دعوة البعث للمحافظة أم للتجديد

 


 

 

أن أي دعوة للإصلاح تنطلق من عناصر سياسية ذات انتماء، أو عناصر تعمل في مجالي الفكر و الثقافة، و تهدف إلي إعادة النظر في المرجعية الفكرية، إلي جانب محاولة معرفة التغييرات التي حدثت في المجتمع المعني، أو في العالم، تكون الدعوة ذات تقدير و أحترام، و هي الخاصية التي تفتقدها الأحزاب السياسية السودانية، و أيضا هي الغفوة التي تجعل تلك القيادات لا تستفيد من التجارب السابقة لأنها لا تخضعها للدراسة و البحث. أن البروف محمد شيخون أحد رموز القومية العربية و أحد الأضلاع المهمة في تكوين البعث العربي الاشتراكي، قد بعث بعدد من الدعوات التي تتضمن العديد من الأسئلة حول عدد من القضايا، أولها المرجعية الفكرية، و قد وصلتني الدعوة ، و هي غير معنونة بالإسم مما يدل أنها وزعت لعدد واسع من يعتقد البروف يمكن أن يساهموا في الإجابة على الأسئلة المطروحة.
تقول الدعوة كما جاءت ( السلام عليكم ... كما هو معروف أن الجانب الفكري في الحزب هو من اختصاص المؤتمرات القومية، و آخر مؤتمر كان قبل ثلاثين عاما، شهد العالم متغيرات هائلة في مختلف الميادين، و من المؤكد أنها انعكست على الواقع العربي سلبا و ايجابا، و إذا ما أردنا أن نستوعب المتغيرات فكريا بما يتصل بأهداف الحزب التي تمثل أركان نظرية أو أيديولوجية نجد أن أفكار الحزب لم توثق في مصادر موحدة لكي تنطلق منها لتطوير فكر الحزب، و إعداد مشاريع في هذا الجانب تطرح على أول مؤتمر قومي.... فهل لديكم آراء بهذا الجانب؟ ) أولا الشكر للبروف على الدعوة، الثاني فاليعذرني البروف على التفكير بصوت عالي، خاصة أن السودان في أمس الحاجة لمثل هذه الحوارات و التصورات بهدف استنهاض العقل، و كما قال المفكر القومي عبد العزيز حسين الصاوي أن تآكل الثقافة الديمقراطية في السودان بسبب النظم الشمولية و تراكم ثقافتها لنصف قرن و نيف، تعتبر خصما على الثقافة الديمقراطية، مما يؤدي إلي تعثرها، مما يستوجب من المفكرين و المثقفين أن المساهمة في عملية الاستنارة من خلال مشروع قومي...
أن تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي الطويلة لم تكن خارج سياق السلطة بل كان حاكما في قطرين سوريا و العراق، و لكن طوال سنين حكمه أن ممارسته داخل السلطة لم تلامس شعاره " وحدة حرية أشتراكية" هل بالفعل كان بسبب أن الحزب يؤمن بدولة الحزب الواحد، أم أن هناك أختلالا في الشعار نفسه من الناحية الجدلية. بمعنى هل كل الخيارات الثلاث في الشعار هي مربوطة جدليا، بمعنى تحقيق واحدة منهم يسوق مباشرة للأخرى بشكل تفاعلي. أم أن التجربة أثبتت عكس ذلك؟ مما جعل النظامان يديرا ظهريهما للشعار. رغم أن الشعار يعد بمثابة خارطة عمل منهجية للحزب. القضية الأخرى هل فلسطين ماتزال تمثل القضية المركزية للبعث؟ أم تعددت القضايا المركزية حيث أصبح لكل قطر قضيته المركزية التي تهم شعبه؟ خاصة أن العديد من الدول العربية الآن تعاني من مشاكل بعضها يهدد الدولة في الحفاظ على سيادتها، كما يحدث في سوريا و العراق و السودان و اليمن و البحرين و غيرها. و دول أخرى أعلنت التصالح مع المحتل و أقامت معه علاقات دبلوماسية، أليست هذه تحتاج لمراجعة فكرية. أن تجربتي الحكم في كل من سوريا و العراق قد أثبتت أن العمل كان من أجل الحفاظ على النظام، مما جعل نظامي البعث يقدمان صلاحيات للأجهزة القمعية أكثر من الاهتمام بقضايا الحرية.
