دمعٌ ودُعاء في وداع الأُستاذ
بلّة البكري
17 November, 2023
17 November, 2023
16 نوفمبر 2023م
رحل الأستاذ محمد الأمين الى دار الخلود في الثاني عشر من نوفمبر 2023م في ولاية فيرجينيا الأمريكية عن عمر ثمانين عاماً. رحل الأستاذ؛ هكذا أخبرني صديقٌ على الهاتف بجملة واحدة تقطر دمعاً. رحل الإنسان الفنّان الموسيقار الذي لا يستقيم أن يَنطق ناطقٌ باسمه قبل أن يسبقه بهذا اللقب: "الأستاذ". بل وقد تفرّد وتميّز، عليه الرّحمة، في مجاله الفني وبالأخص التأليف الفني والعزف على آلة العود والغناء حتي صارت الإشارة إليه بكلمة "الأستاذ" فقط تكفي، ولا يمكن لسامع يعرف قيمة فن وإرث الرجل أن يخطئ فيمن تقصد حين تنطق بها. هكذا كان الأستاذ ظاهرة فريدة في عوالم الفن السوداني التي تمتلئ بالمبدعين؛ يقف هناك في ربوةٍ شامخة، وحيداً، بينه والآخرين سهولٌ ووِهاد. وحتى الذين درجوا على حسد المبدعين وجحد جهودهم يقفون عاجزين عن الاقتراب من سمائه التي استعصمت بالبعد عنهم.
غنَّى الأستاذ لأكتوبر وثورات الشعب السوداني في الستينات وما بعدها ولم يُعيي النضال الطويل بدنه. وغنَّى للعاشقين أجمل ما جادت به قرائح شعراء الرومانسيّة: الجريدة وأربعة سنين. همس الشوق وزورق الألحان. حلم الأميرة وطائر الأحلام. وعد النّوار وكلام زعل ومشتاق ليك يا جميل يا رائع. سوف يأتي (يا نديمي) وقلنا ما ممكن تسافر. غربة وشوق: "ونكتم آهة تظهر آهة وتتعبنا". وحياة ابتسامتك وكلام للحلوة: "لمّا شُفتِك ليلي ضوّا وبقَّ نُور ونرجس الجنّة المفرهد رفّ بجنحات عُطور". يا الله. غنى للسمراوات: "أسمر جميل فتّان" وبدور القلعة وجيناكم يا حبايبنا وأشوفك بكرة في الموعد. غنى "عويناتك ترع لُولي وبحار ياقوت" وغنّى همسة شوق وشال النوّار. وغنّى "بتتعلم من الأيام: "متين عرف الهوى قلبك" وغنّى زاد الشجون: "ماهو باين باين في العيون—" وحروف اسمِك؛ وأثرى وجداننا كما لم يفعل مبدعٌ آخر. ثم غنى لمدينته المحبوبة "ود مدني" لكنه رحل بعيداً عنها؛ يا للحسرة. هذا غيضٌ من فيض.
