دكتور بريمة.. فجيعة الغياب وعروج الإرتحال
بسم الله الرحمن الرحيم
Kha_daf@yahoo.com
وأنت حيا تسعي بين الناس كنت أدرك أنك فوق ما يلد الزمان و فوق ما تهب الحقول كما قال الكتيابي عن صديقه عبدالقادر، لأنك كنت رمزا لجيلنا ، حملت عنا طموحاته وتطلعاته وحملنا نحن أخفاقاته وخيباته.. عندما كان يقف أمير الشعر العربي عبدالرازق عبدالواحد في الخرطوم وهو ينعي بغداد، ويعلن أنه يعافها بعد أن زلزلت الأرض زلزالها، كانت روحك التواقة الي الخلود والمطلق تعرج الي بارئها، كانت مقابر الصحافة في ذلك الليل البهيم تضج بالمصلين والنائحين والمفجوعين،كانت المآقي تهمي كأنها ما تعلمت الصبر يوما، و المعاول تهوي كأنها تحتفي بغراس نخلة طلعها نضيد،كنا كأننا نستودع المقابر كنزا عزيزا ، وما أن بدأ التراب ينهال علي رفاتك الكريمة حتي خن الصبر، وأنفجرت أنهار البكاء ، وأهل الذكر يرفعون عقيرتهم بالدعاء حتي يهزموا الفجيعة بالصبر والاحتساب. كانت الوجوه هي ذات الوجوه التي أحببتها لم يتخلف أحد، إلا من حالت دونه حوائل السفر ، أو حجب الاغتراب والغياب.دخلت الى المقابر علي ضوء المصابيح الخافتة وذرات كياني المفطور لا تكاد تغيثني بالقدر الأدني للتماسك لأنني كنت أقرب الي الذهول منه للصحو.، كأن روح ذلك المشهد قد إنتقلت الي ذلك الشفيف بروفيسور حسن النقر في ماليزيا الذي ظل يعاظل فجيعة الفقد وحده، يستصرخ الهاتف لأحبائك وأصدقائك وتفشل معه كل خطب الصبر حتي أستفرغ مخزونه من التفجع والبكاء.وبيت العزاء كان أقرب الي اللوحة السيريالية لأن الجميع كان يعزي بعضه بعضا،أحتشد الترابلة مع السياسيين، والأساتذة مع الطلاب، وأهل الريف والحضر، والفقراء والأغنياء,والصحفيين والمثقفين.وجاء أهل الدمازين الذين عرفوك مشرفا علي مشروع معهد دراسات السلم بشأن المشورة الشعبية، ولكن مستهم لطائف روحك الإنسانية الشفيفة.هؤلاء جميعا كان يوحدهم الحزن ومرارة الفقد والتفجع. لأن قلبك العامر كان يسع هؤلاء جميعا.
كانت هناك إشارات مبهمة تعتمل في صدري وأنا أهاتفك قبل يومين من غيابك الأبدي ، فأخبرتني أنك في سنجة عائد من رحلة عمل الي النيل الأزرق، فقد عنت لي هواجس مبهمة لم أدرك كنهها وأنا أحاول أن أثنيك عن السفر الطويل. وكنت قبل هذه المهاتفة قد أقترحتك لإدارة التلفزيون لتدير حوارا باللغة الأنجليزية مع المفوض الأروبي للتنمية الدولية، وكعهدك دوما ما رددتني خائبا قط، فبشرت التلفزيون بموافقتك الكريمة. و في ليلة السفر التي عرجت فيها روحك الي سماوات الغياب الأبدي، كنت تتكيء علي شجرة أمام منزلنا لأداء واجب العزاء في صهرنا وتتوسل لنا أن نطلق سراحك لأنك علي سفر في صبيحة اليوم الثاني، ولم نكن ندري أنها الليلة الأخيرة لروحك التي إستودعتها حب الخير والسعي لقضاء حوائج الناس.
