دغمسات سياسة سعر الصرف ونقدنة عجوز الميزانية

 


 

معتصم أقرع
25 March, 2018

 

 

اصبت بالقلق حين اطلعت علي التصريحات الانتصارية للسيد محمد عثمان الركابي وزير المالية السوداني بأن حكومته سوف تدفع بسعر الدولار من 30 جنيها الِي 18 جنيه . مصدر قلقي أن السيد الوزير يتحدث عن الاقتصاد بنفس المستوي العفوي الذي يتناول به رجل الشارع العادي قضايا الاقتصاد في الثرثرة اليومية . واذا كان رجل الشارع معذورا في الحديث عن الاقتصاد من زاوية مشاغله المعيشية الخاصة والعادية فإن المثقف، ناهيك عن وزير المالية – لا عذر له في التعامل الساذج مع قضايا أكثر تعقيدا بما يبدو علي السطح . فما يبدو كشحم في السطح قد يكون ورم سرطاني في حقيقته، والعكس أيضا قد يحدث . في تصريحه بأن حكومته سوف تدفع بسعر الدولار من 30 جنيها الِي 18 جنيها يبدو ان السيد الوزير لا يعي مخاطرتأجيج وتائر ارتفاع القيمة الحقيقية للجنيه السوداني المستمرمنذ عام 1989 ، وربما هو أصلاً لا علم له بتصاعد القيمة الحقيقية للجنيه دعك عن أثارها العميقة علي بنية الاقتصاد السوداني وأداءه.

لا عذر للسيد الوزير حتى لو تفاجأ القاريء العادي حين يعلم أن أن سعر الصرف الحقيقي للجنيه السوداني ظل في حالة ارتفاع متزايد في معظم سنوات الانقاذ الماضية، التي قاربت على الثلاثين، رغم ان سعر الصرفإلاسمي للجنيه انخفض من 12 جنيها للدولار في عام 1989 الِي اكثر من 30,000 جنيه في عام 2018 . كيف هذا؟

ببساطة، فإن التغير في سعر الصرف الحقيقي – وليس الاسمي الذي هو سعر السوق الظاهر - يساوي االفرق بين معدل التضخم في البلد المعني ومعدل التضخم في دول شركائها في التجارة ناقص التغير في سعر الصرف الإسمي وهو سعر السوق المعروف .

على سبيل المثال، إذا كان معدل التضخم في البلد 50٪ ومتوسط التضخم في بلدان الشركاء التجاريين 10٪، أذا فرق التضخم هو 40٪. فإذا انخفض سعر الصرف الإسمي للبلد بنسبة 10٪ فهذا يعني أن سعر الصرف الحقيقي قد ارتفع بنسبة 30٪ على الرغم من انخفاض سعر الصرف الاسمي بنسبة 10٪.

في سبيل التبسيط ، تذكر فقط أنه إذا كان معدل التضخم في البلد المعني أعلى من معدل انخفاض سعر الصرف في السوق، فإن هذا يعني أن سعر الصرف الحقيقي قد ارتفع، حتى لو انخفض سعر الصرف الإسمي. فاذا افترضنا ثبات الأسعار في دول شركاء في التجارة فإنه إذا كان معدل التضخم في السودان أعلي من معدل انخفاض قيمة الجنيه امام العملات الاجنبية تكون القيمة الحقيقية للجنيه قد ارتفعت مقارنة بالعملات الاجنبية .

هذه المقدمة النظرية تعني أن سعر الصرف الحقيقي للجنيه السوداني قد ظل ثابتاً بشكل عام في حالة ارتفاع خلال السنوات الثلاثين الماضية من حكم الإنقاذ. وأن هذا الارتفاع في القيمة الحقيقية للجنيه السوداني هو أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الاقتصاد السوداني.