في بداية السبعينات من القرن الماضي قبل ما يربو على الخمسين عاماً ونحن في سنوات التكوين الأدبي والفني الأولى جاء الى مدرستنا المتوسطة في مدينة الرَّهَد أبو دكنة في شرق كردفان طلابٌ من غرب الولاية أودعوهم معنا ضيوفا الى أن يكتمل بناء مدرستهم المتوسطة جهة أبوحراز في مجلس ريفي البديرية غرب مدينة الأُبيِّض عاصمة ولاية شمال كردفان. جاءوا بأسماء تختلف عن ما اعتدنا عليه من أسماء: (مُستمهِل والكَلَس ومَرْجي ومستور والناير) وجاءوا بضروب من الفنون الشعبية غير ما عرفناه في مناطقنا. في ذلك الوقت كانت أغنية الوسط الحديثة تأتي من خلال الراديو عبر صوت صلاح ابن البادية وأحمد المصطفى وآخرين وبعض أغاني الحقيبة على أنغام متشابهة في الغالب ألفها الناس. وفي ذات مساء نبهني صديقٌ عزيز من ضيوفنا الجدد الى صوتٍ فريد ولحنٍ أكثر فرادة للأستاذ محمد الأمين: "قلنا ما ممكن تسافر". سمعت اللحن مرة ومرة أخرى ومرات ومرّات وصرت أبحث عنه بعد ذلك في برامج االراديو المسائية. للأستاذ مقدرة فريدة في الوصول الى ربوع السودان ولمس المشاعر الفنية لأهلها على طريقته. تسمع له "ارتاحي يا إبل الرحيل" أو العَجَكُو أو غرّار العبوس فتظن أنه من هناك من تلك الربوع وكأنه تشرب لهجتها ومشاعر أنغامها من ثدي الأم. أو تسمع فنانٌ من أشقائنا في السودان الجنوبي يقلده فتعرف الى مدى يساهم الأستاذ في ردم الفوارق الإثنية التي كبلتنا كشعب. سرى الأمر بيننا مجموعة الأصدقاء في ذلك الزمان حتى اقتربنا من تكوين مجموعة صغيرة لمعجبي الأستاذ. ولهؤلاء النفر الفريد أرسل، من على البعد، أصدق آيات العزاء في رحيل الأستاذ. البركة فيكم يا شباب: إبراهيم وعبدالعظيم وسيف الدين وحسون وابن عمر وهشام وأزهري وعلي وأسامة ومحمد-حسن وعبّاس ومحمود وقيس وبدرالزمان .
اكتملت متعة جيلنا بعد ذلك بعطاء الأستاذ المُبهِر عندما التحقنا بجامعة الخرطوم في نهاية ذات العقد من الزمان (عقد السبعينات) وكان الأستاذ حضوراً في ردهات الجميلة ومستحيلة في جل محافل كليات الوسط (الهندسة والمعمار، العلوم والآداب والقانون والاقتصاد) بصورة راتبة. هناك جمعتني الصدفة بنفر كريم من أرومته والذين انحدروا من مدينته الأصل التي أحبها، ود مدني، وكان الحديث عنه معهم سهلاُ وسلساً وممتعاً لا تحتاج معه أن تذكِّر السامع بموقف أو لحن أو كلمات لروائعه المختلفة. العزاء لكم يا شباب داخليات البَرَكس، وبالأخص مكتب النشر، وترهاقا، فقد رحل الأستاذ الذي لا يحتاج الى تعريف. البركة فيكم يا مامون وود سلمان ومحي الدين وود العمدة ومصطفى وياسر وعزالدين وأبوعلي وحسن. تفرقنا بعدها وابتلعتنا المهاجر وصار الأستاذ حضوراً في سويعات الصفاء القليلة في لندن وكمبردج وكاليفورنيا وباريس وكندا وغيرها. ومن هنا أرسل العزاء في فقد الأستاذ لصديقيه الحميمين سيف ونجوى في لندن وإلى سلوى وأسامة ووفاء وخالدة وودالمهدي والي حسون في كلفورنيا ومٍلٍّين في باريس وأبوعلي والتّاج في كندا وبقية العقد الفريد؛ البركة فيكم.
وداعاً الأستاذ. اللهم يا مالك الملك أكرم الأستاذ الذي كان فينا رسولاً للفن الراقي والمحبة والجمال. كان عفيفاً نظيفاً حاملاً مشاعل النور والاستنارة يسعدنا، على الدوام، بألحانه الفريدة ويبشرنا بالفجر كلما ادلهمت بنا الخُطوب أو هلّ في فجرنا ظالم. ومن هنا أرسل آيات العزاء لأسرته الكريمة ولأصدقائه الشعراء والعازفين ومجموعات المعجبين وللوسط الفني السوداني بل وللوطن العريض،بأكمله، شماله وجنوبه والذي طالما تغنى باسمه لعقودٍ من الزمان. وداعاً يا أستاذ.