إذا رجعنا للسودان هل تعتقد أن استلاف دور الكرزمة في الحزب أهم من دور المؤسسية، خاصة أن أحزاب البعث في السودان رافعة شعار " التحول الديمقراطي" رغم أن القيادة في البعث محتكر لقرارات أمين سر القيادة، و هي ذات الثقافة التي خلفتها الطائفية في السودان " الشيخ و الحوار" فالكارزمة تملك سلطات مطلقة. كان المتوقع أن الأحزاب التي كان يطلق عليها قديما " أحزاب تقدمية" أي غير محتكرة للأسرة؛ هي التي سوف تضع المنهج الجديد لممارسة الديمقراطية، لكن للأسف أنها سارت في ذات اتجاه تقديس الكارزمة، الأمر الذي يجعل الكارزمة على قمة الحزب حتى زيارة عزرائيل. الأمر الذي يخرب بيئة الحزب و تظهر الشللية و التكتلات و جميعها يحاول تمجيد أمين السر، و تسبح بحمده، و أخرى تعارضه بالخفاء. أن بقاء القيادات و الكارزمات في قمة الهرم لسنين عددا هو الذي أضعف البعث و بقية الأحزاب السودانية من الناحيتين التنظيمية و الفكرية الثقافية. الضعف الفكري و الثقافي يخلق قيادات مترددة و ضعيفة و لا تسمح بأي حوارات فكرية يمكن أن تفتح داخل الحزب حتى لا تنفضح قدراتها المتواضعة.
أن التحولات التي جرت في العالم، و غياب الدول الاشتراكية و تحولها لليبرالية و اقتصاد السوق، كما فعلت الصين التي تبنت اقتصاد السوق رغم تمسكها بالماركسية، و نجحت في هذا التحول لأنها أحاولت أن تحل الإشكالية عبر مراجعات فكرية. و أيضا التحالفات الدولية الاستراتيجية و التي أصبحت على حدود السودان، هي ايضا تحتاج إلي إنتاج فكري جديد يتجاوز شعار " وحدة حرية أشتراكية" لآن قدسية الشعار تحد من العملية الفكرية، أو تجعل المجتهد أن يقدم رؤية مضطربة بسبب أنه لا يستطيع أن يتجاوز قدسية مفروضة عليه في عمل إنساني متغير باستمرار. أن قضية الديمقراطية أصبحت هي القاعدة التي يجب أن يلتقى على منصتها كل الناس، و بالتالي لا يجب أن تصبح مربوط بقضايا أخرى تعيق ترسيخها في المجتمع عبر أداتين التنظير و الممارسة. أيضا لا خيار أخر للسوق الحر، و من خلال اقتصاد السوق الحر يمكن أن يكون هناك دورا للدولة أن تلعبه مثل ما يحصل في الدول التي تسمى الديمقراطية الاجتماعية التي تهدف إلي العدالة الاجتماعية.
معلوم ان السودان دولة ذات تنوع و تعدد أثني و عشائري و قبلي، و كان قد و دار حوارا منذ ثلاثينيا القرن الماضي على صفحات مجلتي " الفجر و النهضة" عن الهوية، ثم انتقل الحوار على حقل الأدب بين " العروبية و الأفريقانية" و مازال الجدل مستمرا باعتبار البعض أن يجب أن يفضي لهوية يتفق عليها الناس، فالرفاق في حزب البعث مطالبين أن يقدموا رؤيتهم الفكرية. كانت مسار جدل داخل " حزب البعث الأصل (أدت إلي خروج كل من محمد على جادين و أيضا محمد بشير " عبد العزيز حسين الصاوي" و محمد وداعة و الحسين و محمد سيد احمد عتيق و أخرين ) الذين كونوا حزب البعث السوداني ‘لي أسس جديد بعد مراجعات فكرية. أن الدعوة في حد ذاتها هي خطوة متقدمة، و هذه رؤية سريعة بهدف لفت النظر لهذه الدعوة التي تضع لبنة للديمقراطية للبعثيين. شكرف بروف شيخون. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء