دعاة السُّلطة ونُصحاء السُّلطان: الدكتور غازي صلاح الدين نموذجاً
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
7 April, 2013
7 April, 2013
قبل ست سنوات مضت كتبتُ مقالاً بعنوان "دعاة السُّلطة ونصحاء السُّلطان"، مستأنساً بمقال نشره الدكتور التجاني عبد القادر عن "أسرَّة الحُكام"، في صحيفة الأحداث (المرحومة)، العدد 79، 16/12/2007م. وكانت إشكالية أسرَّة الحكام تدور حول الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملكبن مروان،ومجالس حواره مع النُصحاء والحُكماء والعلماء أمثال رجاء بن حيوة الكندي، الذي اقترح عليه ترشيح عمربن عبد العزيز للخلافة، وقد أثمر ذلك الترشيح في انجاب "خليفة راشد خامس، كاد أنيحدث انقلاباً داخلياً في الأسرة الأموية الحاكمة". ويرى التيجاني أن صاحب هذه المبادرة: "لم يكن مديراً لجهاز المخابرات، أو رئيساً لمجلس الشورى، أو أميناً لدائرة العلاقات السياسية، أو مبعوثاً خاصاً من قبل الإدارة الأمريكية"، وهنا إشارة ضمنيَّة إلى آليات صنع القرار في السُّودان.
وحاولتُ في ذلك المقال أن أُذكِّر الأخ التيجاني والقارئ الكريم بأن أدبيات التراث الإسلامي،التي تدعي بعض الحركات الإسلامية الالتزام مرجعيتها لتطفيف الرأي العام، تذخر بمثل هذه الأمثلة، وذكرتُ منها موقف الصحابي الجليل أبي حازم، الذي دعاه الخليفة سليمان إلى أحد مجالس نُصحِهِ، طالباً منه أن يذكرّه في أمور الدنيا والدين، وذلك بقوله: "فما الذي تقول فيما نحن فيه؟ "فردَّ أبوحازم عليه، قائلاً: "يا أمير المؤمنين أوتَعفيني من ذلك"؟ فقال الخليفة: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليَّ. فقال أبوحازم: "إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا المُلك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضىً، حتى قتلوا عليه مقتلةً عظيمة، وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا، وما قيل لهم ..." وقبل أن يكمل أبا حازم نصيحته، وقع الخليفة مغشياً عليه. فكان رد فعل أحد علماء السُّلطان: "بئس ما قلت يا أباحازم!"، فرد عليه صاحبنا بقوله: "كذبت يا عدو الله، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه." وفي هذه الأثناء أفاق الخليفة سليمان وقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟". قال: "تدع الصلف، وتستمسك بالمروءة، وتقسم بالسويَّة".ويبدو أن الخليفة في قرارة نفسه قد استحسن نُصح أبي حازم، فبعث إليه بمائة دينار، وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير. فردَّها أبو حازم عليه معاتباً: "يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردّي عليك باطلاً، فو الله ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؟ يا أمير المؤمنين إن كانت هذه المائة عِوضاً لما حدثتك، فالميتة ولحم الخنـزير في حل الاضطرار أحلُّ من هذه، وإن كان حقاً لي من بيت المال فلي فيها نظر ..." ومضى في قوله: "يا أمير المؤمنين إنبني إسرائيل ما داموا على الهُدى والرُشد كان أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم، فما رئي قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء يريدون به الدنيا، استغنت الأمراء عن العلماء، فتعسوا ونكسوا وسقطوا من عين الله عز وجل، ولو أن علماءهم زهدوا فيما عند الأمراء لرغب الأمراء في علمهم، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء، فزهدوا فيهم وهانوا في أعينهم." فكان الزهري حاضراً في مجلس الخليفة فقال: لأبي حازم: إياي تعني وتعرِّض بي؟" فقال له أبوحازم: " لا والله ما تعمدتك، ولكن هوما تسمع !"
لا جدال أن هذا الحوار يذكرنا بما يدور الآن في أروقة السياسة السُّودانية بشأن ترشيخ الرئيس عمر حسن أحمد البشير (1989-2013م) لولاية ثالثة في الحكم، استناداً إلى تبريرات بعض القطاعات السياسية المشغولة بسؤال "مَنْ يحكم السُّودان"، دون التفكير في سؤال "كيف يُحكم السُّودان"، وهذه واحدة من المشكلات التي يعاني منها هذا القُطر، الغني بأبنائه وموارده الطبيعية، الفقير بقياداته السياسية. لأن قضية "مَنْ يحكم السُّودان" تجعلنا ندور في فلك الأشخاص والتطلعات الذاتية، بعيداً عن القيم المعيارية للحكم، وذلك بخلاف إشكالية "كيف يُحكم السُّودان" التي تدفعنا إلى البحث عن الخيارات والآليات المناسبة.
ومن القيادات السياسية التي بدأت تفكر في هذا الاتجاه، بعد أن تمرقت في تجربة الحكم بخيرها وشرها، الدكتور غازي صلاح الدين، الذي يُعدُّ من قادة مذكرة العشرة التي أبعدت الدكتور حسن الترابي عن دفة الحكم، واسهمت في نشوب صراع القصر والمنشية، الذي أفضى إلى انشقاق الحركة الإسلامية والحزب الحاكم في السُّودان. ومواقف الدكتور غازي التي تصب في هذا الاتجاه نجدها منشورة في العديد من الوسائط الصحافية، وأشهرها موقع تواصله الاجتماعي على الفيس بوك (http://www.facebook.com/ghaziatabanifans?filter=1)، ومن أقواله المشهورة التي لم تحظ باستحسان النخبة الحاكمة: "ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺣﺮﻛﺔ ﺣﺎﻛﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﻋﻀﻮﻳﺘﻬﺎ، ﻭﻓﻖ ﻋﻬﺪ ﺍﻟﺘﺄﺳيس ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺎمت ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻓﻲ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺣﺮﻛﺔ ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺪﺳﺘﻮﺭ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﻭﻗﻮﺍﻧﻴﻨﻬﺎ"،ويقول أيضًا: "من أكثر أنواع التفكير هشاشة، وأقلها جدوى في الحكم على الأمور وتحليلها هو:ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﻲ، أو ﺍﻟﻮﺟﺪﺍﻧﻲ، ﻭ يُقصد ﺑﻪ ﻓﻬﻢ ﺍﻷﻣﻮﺭ وتفسيرها، ﻭﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﻭﻓﻘاً لإنطباعات ﺍﻟﻔﺮﺩ، ﺃﻭ الأشياء المألوفة لديه، وهذا التفسير يتسم بالسطحية، والتبسيط، والتسرع، وكل هذه من مساوي التفكير بشكل عام؛ لكن أسوأ ما في التفكير العاطفي هو أنهتفكير بخيارات محدودة، ويحصر الحلول، ويصنف الرؤي على طريقة أبيض أو أسود، وصح أو خطأ". ثم يمضي أبعد من ذلك، ويقول: "ظاهرة (الكنكشة) السياسية هي ظاهرة غير حميدة، ومن المؤكد أن التجارب التي لا تفسح المجال لقيادات شابة، ولا تخضع لتجديد الدماء، فهي ستنهار على المدى القريب، وليس البعيد". ويبدو أن بعض قيادات المؤتمر الوطني قد ضاقت زرعاً من مثل هذه التصريحات؛ لدرجة دفعت بعضهم إلى القول بأن الدكتور غازي كان يقف خلف الحركة الانقلابية الأخيرة، ويشجع من طرف آخر ما يعرف بـ "السائحين الإصلاحيين". وبناءً على ذلك اغتنموا فرصة تصريحه القاضي بعدم دستورية ترشيخ الرئيس البشير لولاية ثالثة؛ ليصفُّوا خصوماتهم السياسية التي تصب في إطار مصالحهم الشخصية دون النظر في متطلبات المصلحة العامة. واستجلاءً لهذا الموقف أصدر الدكتور غازي صلاح الدين، في موقع تواصله الاجتماعي، بياناً توضيحاً، جاء فيه:
"ﺑﺴﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ
أود أن أصحح أنَّ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﺗﻪ ﻓﻲ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﺣﻮﻝ ﺗﻌﺬﺭ ﺗﺮﺷﻴﺢ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻭﻓﻖﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﺍﻟﺮﺍﻫﻦ، ﻟﻴﺲ ﺭﺃيًا ﻣﺘﻌﻠقًا ﺑﺄﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ،ﻭﻻ ﺑﺠﺪﻭﻯ ﺗﺮﺷﻴﺤﻪ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﻟﻨﺺ ﻣﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻟﻲ ﻟﺴﻨﺔ 2005م؛ ﺇﺫ ﺗﻨﺺ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 57 ﻋﻠﻰ ﺃﻥ: "ﻳﻜﻮﻥ ﺃﺟﻞﻭﻻﻳﺔ ﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺧﻤﺲﺳﻨﻮﺍﺕ، ﺗﺒﺪﺃ ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﺗﻮﻟﻴﻪ ﻟﻤﻨﺼﺒﻪ، ﻭﻳﺠﻮﺯ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﻪ ﻟﻮﻻﻳﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ." ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺄﺧﻮﺫﺓ ﺑﺤﺬﺍﻓﻴﺮﻫﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 41ﻓﻲ ﺩﺳﺘﻮﺭ 1998م، ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺳﻘﻄﻨﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﺳﻨﺠﺪ ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻗﺪ ﺗﻮﻟﻰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻓﻌﻼ ﺑﻌﺪ ﺃﺩﺍﺋﻪ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 2005 ﻭﺟﺪﺩ ﻟﻪ ﻟﻮﻻﻳﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﻪ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ2010م، ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺪﻉ ﻣﺠﺎﻻ ﻟﻠﺘﺠﺪﻳﺪ ﻟﻪ ﻟﻮﻻﻳﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﺩﻭﻥ ﺍﻹﺧﻼﻝ ﺑﻌﺒﺎﺭﺓ "ﻓﺤﺴﺐ." ﻭﻟﻴﺲ ﺑﺸﻲ ﺀﺭﺃﻱ ﻣﻦ ﺭﺃﻯ ﺃﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻻ ﺗﺤﺴﺐ ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﺎً، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﻟﻠﻨﺺ ﻣﺎ ﻻﻳﺤﺘﻤﻞ، ﻷﻥ ﺍﻟﻨﺺ ﻻ ﻳﺄﺑﻪ ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺄﻫﻞ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻟﻠﺮﺋﺎﺳﺔ ﺃﻫي باﻻﻧﺘﺨﺎﺏ، ﺃﻡ ﺑﺎﻟﺘﺮﺍﺿﻲ، ﺃﻡ ﺑﻘﻮﺓ ﺍﺗﻔﺎﻗﻴﺔ ﺍﻟﺴﻼﻡ. ﺍﻟﻨﺺ ﻳﺸﻴﺮ ﻓﻘﻂ ﺇﻟﻰ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀ ﻭﻻﻳﺔ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ، ﻭﻻ ﻳﺬﻛﺮ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﻪ ﺇﻻ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻟﻮﻻﻳﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ.ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﻔﻨﻴﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ، ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺃﺟﻤﻊ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻣﻮﺭ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﻻ ﺗﺴﺘﻘﻴﻢ ﺇﻻﺑﺎﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻟﻠﺮﺋﻴﺲ ﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﺮﻭﻧﻬﺎ ﻓﻌﻠﻴﻬﻢ ﻋﻨﺪﺋﺬ ﺗﻌﺪﻳﻞ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ، ﺃﻭﺇﺻﺪﺍﺭ ﺩﺳﺘﻮﺭ ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺘﺠﺪﻳﺪ ﻏﻴﺮ ﻣﻘﻴﺪ ﻟﻠﻮﻻﻳﺔ، ﻟﻜﻦ ﻫﺬﻩ ﻗﻀﻴﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺗﺸﺎﻋﻴﺐ ﻳﻀﻴﻖ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﻋﻦ ﺍﻟﺨﻮﺽ ﻓﻴﻬﺎ."
لكن يبدو أن موقف الخصوم كان أقوى من موقف الدكتور غازي صلاح الدين داخل أروقة الحزب الحاكم، بدليل أنهم تمكنوا من إصدار قراراً يقضي بإعفائه من رئاسة الكتلة البرلمانية لنواب المؤتمر الوطني. فعلَّق الدكتور غازي، بطريقة غير مباشرة على هذا القرار، عندما استأنس بقول ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﺒﺼﺮﻱ ﺭﺣﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ: "ﻓﺴﺎﺩ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻣﺘﻮﻟﺪ ﻣﻦ ﺳﺘﺔ ﺃﺷﻴﺎﺀ، ﺃﻭﻟﻬﺎ: ﻳﺬﻧﺒﻮﻥ ﺑﺮﺟﺎﺀ ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ، ﻭﻳﺘﻌﻠﻤﻮﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﻻﻳﻌﻤﻠﻮﻥ ﺑﻪ، ﻭﺇﺫﺍ ﻋﻤﻠﻮﺍ ﻻﻳﺨﻠﺼﻮﻥ، ﻭﻳﺄﻛﻠﻮﻥ ﺭﺯﻕ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻻﻳﺸﻜﺮﻭﻥ، ﻭﻻ ﻳﺮﺿﻮﻥ ﺑﻘﺴﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﻳﺪﻓﻨﻮﻥ ﻣﻮﺗﺎﻫﻢ ﻭﻻﻳﻌﺘﺒﺮﻭﻥ." فلا شك أن هذا الاقتباس من البصري، يعكس طرفاً مما يدور بخلد الدكتور غازي تجاه ممسكين بزمام السُّلطة، ومن طرف آخر يوضح شعوره بالمرارة والغبن. وفي الاتجاه المعاكس يقودنا هذا القرار إلى الزعم بأن المؤتمر الوطني الحاكم ربما يسعى إلى إصدار مسوغ دستوري لترشيخ البشير لولاية ثالثة.