ballah.el.bakry@gmail.com
رحل الأستاذ محمد الأمين الى دار الخلود في الثاني عشر من نوفمبر 2023م في ولاية فيرجينيا الأمريكية عن عمر ثمانين عاماً. رحل الأستاذ؛ هكذا أخبرني صديقٌ على الهاتف بجملة واحدة تقطر دمعاً. رحل الإنسان الفنّان الموسيقار الذي لا يستقيم أن يَنطق ناطقٌ باسمه قبل أن يسبقه بهذا اللقب: "الأستاذ". بل وقد تفرّد وتميّز، عليه الرّحمة، في مجاله الفني وبالأخص التأليف الفني والعزف على آلة العود والغناء حتي صارت الإشارة إليه بكلمة "الأستاذ" فقط تكفي، ولا يمكن لسامع يعرف قيمة فن وإرث الرجل أن يخطئ فيمن تقصد حين تنطق بها. هكذا كان الأستاذ ظاهرة فريدة في عوالم الفن السوداني التي تمتلئ بالمبدعين؛ يقف هناك في ربوةٍ شامخة، وحيداً، بينه والآخرين سهولٌ ووِهاد. وحتى الذين درجوا على حسد المبدعين وجحد جهودهم يقفون عاجزين عن الاقتراب من سمائه التي استعصمت بالبعد عنهم.
غنَّى الأستاذ لأكتوبر وثورات الشعب السوداني في الستينات وما بعدها ولم يُعيي النضال الطويل بدنه. وغنَّى للعاشقين أجمل ما جادت به قرائح شعراء الرومانسيّة: الجريدة وأربعة سنين. همس الشوق وزورق الألحان. حلم الأميرة وطائر الأحلام. وعد النّوار وكلام زعل ومشتاق ليك يا جميل يا رائع. سوف يأتي (يا نديمي) وقلنا ما ممكن تسافر. غربة وشوق: "ونكتم آهة تظهر آهة وتتعبنا". وحياة ابتسامتك وكلام للحلوة: "لمّا شُفتِك ليلي ضوّا وبقَّ نُور ونرجس الجنّة المفرهد رفّ بجنحات عُطور". يا الله. غنى للسمراوات: "أسمر جميل فتّان" وبدور القلعة وجيناكم يا حبايبنا وأشوفك بكرة في الموعد. غنى "عويناتك ترع لُولي وبحار ياقوت" وغنّى همسة شوق وشال النوّار. وغنّى "بتتعلم من الأيام: "متين عرف الهوى قلبك" وغنّى زاد الشجون: "ماهو باين باين في العيون—" وحروف اسمِك؛ وأثرى وجداننا كما لم يفعل مبدعٌ آخر. ثم غنى لمدينته المحبوبة "ود مدني" لكنه رحل بعيداً عنها؛ يا للحسرة. هذا غيضٌ من فيض.
