“دماء في الخرطوم” . بقلم: عصمت عبد الجبار التربي

 


 

 




صحيح أن الخرطوم غرغرت بالدم من الانقلابات العسكرية وعنف البادية وأرتال الشهداء ولكن العنوان أعلاه ولحسن الحظ مجرد دماء في رواية للكاتب الشاب (عماد البليك) وهو أصلا مهندس معماري فارق مهنته لعشقه للأدب والصحافة ورغم حداثة سنه فقد تسنم مركزا رفيعا جدا في إحدى الصحف بسلطنة عمان، له أربعة أعمال منشورة هي الأنهار العكرة (رواية)، دنيا عُديّ (رواية)، ودراسة بعنوان (الرواية العربية رحلة بحث عن المعنى)، وعشرات البحوث بمقر عمله في شئون الخليج وغيرها. والآن نحن أمام روايته المثيرة "دماء في الخرطوم" والتي لم تطغى فيها جرائم القتل والتحقيق والتحري على مقصد الرواية الفلسفي والفكري والسياسي.
تقع الرواية في ثلاثمائة وأربعة وسبعون صفحة من القطع الوسيط مع غلاف قشيب، والرواية تتناول الفساد المستشري في عهد الإنقاذ في السودان وتدخل الأمن في حياة الناس ومن يصنع القرار في الدولة وأصحاب النفوذ خلف الستار وهو واقع نعاني منه بالفعل، والأهم ضياع الشباب والبطالة وفقدانهم للقدوة والهدف، كما أن الرواية تناقش كثيرا من الأفكار الفلسفية والمبادئ والأيدولجيات التي يصنعها البشر ومدى قدسيتها وما هو موقف من يتبعها وهو أعمى وقد سلم قلبه وعقله إليه.
ولعل الغريب في الرواية هو تناول الشذوذ الجنسي بين الرجال وجعله محورا للرواية وتقديم تفاصيل صادمة للقارئ، ولعل نقطة الضعف في الرواية عدم الاهتمام بالبعد النفسي لبعض الشخصيات الرئيسية مثل السيد عبد الله العربي وهو شخصية محورية في الرواية ورث المجد والمال عن والده الذي تعاون مع الاستعمار وهي إشارة واضحة لطبقة من الموظفين والتجار الذين كانت لديهم حظوة ونالوا الأراضي والوظائف في زمن المستعمر. وقد كان الرجل يظهر في المساجد بانتظام ويتبرع في كل المناسبات باعتباره رجل بر وإحسان، بينما هو في الواقع مصاب بالشذوذ الجنسي سلبي وإيجابي وله وكر ومكتب سري يقوم بتعيين الشباب حليقي الشوارب وذو القسمات الحلوة كموظفين معه ولكن غرضه الحقيقي ممارسة شذوذه معهم وانتهت حياته بمقتله وقطع ذكره وتعليقه في مدخل الغرفة وفر الجناة الحقيقيون، وبينما يعلم (الأمن) وليس الشرطة من هو الجاني الحقيقي لأنهم كانوا يراقبون المجني عليه لأحقاد شخصية مع أحد مسئولي الأمن وفي الصراع الخفي بين الأمن والشرطة ومحاولة الأمن السيطرة على كل الأجهزة في البلد فأنهم يخفون المعلومات عن الشرطة ويقدمون خمسة أبرياء بدلا عنهم ويتم إعدامهم ضمنا فمن هم القتلة الحقيقيون؟ وحتى ضابط الأمن ينتحر وضابط الشرطة يفقد ذاكرت ولذا فإن مسمى الرواية (دماء في الخرطوم) كان صائبا.
هذا ما توضحه الرواية، ولكني أقول إن شخصية العربي لم يتم تناولها بالتشريح النفسي الكافي، لماذا هو شاذا أصلاً وكيف كانت طفولته وهل تم الاعتداء عليه وهو صغير ومن هي زوجته وكيف كانت العلاقة بينهما وحتى تفاصيل بعده الخارجي غير واضحة سوى أنه دميم كما أنه من المبالغة أن يكون رجلاً عمره ستون عاماً تدور حياته حول شذوذه الجنسي يومياً وهو في هذه السن حتى ولو تعاطى (الفيجارا) كما يقول الكاتب.
(العربي) لديه ولد واحد يدرس في الولايات المتحدة وبنت متزوجة وتعيش في لندن، لقد تم اغتيال العربي مما اضطر ابنه للرجوع للسودان وكذلك بنته للعزاء، أما الابن (عبد الحفيظ) فقد كان أساساً يخطط للعودة للسودان ليتولى تجارة والده ويرث اسمه في السوق ولكن موته المفاجئ اضطره للعودة مبكراً إلى السودان.
