مما كان سيشكل ضغطاً كبيراً على الحكومة.
من جهة أخرى فإن معارضي المذكرة واتفاقية الميرغني-قرنق كانوا على حق في نقاط معينة. ففي العملية الديمقراطية، من غير المقبول أن تأتي جهة سياسية إلى طاولة المفاوضات مع القوى السياسية السلمية وهي تحمل مسدساً. فالمفاوضات يجب أن تكون بين أطراف سلمية أو أطراف مسلحة. وقد تم تعقيد المسألة بدخول الجيش على الساحة ك "طرف ثالث"، أي "مفاوض" يحمل السلاح، ولكن ليس في مواجهة الفصيل المسلح الآخر، وإنما في مواجهة الحكومة المنتخبة. وقد كان في هذا الاعتراف العلني للجيش بعجزه عن مواصلة الحرب رسالة لحركة التمرد بأن البلاد بصدد الاستسلام لكل إملاءاتها وليس لديها بديل آخر.
أما العبرة الثانية فكانت في ترحيب قوى سياسية "ديمقراطية" بمذكرة الجيش (ومنها قوى ظلت تهلل لحركة التمرد واستخدامها للعنف كأداة لتحقيق أهداف سياسية ضد حكومة ديمقراطية)، وهو ترحيب أضعف حجتهم عندما تدخل الجيش لمصلحة الطرف الآخر. بل إن كثيراً من هذه القوى –والجهات الداعمة لها من الخارج مثل مصر والسعودية- رحبت بانقلاب الثلاثين من يونيو في أول الأمر ظناً منها أنه مثل استمراراً لمذكرة الجيش وتنفيذاً لها، ولم تفعل اتفاقيات دعم الديمقراطية التي تواثق الجميع عليها، فشربت المقلب. والدرس هنا هو أن من مصلحة الجميع احترام قواعد اللعبة الديمقراطية، لأن ضحايا العنف والانقلابات لن يكونوا دائماً من طرف واحد.
أما العبرة الأخيرة فهي أن كثيراً ممن تحمسوا لانقلاب الثلاثين من يونيو –وقد كنا للأسف من بينهم- ظناً منهم –تماماً كما اعتقد مناصرو انقلاب السيسي في مصر- أنه يعيد الأمور إلى نصابها ويعيد ترتيب الساحة السياسية على أسس سليمة، اكتشفوا بدرجات متفاوتة من السرعة خطأ هذا الاعتقاد. فقد تعمقت الأزمة السودانية بدلاً من أن تحل، بل إن نسبة مقدرة ممن كانوا على رأس تدبير الانقلاب وتنفيذه أصبحوا فيما بعد من ضحاياه.
نصيحتنا إذن لإخوتنا في شمال الوادي هي أن العاقل من اتعظ بغيره، وأن أسوأ ما يمكن أن يقع اليوم هو أن يتورط مدبروا الانقلاب في أعمال عنف وقمع وإجراءات بوليسية ومجازر وتعذيب تضعهم في خانة المجرمين، وتخلق دواعي انقسام جديدة في المجتمع المصري. لقد بإمكان انقلابيي الثلاثين من يونيو في السودان أن يسعوا إلى تفاهم مع القوى السياسية على "خارطة مستقبل" تؤدي إلى توافق حقيقي وتقود البلاد نحو الاستقرار، ولكنهم اختاروا الاستبداد بالرأي، ثم تورطوا في أفعال أصبحت بدورها أغلالاً في أعناقهم وعقبة أمام أي توافق جديد. فليحذر من رحب بانقلاب مصر وتورط فيه من هذا المنزلق الخطير، وأن يسارعوا بالخروج من قاع البئر، لا إلى الغوص أكثر في المستنقع. فما يمكن معالجته اليوم بجلسة حوار قد يحتاج غداً إلى محاكم وبعد غدٍ إلى حرب أهلية، ثم قد تأتي مرحلة لن يكون فيها هناك أي علاج.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]