إذاً إلى أي جهة يسير الدكتور غازي صلاح الدين؟ هل تجاه تكوين حزب جديد كما زعمت صحيفة الشرق الأوسط؟ أم سيواصل صراعه داخل المؤتمر الوطني وقبة البرلمان بأن الدستور يجب أن يكون المرجعية بشأن ترشيخ ممثل الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة لسنة 2015م؟ وفي كلا الحالين موقفه أشبه موقف الراهب الكاثوليكي مارتن لوثر؛ لأنه عندما نشر رسالته المناهضة لصكوك الغفران، وممارسة الكنسية الكاثوليكية غير الشرعية، كان مصيره "الحرمان من رحمة الكنيسة"، وتعاظم الأمر بحرمانه من حقوقه المدنية، عندما حدث التحالف بين الكنيسة والإمبراطورية. والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه، هل ستكون نهاية الدكتور غازي صلاح الدين احتراقاً سياسياً داخل أروقة الحزب الحاكم؟ أم تأسيس حزب "بروتستانتي" مناهضٍ للمؤتمر الوطني؟ فالزمان جدير بأن يجيب عن السؤال، في ذاكرة القراء قول الدكتور غازي: "أنا ابن تراب هذا البلد، سأكتب بدمي وثيقة ﺍﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﺿﺪ العصابات الإرهابية المجرمة العميلة التي استحلت دماء مواطنينا وأموالهم، سأوقع علي دفتر الشهادة دعماً لراية جيشنا الوطني، والتي رفعناها ﺟيلاً ﺑﻌﺪﺟﻴﻞ، ﻭﺧﻠفاً بعد ﺳﻠﻒ، ﺃﺻﻠﻬﺎ ﺍﻟﺜﺎﺑﺖ ﺍﻟﺪﻡ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ، ﻭﻓﺮﻭﻋﻬﺎ ﺍﻟﺤﺐ ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ، ﻭﺍﻟﻮﻻﺀ لتراب هذا البلد".
أذاً ما الدروس والعبر المستقاة من هذا الواقع السياسي المتمركز في سؤال مَنْ يحكم السُّودان، دون النظر في إشكالية "كيف يُحكم السُّودان"، التي تحتاج إلى حلٍّ موضوعي يتجاوز صراعات الأشخاص ومصالحهم، ويرتقي بالحوار والجدل السياسي إلى مصافي المصلحة العامة.
أولاً: إن غياب الديمقراطية في أي صورة من صورها يعني فساد السُّلطة والسُّلطان، لأن الديمقراطية (أو الشورى) من مستلزمات الفطرة، ومن سنن استقرار المجتمع، فهي ليست هدفًا في حد ذاتها بل شُرعت كوسيلة لتحقيق العدل والطمأنينة بين الناس، وتنفيذ مقاصد الوجود الإنساني على أديم هذه الأرض. وتعدأيضاً مبدأً إنسانيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا، إلى جانب كونها قاعدة لنظام الحكم وتداول السُّلطة، وحقّاً مثبوتاً للجماعة تستخدمه في اختيار من يمثلها، ومن خلاله تتحمل المسئولية الجماعية تجاه القرارات التي يصدرها ممثلوها، لأنها تملك الشعور بالمشاركة في صياغتها بطريق مباشر أو غير مباشر، ومن ثم يضحى لزاماً عليها حماية مثل هذه القرارات وصونها، لأنها تصب في معين المصلحة العامة. فلا جدال أن تطبيق الديمقراطية بهذه الكيفية يسهم في القضاء على فوضوية الإقصاء السياسي التي يمارسه الحكام، ويقلص دائرة نفوذ علماء السوء ونصحاء السُّلطان الطامعين في خزائن الدولة وشارات الحكم والولاية، والذين يصفهم الدكتور الأفندي بـ"أنصار الاستبداد"، الذين "ألفوا الاستكانة وقعدوا عن طلب حقهم، ورضوا باستصغار أنفسهم أمام أهل السُّلطان،مهما صغر شأنهم ومكانتهم، لأنهم يرون كل وظيفة مغنماً، ويرون الحاكم سيداً متصرفاً في مال الأمة لا خادماً من خدامها".