كان أول عهدي بك وأنت ترفل في ثياب النبوغ والتفوق الأكاديمي في جامعة الخرطوم،كانت تدهشني سماحة نفسك وروحك الوثابة الي المجد التواقة الي فعل الخيرات..جمعتنا صحيفة المسيرة التي كانت بعض حلم غافل القمر حتي أبتلعه المحاق..كنت بيننا كزهرة البنفسج في حديقة العدم، كان هناك كمال حسن علي الذي ابتلعته أتون السياسة، وذلك الزاهد جمال شريف الذي يفر من المغانم ويقبل علي المغارم بصدر رحب، كانت هناك فاطمة سالم التي دفنت عبقريتها في صحراء التجاهل ، وفاطمة مبارك التي مازالت تكابد احبار المطابع وحيدة في الأهرام اليوم وجمال علي الذي لم تستطع قناة الشروق أن تحتوي قلقه المبدع، وحاتم بابكر الذي أصابته هاء السكت في مفازة التلفزيون.والأسماء كثر لا يسعها هذا المقال ..أتذكر جيدا عندما كنا كفرسي رهان لتقلد منصب رئيس تحرير صحيفة المسيرة فرجحت كفتك واختارك مجلس الإدارة رئيسا للتحرير وتشرفت بالعمل نائبا لك،وكان رأي الإدارة حينها أن الصحيفة يجب أن يقودها من يتحلي بالحنكة والحكمة ووسامة الرأي، وقد كنت تتفوق علينا جميعا في كل ذلك وأكثر..وقد صدق حدس الإدارة فما أن تقلدت منصب رئيس التحرير بعدك حتي وجدته ثقيلا ومستحيلا لأنك جملته بموهبتك وطرزته بحكمتك، فكان أن أغلقت السلطات صحيفة المسيرة لأنها إستنشقت شطة في الجو فعطست ولكن لم يشمتها أحد ولم تجد معها مراهم الزكام..وعندئذ نعاها المرحوم محمد طه محمد أحمد فقال عنها أنها كانت أقوى من صوت هيكل في عهد عبدالناصر..وأشهد وأنت عند مليك مقتدر أنني ما رافقت وما صادقت قط من يفوقك في سلامة القلب ونبل المقصد ودماثة الخلق وعفة اللسان.ولك في الأخيرة قصة طريفة عندما سافرت الي لندن لتتلقي فصولا دراسية في اللغة الأنجليزية، فكان أن إستشهد البروفيسور في جامعة لندن بكلمة تنبو عن أعراف ديننا وذوقنا الشرقي، فما ترددت أن تسأل عنها فجحظت أعين المليحات، وضحكن عن كلمة تجهلها ويدرك معناها تلاميذ المدرسة الابتدائية في تلك الديار ، وكانت دهشتهن عظيمة عندما علمن أن مخزونك الفكري واللغوي من طلاسم خدر النساء تكاد تكون معدومة ولكن ميزانك من العفة والتدين والمثل العليا كان راجحا.وفي منزل العزابة في كوبر وأنت تخطو عتبات السلم الأكاديمي معيدا في كلية الآداب ، كان أصدقاؤك يضحكون من دقة مواعيدك، وحسن ترتيبك في بحر الفوضي الضارب بأطنابه في عرصات المنزل..وفي ماليزيا التي سبقتنا اليها مبتعثا من جامعة الخرطوم قدمت نموذجا مشرفا للأستاذ الجامعي، فبالإضافة التي تفوقك العلمي ونبوغك الأكاديمي كنت ريحانة المجالس والأنس الجميل، و تفوقت علي الآخرين لأنك تجاوزت إحباطات وزارة التعليم العالي حيث لم تكن تنتظر علاوة الدراسة التي كانت تتركم شهورا قبل أن تصل الي الطلاب مما خلق وضعا مزريا في بعض الأحيان، فكان أن هرعت الي العمل في حقل التعليم معلما في مدرسة الجامعة التي تفوقت