ببساطة فإن سعر الصرف الحقيقي هو أحد أهم المحددات الرئيسية لمقدرة البلد التنافسية في الاقتصاد العالمي. ولذلك فإن سعر الصرف الحقيقي المرتفع، كما هوالحال في السودان، يعني ضعف المقدرة على المنافسة في السوق العالمي وضعف مقدرات المنتج المحلي علي منافسة السلع المستوردة. وبـذلك فإن إرتفاع سعر الصرف الحقيقي هو بمثابة ضريبة على الصادرات تعيق التوسع فيها كما أنه دعم للواردات يجعلها أكثر جاذبية من المنتج المحلي . وهكذا فإن ارتفاع القيمة الحقيقية للعملة الوطنية يضر بالمنتج المحلي الذي يفقد القدرة علي التصدير كما يفقد المقدرة علي المنافسة ضد السلع المستوردة. نتيجة إرتفاع سعر الصرف الحقيقي يعني أن صادرات البلد لا يمكن أن تنافس في الأسواق العالمية، و يعني أن السلع المستوردة في سوق البلد المعني أرخص من بدائلها التي تنتج محليا. وهذا يعني أن منتجي الصادر ومنتجي السلع المنافسة للواردات سوف يتضررون بتناقص الربحية النسبية وسوف يقللون من الإنتاج وربما يقومون بتصفية أعمالهم كاملا وكليا . وهذا يعني أن مجمل الإنتاج في البلد سوف يتدهور، وسوف تنخفض العمالة، ويتفشي ويتفاقم الفقر. وهكذا فإن إرتفاع سعر الصرف الحقيقي، كما هو الحال في السودان - يقود الِي تدني تنافسية الإقتصاد الوطني في السوق العالمية علي مستوي السلع القابلة للتصدير وتلك القابلة للإستيراد، الشيء الذي يترتب عليه تركز الاستثمار فقط في السلع االتي لا تخضع لمنافسة دولية- أي التي لا تصدر ولا يمكن إستيرادها من الخارج .

وفي المقابل سوف تنهار القطاعات الخاضعة للمنافسة في الأسواق العالمية بما أنها قابلة للتصدير والاستيراد مثل قطاعات الزراعة والصناعة. و القطاعات التي تتضرر من إرتفاع القيمة الحقيقية للعملة الناتج من تضخم الاسعار هي أس التنمية الحقيقية لأنها القطاعات الموفرة للعمالة والقابلة للتطور التكنولجي والتوسع غير المحدود لقدرتها علي تسويق منتجاتها علي مستوي العالم . و هذا النمط من توزيع االموارد هو ما يحدث حاليا في السودان وينتج عنه تركز الاستثمار في القطاع الخدمي مثل الأراضي والعقارات والمواصلات والمطاعم والكافتيريات وصالات الأعراس والخدمات بشكل عام بما أنه من الصعب استيرادها . وهذا النمط يفتك بقطاعات الزراعة والصناعة ويقود الِي بنية إنتاج شائه، ضعيف البنية، حيث يعد هذا بمثابة أحد أكبر تحديات التنمية علي المستوي الفني .

تتضح أهمية سعر الصرف الحقيقي علي المستوي المقارن في جميع التجارب الحديثة في مجال التنمية، مثل نهضة النمور الآسيوية والصين، عن طريق المحافظة علي أسعار الصرف الحقيقية في مستويات متدنية لمساعدة المصدرين والمنتجين للسلع المحلية الصناعية والزراعية التي تنافس الواردات.

كما ان المانيا تعد من اكبر الدول المصدرة في العالم وتتمتع بفائض ضخم في ميزانها التجاري لان سعر صرف اليورو ضعيف مقارنة بمستويات الانتاجية العالية وغياب التضخم في السوق الالماني الشيء الذي يضاعف من تنافسية المنتجات الالمانية . حول العالم في الجانب الاخر فان أحد اهم اسباب الازمة اليونانية الممتدة لعقد من الزمان ان سعر صرف اليورو عالي جدا مقارنة بمستويات الانتاجية والتضخم في اليونان مما نتج عنه انهيار الانتاج وتفشي العطالة . ولو كان لليونان عملة خاصة لأمكنها تجاوز أزمتها في فترة قصيرة جدا بتخفيض سعر صرف عملتها . لتشجيع جميع المنتجين . من المفيد أيضا ان نتذكر أنه عندما تختار الولايات المتحدة إثارة معركة تجارية مع الصين، فإنها تتهمها بالتلاعب السياساتي الذي ينتج عنه أسعار صرف ضعيفة لعملتها – المعروفة باليوانأو الرنمنبي - ، وهذا يصب في مصلحة المنتج الصيني علي حساب منافسه الأمريكي في السوق الأمريكي، إذا ما كان المنتج الصيني مصدراً وفي داخل السوق الصينية ،في حالة كون المنتج الصيني يصنع سلع خاضعة للمنافسة مع سلع مستوردة . ويجب ان نتذكر أيضا أن أحد الأسباب الرئيسية لإنشاء صندوق النقد الدولي كان إيقاف الدول عن تخفيض قيمة عملاتها فيما يعرف بالتخفيضات التنافسية التي تهدف إلى زيادة القدرة التنافسية على حساب شركائها التجاريين.