لقد تم اغتيال العربي من مجموعة شباب يتزعمهم المدعو (ميسره) وهو طبيب فشل في عمله وكان العربي يصرف على أسرته ولكنه استدرج ميسره قبل تخرجه من الجامعة بشهر وحاول اغتصابه ولكن ميسره نجح في مقاومته وفر بجلده ولكنه حقد على العربي وكوّن حوله مجموعة من الشباب العاطلين الذين يحقدون على المجتمع رغم إكمالهم للتعليم، غير أن هذه المجموعة التي تدين بالولاء لميسره ونظّمها بطريقة خلايا سرية وارتكبت جرائم القتل فأنني أرى أن عقيدتها غير مقنعة على الإطلاق، الشباب يمكن أن يضحوا بأرواحهم في سبيل مثل عليا أو أيدولجيا، ولكن اللصوص فقط هم من يموتون من أجل المال. أنظر ماذا يقول ميسره على صفحة (51) من الرواية وهو يخاطب جيشه الخاص ((في الخلاصة فإن المطلوب في هذه المرحلة هو خلق حالة فوضى من خلال ما سنقوم به، جعل الأطراف الكبيرة تتناحر ذاتياً حتى تأتي اللحظة المناسبة لنا لنبرز كمُخلِّصين، لنفاوض على ما نريد، لا تنسوا أن هدفنا النهائي هو سعادتنا من خلال الثروة، وفي الواقع سنتحول إلى رأسماليين جدد بلا أخلاق، على الحياة أن تدخل دورة جديدة وأن يتم استبدال مجموعات متنفذة وبيوتات سيطرت على البلد لأكثر من قرن بدماء جديدة، هذا هو هدفنا بالتحديد)). ومع هذا الخطاب الهزيل والذي تتبرأ منه حتى الحركات التي توصف بالعنصرية، كيف يكون مقنعاً للشباب ويدفع بعضهم للقتل وبعضهم لممارسة الشذوذ مع السيد العربي لاستمالته قبل قتله بأشهر. وميسره الذي ألف (الكتاب التأسيسي) كدستور للخلية التي أنشأها فإن فلسفة الانتقام "هي من صميم رؤيتنا" كما يقول "وسنعمل كحاسوب كبير وسنتمكن من خلق سعادة حقيقية لنا من خلال إلهنا المال". الغريب أن ميسره نفسه ندم بعد مقتل العربي ومقتل اثنين من أتباعه بناء على أوامره وإعدام خمسة أبرياء وحاول التراجع عن أفكاره فقام أحد أتباعه باغتياله ليكون قضى على نفسه بأفكاره التي تشربها أتباعه.
وعندما تم قتل والده فكر عبد الحفيظ في من يكون القاتل لوالده الشاذ جنسياً ((مثل هؤلاء يرون في قتل الإنسان تجارة رابحة يثابون عليها من قبل الخالق.. ويعتقدون أن الله قد وكّلهم دون سواهم من بني البشر لبناء دولة الشريعة وإقامة الحدود دون الالتفات إلى أن هناك حكومات أو دولاً))، فالاتهام هنا توجه للجماعات الإسلامية واستطاع الأمن تضليل الرأي العام بإظهار خمسة شباب ملتحين من صنعته واعترفوا بالقتل أمام أجهزة الإعلام.
تشير الرواية لضعف العمل الشرطي، فرغم التحقيق في جريمة قتل هزت البلد لمكانة القتيل فإن اثنين من مساعدي اللواء والموكل إليهم التحقيق فقد سافر أحدهم لأداء العمرة والآخر أيضا سافر دون أن يعلم رئيسه للقاهرة لإجراء عملية تجميل لأنفه، وهو مؤشر لعدم الانضباط في العمل العام.
لقد قام الشابان الموكل إليهما قتل العربي باغتياله أثناء ممارسة الجنس مع أحدهما وسددا إليه الطعنات ولم أفهم عبارة ((ومن ثم أكمل الشابان نشوتهما العالية معاً قبل أن يواصلا طعن الجسد بالخنجر في أكثر من موضع))، فهل لحظة اغتيال شخص لإنسان يقتل لأول مرة سهل لهذه الدرجة ثم ماذا فعلا هل أكملا ممارسة الشذوذ مع بعضهما؟ "ده وقته!!!".. ألم أقل إن البناء النفسي للشخصيات غير واقعي.