فيها علي الآخرين، و عندما أكملت الماجستير وبدأت رسالة الدكتوراة قطعت عنك جامعة الخرطوم المنحة الدراسية فثابرت لتكمل دراستك علي نفقتك الخاصة، وما أن نلت شهادة الدكتوراة حتي إنهالت عليك العروض للعمل أستاذا جامعيا في ماليزيا حيث اختار البقاء هنالك نخبة من خيرة العقول ومثقفي السودان، ولكنك آثرت أن تعود حتي يعم نفع علمك علي الكادحين والفقراء ، وكانت لديك المبررات والأسباب لأن جامعة الخرطوم لم تتكفل بنفقة دراستك للدكتوراة، ولكن قيم الوطنية والوفاء والتضحية إنتصرت علي النزعة الشخصية فعدت متسربلا بالحلم والأمل الجميل ، وكانت زوجك تسنيم الباكستانية الميلاد، الماليزية الإقامة والعربية الثقافة هي وقود روحك الدافق للإنجاز والمثابرة والصبر الجميل..وتلك قصة أخري يجب أن أتوقف عندها هنيهة لأن في حياتك عبرة وفي موتك عظة..وأشهد الله أنني ما رأيت من تجاوز القبلية مثلك، فقد أتيت من دار الريح كما ذكر الدكتور محمد محجوب هارون في كلمته الرصينة التي أبكتني حتي شهيق الإستغفار،كنت تتوسد حلمك بوطن جميل يلفظ جينات التخلف علي هدي الإسلام والحداثة، وسافرت روحك الوثابة في مدي الاختيار والتآلف وشريكة المستقبل ، و لكن طين الوهن أبي إلا أن يغرق الأمل الجميل في وحل التخلف، فاصطدم وجدانك بآخر ما كنت تخشاه ألا وهو داء القبلية ،ولكن استعليت بفكرك المستنير ، ولفظ قلبك مضغة الألم ومضيت بجرأة وشجاعة وإقدام ، وأنت تدنو من نجاح الي آخر، ولم تترك تلك التجربة في قلبك وسما من مرارة , بل مضيت ترفل في رداء الإنسانية، سرت في شرايينك روحا جديدة تتطلع للمستقبل بعد ان تجاوزت جراح الماضي. كنت تقول لي قبل أسبوع من وفاتك أنك سترفض أي منصب يعرض عليك علي اسس جهوية أوجغرافية مهما علا شأوه ، أو سمت قيمته بل كنت تفصح علنا أن معيار التفاضل الوحيد هو الكفاءة لا الولاء أو الانتماء القبلي. كان يمكن ان تختار مثل كثير من المثفقين هدأة العاصمة، وأن تتطاول في البنيان، و أن تكرس وقتك وجهدك للاستمتاع بامتيازات النخبة في الخرطوم ودار صباح وأن تدور في فلك ذاتك وهموم أسرتك الصغيرة، ولكنك اخترت الخلود وآثرت الخيار الأصعب وهو أن تداوي جراح الفقر والأمية في ديار كردفان وأن ترد لأهلك بعض الدين، لأن كثيرا من النوابغ يجوبون البوادي والقري والنجوع يركضون خلف البهائم، فيفوتهم قطار التعليم . كثيرون قبلك مروا بتلك الديار و بذات القري والنجوع فلم يمس ضميرهم وخز الواجب، ولكن بحسك الإنساني الشفاف أدركت العلة وهي أن الأطفال الصغار في بوادي كردفان لا يستطيعون الذهاب الي المدرسة لبعد المسافة التي تبلغ في أقرب الأحيان أكثر من 20 كليومتر، فأنشأت منظمة تعمل علي بناء الفصول الثلاثة الأول في السلم التعليمي في القري أطلقت عليها الفصول (الأقمار)، حتي يستطيع الأطفال بدء الدراسة فيها ، وعندما يشتد عودهم وتقوي بنيتهم بعد أن يبلغوا