كل هذا يقود إلى قراءة التصريحات الأخيرة لوزير المالية بـأن حكومته سوف تدفع بـسعر صرف الدولار من 30 جنيها إلى 18 جنيها، علي انهـا ركوب غلط . لا أعتقد أن النظام سيكون قادرا على تحقيق هدف دفع سعر الدولار الِي حدود 18 جنيها أو حتى المحافظة عليه في تخوم الثلاتين جنيها لفترة طويلة من الوقت، ولكن إذا فعل، فهذا سوف يشكل ضربة قاصمة علي الإنتاج الزراعي والصناعي وعلي المصدرين ومنتجي السلع التي تنافس الواردات. . تعزيز سعر الصرف في السوق إلى 18 جنيه أو إلى أي مستوى آخر لا يمكن أن يكون مفيد إلا إذا سبقه تقليل مستوي تضخم الاسعار وإلا فان مضاره سوف تكون كارثية. المشكلة الحقيقية هي تضخم الاسعار. إن انهيار سعرالصرف هو عرض من أعراض المشكلة كما هو استجابة حميدة الِي درجة ما لهذا التضخم.

لا يهدف هذا المقال الِي الاحتفال بانهيار سعر العملة الوطنية وإنما هدفه الأساسي هو التذكير بأن تدني السعر الاسمي للعملة ليس سبباً في حد ذاته، وإنما هو عرض من أعراض مشكلة أعمق ، كما أن تدني السعر الإسمي للعملة لا يعني بالضرورة أن سعرها الحقيقي قد انخفض . الهدف من هذا المقال هو التذكير بان تحديد سعر العملة االحقيقي هو أحد أدوات السياسة الاقتصادية الأكثر أهمية و يمكن استخدامه بمهارة لتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني وللاستجابة لمجموعة متنوعة من الصدمات الاقتصادية السلبية. على سبيل المثال ، إذا شهد بلد ما تباطؤ في نمو الإنتاجية مقارنة بشركائه التجاريين ، أو إذا كان يعاني من معدلات تضخم أعلى ، ففي كلتا الحالتين يصبح المنتج أقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية كما في السوق المحلي ، حيث تصبح البضائع المستوردة أرخص وأفضل وأكثر جاذبية. ويقود هذا إلى تراجع الانتاج المحلي واضعاف أو وإغلاق العديد من المصانع والمزارع والمؤسسات الاقتصادية في البلاد ، مما يؤدي إلى زيادة البطالة والأزمة المالية (ارتفاع العجز في الميزانية) ، حيث أن الإيرادات الضريبية ستنخفض مع انخفاض المداخيل . إن الحل لمثل هذه المشكلة بسيط للغاية: يجب على البلاد خفض قيمة عملتها لان هذا سيجعل ارباح الصادرات اعلي بالعملة المحلية مما يزيد من تنافشيتها في الأسواق العالمية كما إن تخفيض قيمة العملة يجعل الواردات أكثر تكلفة في الأسواق المحلية للبلاد ، لذا فإن مواطنيها سيشترون كميات أقل من السلع المستوردة ويزيدون من شراء السلع المنتجة محلياً (لذا سيزداد الإنتاج المحلي المستهلك في الأسواق المحلية). وبهذه الطريقة سيزيد الإنتاج في البلاد ، وسوف تتوسع فرص التوظيف ، وستزداد العائدات الضريبية ، وسيهبط الإنفاق الحكومي على الجيوش العاطلة عن العمل.