في بداية السبعينات من القرن الماضي قبل ما يربو على الخمسين عاماً ونحن في سنوات التكوين الأدبي والفني الأولى جاء الى مدرستنا المتوسطة في مدينة الرَّهَد أبو دكنة في شرق كردفان طلابٌ من غرب الولاية أودعوهم معنا ضيوفا الى أن يكتمل بناء مدرستهم المتوسطة جهة أبوحراز في مجلس ريفي البديرية غرب مدينة الأُبيِّض عاصمة ولاية شمال كردفان. جاءوا بأسماء تختلف عن ما اعتدنا عليه من أسماء: (مُستمهِل والكَلَس ومَرْجي ومستور والناير) وجاءوا بضروب من الفنون الشعبية غير ما عرفناه في مناطقنا. في ذلك الوقت كانت أغنية الوسط الحديثة تأتي من خلال الراديو عبر صوت صلاح ابن البادية وأحمد المصطفى وآخرين وبعض أغاني الحقيبة على أنغام متشابهة في الغالب ألفها الناس. وفي ذات مساء نبهني صديقٌ عزيز من ضيوفنا الجدد الى صوتٍ فريد ولحنٍ أكثر فرادة للأستاذ محمد الأمين: "قلنا ما ممكن تسافر". سمعت اللحن مرة ومرة أخرى ومرات ومرّات وصرت أبحث عنه بعد ذلك في برامج االراديو المسائية. للأستاذ مقدرة فريدة في الوصول الى ربوع السودان ولمس المشاعر الفنية لأهلها على طريقته. تسمع له "ارتاحي يا إبل الرحيل" أو العَجَكُو أو غرّار العبوس فتظن أنه من هناك من تلك الربوع وكأنه تشرب لهجتها ومشاعر أنغامها من ثدي الأم. أو تسمع فنانٌ من أشقائنا في السودان الجنوبي يقلده فتعرف الى مدى يساهم الأستاذ في ردم الفوارق الإثنية التي كبلتنا كشعب. سرى الأمر بيننا مجموعة الأصدقاء في ذلك الزمان حتى اقتربنا من تكوين مجموعة صغيرة لمعجبي الأستاذ. ولهؤلاء النفر الفريد أرسل، من على البعد، أصدق آيات العزاء في رحيل الأستاذ. البركة فيكم يا شباب: إبراهيم وعبدالعظيم وسيف الدين وحسون وابن عمر وهشام وأزهري وعلي وأسامة ومحمد-حسن وعبّاس ومحمود وقيس وبدرالزمان .
اكتملت متعة جيلنا بعد ذلك بعطاء الأستاذ المُبهِر عندما التحقنا بجامعة الخرطوم في نهاية ذات العقد من الزمان (عقد السبعينات) وكان الأستاذ حضوراً في ردهات الجميلة ومستحيلة في جل محافل كليات الوسط (الهندسة والمعمار، العلوم والآداب والقانون والاقتصاد) بصورة راتبة. هناك جمعتني الصدفة بنفر كريم من أرومته والذين انحدروا من مدينته الأصل التي أحبها، ود مدني، وكان الحديث عنه معهم سهلاُ وسلساً وممتعاً لا تحتاج معه أن تذكِّر السامع بموقف أو لحن أو كلمات لروائعه المختلفة. العزاء لكم يا شباب داخليات البَرَكس، وبالأخص مكتب النشر، وترهاقا، فقد رحل الأستاذ الذي لا يحتاج الى تعريف. البركة فيكم يا مامون وود سلمان ومحي الدين وود العمدة ومصطفى وياسر وعزالدين وأبوعلي وحسن. تفرقنا بعدها وابتلعتنا المهاجر وصار الأستاذ حضوراً في سويعات الصفاء القليلة في لندن وكمبردج وكاليفورنيا وباريس وكندا وغيرها. ومن هنا أرسل العزاء في فقد الأستاذ لصديقيه الحميمين سيف ونجوى في لندن وإلى سلوى وأسامة ووفاء وخالدة وودالمهدي والي حسون في كلفورنيا ومٍلٍّين في باريس وأبوعلي والتّاج في كندا وبقية العقد الفريد؛ البركة فيكم.
وداعاً الأستاذ. اللهم يا مالك الملك أكرم الأستاذ الذي كان فينا رسولاً للفن الراقي والمحبة والجمال. كان عفيفاً نظيفاً حاملاً مشاعل النور والاستنارة يسعدنا، على الدوام، بألحانه الفريدة ويبشرنا بالفجر كلما ادلهمت بنا الخُطوب أو هلّ في فجرنا ظالم. ومن هنا أرسل آيات العزاء لأسرته الكريمة ولأصدقائه الشعراء والعازفين ومجموعات المعجبين وللوسط الفني السوداني بل وللوطن العريض،بأكمله، شماله وجنوبه والذي طالما تغنى باسمه لعقودٍ من الزمان. وداعاً يا أستاذ.
ballah.el.bakry@gmail.com