سن العاشرة يمكنهم أن يسيروا مسافات أطول الي المدارس الحكومية الثابتة. عندما فاضت روحك في الطريق الي الرهد لم يكن سفرك الطويل الي مغنم أو غرض شخصي بل كنت في سعيك الدائب الي تجارة لن تبور حيث كان ينتظرك الأهل بالطبول والدفوف لافتتاح الفصول الثلاثة في قريتك الوادعة. من للأطفال بعدك من الذين سيدخلون هذه الفصول لأن جسمهم الهزيل لا يقوي أن يحملهم الي مدارس الحكومة علي بعد عشرين كيلومترا من القرية.لا شك أن منهم من سيدفع به نبوغه مثلك تماما الي مراقي النجاح ، وسيعلم حينها أن النجاح الذي أصابه يعود الفضل فيه بعد الله سبحانه وتعالي الي رجل تحتضن رفاته مقابر الصحافة، كان يمكن أن يرضي بكسب النخبة في الخرطوم ولكنه اختار الطريق الطويل والأصعب وهو يرتقي سلم الخلود..كان والدك يقول عن اللحظات الأخيرة أنكم توقفتم في مقهي في الطريق فتوضأت وأحسنت الوضوء لإدراك صلاة الجمعة، وأصررت أن يجلس والدك في المقعد الأمامي جوار السائق،وحرصت أن تحكم له ربط الحزام بيدك، وبعد أقل من ساعة طاحت السيارة فذهبت الي الخلود وخرج والدك حيا لم يمسسه سوء ليروي لنا مقدار برك بوالديك كأنك كنت تفتديه بروحك المسماحة.
لا أدري لماذا تذكرت المقطع الدامي من قصيدة الرثاء التي طرزها سميح القاسم بدموعه ووجدانه الممزق علي رفيق دربه محمود درويش إذ يقول:
نَهاراً كَتبْتُ إليكَ. وَليلاً كَتَبْتَ إليّ
وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّ
وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّ
ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى
يُعايدُكَ الصَّاحبُ الرَّبَذيّ:
على وَرَقِ السنديانْ
وُلِدْنا صباحاً
لأُمِّ الندى وأبِ الزّعفرانْ
ومتنا مساءً بِلا أبوَينِ.. على بَحرِ غُربتِنا
في زَوارِقَ مِن وَرَقِ السيلوفانْ
على وَرَقِ البَحرِ. لَيلاً.
كَتَبْنا نشيدَ الغَرَقْ
وَعُدْنا احتَرَقْنا بِنارِ مَطالِعِنا
والنّشيدُ احتَرَقْ
لن يسدل الستار علي هذه الرواية ،فكما كانت لنا في حياتك عبرة، فإن في موتك عظة لأنك قدمت نموذجا متفردا في التفاني والبر والعطاء والعفو والتسامح، كنت تحسو من كأس الدنيا علي عجل وتستكثر من فعل الخيرات كأنك تعلم أنك فيها عابر سبيل لن يستقر به المقام طويلا، وتركتنا نعب من كأس الدنيا ، تأخذنا الغفلة، وتستدرجنا الدنيا بزخرفها وخيلها ورجلها، ولكن موتك أفاقنا من غفوة الجهل. لا شك أن ابنتك وزهرتنا الجميلة ذات الخمسة أعوام لن تشكو مرارة اليتم لأن أعمالك الصالحة وسيرتك الباذخة وحب الناس لك ستكون لها عوضا عن مرارة التوحد والفقد، وعندما تكبر ستجد الكثير الذي تفخر به في سيرتك الوضيئة... اللهم إن محمدا عبدك وابن عبدك وابن أمتك اللهم فأغفر له وأدخله فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ، اللهم أبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.