الأفة الحقيقية الذي تقود الِي انهيار سعر الصرف الاسمي- وليس الحقيقي - هي التضخم، وسبب التضخم هو أن الحكومة تطبع العملة بإفراط لتمويل أنشطتها التي تهدف الِي الحفاظ علي النظام وإثراء زبانيته . بحسب الأرقام الواردة من بنك السودان , يبدو ان الحكومة في عام 2017 بطبع 64 تريليون جنيه – أي 64 ألف مليار جنيه . وهذا هو السبب الوحيد تقريبا في تضخم الأسعار وإنهيار قيمة الجنيه الإسمية مقابل العملات الاجنبية وليس السبب هو جشع التجار أو تجار العملة كما تدعي الحكومة التي تجيد إسقاط عيوبها علي الآخرين للتهرب من المسؤلية والبحث عن الحلول في الفضاء الأمني بما أنه المجال الوحيد الذي تجيد الأداء فيه . وبهذا فإن النظام في عام 2017 فقط ، قد طبع كم من النقد يفوق نصف ما قامت كل الحكومات السابقة في التاريخ بطبعه منذ أن عرف السودان النقود.

سبق أن نبهنا الِي أنه من المستحيل صناعة ثروة حقيقية بطباعة النقود السهلة. عليه فان طباعة 64 تريليون هي في حقيقتها تحويل للثروة من جيب المواطن الِي جيب الحكومة في ما يعرف بضريبة التضخم ، أي أن ارتفاع الأسعار هو نوع من الضريبة التي تفرضها الحكومة علي المواطن عن طريق طباعة العملة . بـطباعة العملة بإفراط وباستمرار يمكن للحكومة أن تصادر، سرا، دون رقابة، جزءا مهما من ثروة مواطنيها. مقدار المال المصادر يساوي ما يخسره المواطن/ة من القيمة الحقيقية لدخله/ا (تناقص القوة الشرائية) نتيجة لتضخم الاسعار وانهيار سعر الصرف الناتج عن الطباعة المفرطة للعملة. تضخم الأسعار وإنهيار سعر الصرف هما بالظبط عبارة عن ضريبة غير شفافة تفرضها الحكومة عن طريق طباعة العملة لتمويل نفقاتها. عليه فإنه لو تضاعفت الأسعار علي سبيل المثال، يفقد المواطن تقريبا نصف دخله الحقيقي ، ويذهب هذا النصف الِي جيب الحكومة .

مما تقدم يتضح أن لب المشكلة يكمن في ركون الحكومة الِي طبع العملة لتمويل صرفها الذي يفوق دخلها الضريبي والقروض والمساعدات الخارجية ، في ما يعرف بـ "نقدنة العجز المالي". ينتج عن هذه النقدنة تضخم الأسعار الذي يفقر المواطن بإضعاف القدرة الشرائية لدخله كما أنه يقود، في الحالة السودانية، الِي إنهيار السعر الإسمي لسعر الصرف، وفي نفس الوقت يقود الي إرتفاع سعر الصرف الحقيقي الذي يقود الِي تقزيم الإنتاج الزراعي والصناعي ويخلق اقتصاد خدمي ضعيف تسوده بقالات وكافتيريات وشركات اتصال ومطاعم وصالات أعراس وركشات ودرداقات وتراحيل وخدمات اخري , رغم اهميتها , إلا انها محدودة الأفق التنموي بـما انها لا يمكنها التعويض عن الدور المفقود لقطاعات الصناعة والزراعة لانها تفتقد الدينامية التكنولوجية ولا توفر فرص عمل علي مستويات واسعة بتوزيع جغرافي مفيد سياسيا.

وهكذا فان سياسات النظام النقدية ادت الِي تراجع سعر الصرف الاسمي مما ارهق المواطن بالغلاء الذي يترتب علي ذلك , وقادت نفس هذه السياسات الِي ارتفاع القيمة الحقيقة لسعر الصرف الذي اصاب البنية الانتاجية بأضرار بليغة شوهت الاقتصادوكسحت من قاعدته الانتاجية. قبل أن يعيد صانع القرار من أهل النظام سعر الدولار الِي 18 جنيها، عليه الكف عن الركوب الغلط علي المستوي المفهومي ومحاربة التضخم بترشيد صرف النظام والتوقف عن طبع العملة لتمويل صرف الحكومة ونقدنة عجوزاتها المالية .

معتصم أقرع

elagraa@gmail.com
24 مارس 2018

 

آراء