ثانياً: إن غياب التواصل الإيجابي بين النصحاء والحكام يفضي إلى فساد السُّلطة وجور السُّلطان، وعليه فإن وجود النصحاء والعلماء في أروقة السُّلطة والسُّلطان يجب أن يكون وجوداً مؤسسياً، قوامه الكفاءة التي تسهم بدورها في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتهدف إلى تفعيل العلاقة المحاسبية بين السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، ويجب أن تكون مرجعية هذا التواصل والتفاعل قائمة على قواعد دستورية، وقوانين مرعيَّة، تهدف إلى توجيه مسار العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، والقضايا المرتبطة بالشأن العام والخاص.
ثالثاً: إن انشغال الساسة في السُّودان بسؤال مَنْ يحكم السُّودان؟ ومن يدير الحزب الحاكم، أو المعارض؟ قد أفسد الواقع السياسي، وعطلَّ عجلت التحول الديمقراطي في مستوياتها العليا (إدارة الدولة) ومستوياتها الدنيا (إدارة الأحزاب السياسية)؛ لأن النخب السياسية المثقفة أضحت مشغولة بمصالحها الذاتية؛ لذلك تجدها تصدع من المنابر العامَّة بأن رئيس الحكومة، أو زعماء الأحزاب السياسية الحاليين لا بديل لهم في المرحلة الراهنة؟ كأن حواء لم تنجب بعد!! دون إدراك بأن القيادات السياسية والحزبية لا تصنعها الأماني والتصورات الحالمة، بل تصنعها المؤسسية، والحراك السياسي الديمقراطي الراشد، بعيداً عن الاطماع الشخصية. والشاهد في ذلك أن الدكتور مهاتير محمد عندما تنحى عند سُدة الحكم والحزب الحاكم في ماليزيا، كان بعض البسطاء من رجال السياسة يعتقدون أن تنحيه يعني انهيار الدولة الماليزية، دون أن يدرك هؤلاء أنَّ الرئيس مهاتير قد صنع مؤسسات حاكمة، ولم يربط وجود تلك المؤسسات باستدامة شاغلها، بل خلق آليات لتفريخ القيادات المؤهلة والقادرة على تحمل المسؤولية من بعده، وهنا تكمن عظمة القيادة السياسية، وكذلك الحال بالنسبة للمناضل السياسي الإفريقي نلسون مانديلا. ولا عجب أن هذه الشواهد تقودنا إلى تعديل صيغة السؤال المطروح دوماً في السُّودان: هل توجد قيادة بديلة؟ علماً بأن بعض القيادات السياسية والحزبية قضت في مناصبها أكثر خمسة عقود من الزمان، ولم تستطع أن تخلق قيادات مؤهلة تخلفها، هل مثل هذا الواقع يدفعنا إلى القول بأن هذه القيادات يجب أن تكون دائمة في مناصبها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟ أم إلى المطالبة الملحة بأن هذه القيادات قد عجزت أن تخلق واقعاً مؤسسياً للأجيال اللاحقة لتحمل الراية من بعدها، ومن ثم يجب البحث عن قيادات بديلة لها. إذا أمعنا النظر في طبيعة الأسئلة التي تُطرح في مثل هذه الظروف، والإجابات الصادرة بشأنها، نجزم القول بأن الأزمة التي يعاني منها السُّودان، وبقية دول العالم العربي والإفريقي، ترتبط في المقام الأول بالتعالي النرجسي الذي يسلكه السياسي المثقف تجاه النقد الذاتي، وسماع الرأي الآخر. وإذا كانت هناك أي قدرة بشرية في هذا الكون قادرة على مسخ حياة المثقف الفكرية المتقدة، والتأثير عليها تأثيراً سالباً، ثم قتلها قتلاً معنوياً، كما يرى الدكتور إدوارد سعيد، فهي تكمن في مثل هذه الطباع السلوكية،التي دفعت ثلة من المثقفين إلى إيقاد البخور تحت أرجل غاصبي السُّلطة والسُّلطان، كما هو الحال الآن سوريا وغيرها من البلدان العربية.وعليه يجب أن ينظر القارئ في هذه الملاحظات بعين فاحصة، دون السماع إلى أراء أولئك الذين يؤثرون تضليل الحكام في الخفاء، ويعتقدون أن إفشاء النُصح في العلن فيه تشهير وتقليل من قيمة السُّلطان، دون أن يأخذوا في الحسبان أن مجالس السر تفضي إلى غياب الشفافية، وتحجب الناس من ممارسة حقهم المشروع في مساءلة سلاطينهم وحُكامهم، الذين يتولون أمرهم أما عبر قنوات انتخابات حرة ونزيهة، أو في أغلب الأحيان عن طريق القهر والاستبداد.
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]