إن النصف الثاني من الرواية هو الأكثر أهمية لأنه يحتوي على الصراع المجتمعي والفساد في عهد الإنقاذ وتسلط الأجهزة الأمنية ومن يحكمون من وراء الستار، فمثلاً يصف اللواء المفترض به التحقيق في الجريمة بالآتي ((إن اللواء طه شخص سريع الانفعال ولكنه غير شجاع، لا يستطيع أن يقتل بعوضة، ولعل هذا هو السبب الذي جعله يحتل منصب مدير عام الشرطة لسنوات طويلة فهو قادر على تحمل أنواع الإهانات كافة في سبيل أن يستمر في مكتبه)).. والله العظيم هذا ينطبق فعلاً على أكثر من شخصية استمرت دهراً طويلاً في الإنقاذ، رجال (ملطشة) ويتحملون الإهانات ولا كرامة لهم.
يقول الراوي ((إن عهد الشرطة قد انتهى وأن الأمن بات يسيطر على كل شيء في البلاد))، وأضيف من عندي بل أن الجيش نفسه انتهى وهاهي قوات الخليل قد وصلت قلب أمدرمان والأمن فقط من يمتلك المعلومات وتصدى لها ليخلق بطولة لنفسه ويهمش الجيش الذي أضحى بلا فاعلية حتى في مناطق العمليات.
صفحة (167) معلومات هامة عن جهاز الأمن ووضعه فقد تم تحويل الجهاز لشبكة معقدة تخدم مصالح من يعمل على تمويلها أو التعاون معها، لقد قام رئيس الجهاز في الرواية بتهديد وزير الداخلية الجديد مباشرة ((سعادة الوزير تعاونك معنا هو الطريق الأقصر لتكسب الجولة، أما إذا حدث العكس فلن نشعر بالندم، لأن هناك من يقفون معنا بقوة... ستفعل ما نمليه عليك فقط، فإذا كنت تريد أن تنجح فلكَ ذلك، ولكن مجرد تفكيرك في أنك ستحقق نجاحاً من خلال أجهزة وزارتك التقليدية، فلن يفيدك ذلك شيئاً.. وسوف تجد نفسك في نهاية المطاف في وحدتك.. الآن فهم الوزير المطلوب.. الطاعة لا غير)).. رئيس الجمهورية نفسه أشارت إليه الرواية ((أنت تعرف مدى تهور الرئيس وأن لا أحد يستطع أن يوقفه عن قرار ما يتخذه ويطالب بسرعة تنفيذه)).
وبالرغم من أن الرواية تحاكي الواقع ولا تشبهه فإن حديث زوجة اللواء إلى طفلها ومحاولة شرح تمثال الجندي المجهول ولماذا هو مجهول، فقد اختفى هذا التمثال من الشهر الأول لانقلاب الإنقاذ حيث كان مُنصّباً بالقرب من معمل استاك وكلية الطب.
إن طريقة عمل الخلية المسئولة عن اغتيال العربي والمكونة من هواة هم أصلاً طلاب وشباب بدون عمل والتي نفذت باحترافية عالية وأعصاب باردة غير منطقية. إن عملية تصفية خالد وهيثم والسر من قبل عضوين آخرين من الخلية قاما بالمهمة دون أن يدركا أنهما يقومان بتصفية ثلاثة أعضاء آخرين من المجموعة نفسها التي ينتميان إليها، بل الأدهى ((أن منير وشهاب اللذين نفذا جريمة القتل كانا سعيدين جداً بأنهما ينجزان عملاً مهماً يصب في مصلحة الخلية دون أن يدركا أنهما يقومان بعمل إجرامي ضد رفاق لهما)) رغم أن فعلهما في كل الأحوال عمل إجرامي ورغم أن القتل لا يبعث على السعادة فهو واجب ثقيل حتى على الجندي في الميدان لأنه ضد طبيعة البشر الأسوياء. إن الوزير يحدث نفسه في لعبة الاستوزار في الإنقاذ ((هنا لا تعرف بالضبط أين يقع مصدر القرار؟ عليك أن تؤدي دورك وتغادر وربما تعود مرة أخرى إلى النقطة نفسها التي خرجت منها لتجد أن اللعبة تواصل ذاتها وبالطريقة نفسها)).
وفي نهاية الرواية يندم رئيس الخلية على ما ارتكبه من جرائم ويقدم المؤلف رؤية فلسفية ونقدية حول الأفكار والمبادئ التي يصنعها البشر ويظلوا عليها عاكفين، على صفحة (330) وما بعدها.. ولا يتسع المجال هنا لتناولها وشرحها ولكنه أسقط عنها كل قداسة.. ويلخص الوضع في البلاد ((تسير لعبة السياسة في السودان منذ أكثر من خمسين سنة، قادة يتربعون على قيادة التنظيمات وطبقة عامة من الأعضاء التي يجب أن تُنفِّذ، ويُرمى لها بالفتات)).
الرواية عمل جيد وجديرة بالاحتفاء بها وتستحق الاطلاع.

esmaturabi@yahoo.com
//////////

 

آراء