دموع نيكيتا داو: مقطع روائي .. د. بقلم: على حمد إبراهيم
بكت نيكيتا داو فى ذلك الصباح كما لم تبك من قبل . تأكد عندها الخبر الكبير . حدثت نفسها بلغة هامسة" لقد فعلوها اخيرا . كل الهواجس كانت تقول انهم سوف يفعلونها طال بهم الزمن ام قصر . لقد فعلوها أخيرا. سيسيليا داو لن تكون معنا بجسمها الابنوسى الفاره فى يوم الاحتفال القادم . لن نسمع ضحكاتها المجلجلة .تضحك كأن الدنيا قد خلت من الاحزان والألام. لا بأس ، تابان الصغير سيكون هناك . يشبهها الخالق الناظر ، لولا أنه لا يخلط الجد بالهزل كما كانت تفعل سيسيليا داو . قامت الى ناقذة غرفتها المتواضعة فى المنزل المهترئ القديم تفتحها على الفضاء العريص المشبع بالاخضرار الطاغى . الغمام يكسو السهل الممتد بقسوة شديدة . امتزج فى صدرها الفرح والحزن . الفرح بوصول الحلم القديم و الحزن لغياب سيسيليا داو . خارت قواها فجأة . تهالكت الى مقعدها القصير فى غرفتها المتواضعة فى المنزل المهترئ القديم فى الحى المكتظ بالاحزان . اشعلت سيجارة كعادتها دائما عندما يستبد بها الرهق والاعياء . اخذت منها نفسا طويلا . ووقفت تحدق فى عمود الدخان الرقيق يتعالى فى ارجاء الغرفة الخالية من الاثاث . هاجر بها اهلها الى هنا فى خمسينات القرن المنصرم . ترعرعت هنا . تماهت مع بيئتها الجديدة هنا . صارت جزءا من محيط الحى و دكوره العام . ذابت فى الخليط المتنوع والمتجانس فى آن . جاءوا الى هنا خوفا على ارواحهم من الحرب الظالمة . كانوا يعبرون البحيرة شمالا فى دلالة لا تنسجم مع دعوى الاضطاد المرفوعة ضد الشمال . جاءت الى هنا حاملة معها ألق اهلها الاستوائيين و جمالهم وسمتهم واطوالهم السامقة . تحاكى الزرافة فى علوها ونحافتها الآسرة ، مع التبسم الكثيف فى وجه كل من تصادفه فى الطريق . تفعل هذا حتى مع اصحاب القسمات العابسة المكشرة . لا تستثنيهم من تبسمهما المفرط . منذ أن تأكد عندها الخبر انقطعت عن الدنيا من حولها و تفرغت الى هواجسها الطارئة ، تحدث نفسها بخواطر مبهمة : هب أنهم امرها بالرحيل : أن تعبر البحيرة جنوبا : ستكون زوبعة واضطراب كبير مما كان يحدث به الكجور الكبير . أمها كانت تحدثها عن الفردوس المخضر الذى تركته وراءها مختبئا خلف الهضاب الداكنة فى الرجاف. امها كان يستعصى عليها ان تنسى ذلك الجلال المقيم . دموعها تنهمر كلما رأت طيور السمير و هى تغادر فى هجرتها الشتوية الى الجنوب. تطنطن بكلمات : مقيل تحت شجرة باباى هناك لا يفوقه الا مقيل فى جنة الفردوس التى يحدث عنها قسيس الكنيسة العجوز . كسبت امها الرهان. اما هى فسوف يبقى وجدانها معلقا يموج فى فضاءات بلا قرار .
***
بطبعها لا تحزن نيكيتا داو . و لا تبكى على ما فاتها لأن القادم دائما احلى . تلك هى طبيعة الاشياء : القادم دائما أحلى . لأن الانسان بطبعه الغريزى يمضى الى الامام ولا يعود القهقرى الى الخلف . هل يستحق الماضى رهق الانتظار الطويل ، ومكابدة العيش فى بيدائه التى لا تلامس أطراف الحاضر . هى غير متأكدة إن كان الماضى يستحق دموعها العصية حتى جاءها ذلك الصبح ، صبح الجمعة بالتحديد . بكت نيكيتا داو فى ذلك الصبح كما لم تبك من قبل . وظللت تبكى وتدق على صدرها منذ تأكد عندها الخبر. تمنت لو أنها لم تكن موجودة فوق ظهر الارض فى ذلك اليوم . اطالت الجلوس عند نافذة غرفتها المتواضعة فى البيت العتيق . بانت لها من بعيد تلال كررى ، تزدرى الامكنة من حولها. حدقت باستغراق عميق . اطالت التحديق . ذكرتها بهضاب الرجاف الداكنة تحدث عنها امها بشبق شديد . اطلقت من صدرها زفرة عميقة . حدثت نفسها حديثا هامسا. " فعلها المجانين اخيرا " . استعادت حكايات ابيها نقلا عن ابيه . كان ابوها من احفاد الجنود الجهادية الذين خدموا الدولة التركية قبل ان ينتقلوا الى خدمة الدولة المهدية . لم يكونوا اساطين ارتزاق يقاتلون بسعر السوق لمن يدفع اكثر كما يصفهم الذين برعوا فى تزوير التاريخ . كانوا يدفعون العدوان عن الربوع التى فتحت عيونهم فيها على الحياة . تساقط كثيرون منهم تحت هدير مدافع المكسيم . تراصوا تلا كبيرا من البشر الملغوم بالكبرياء . تعددت سحناتهم . هذا اسود حالك السواد ، جاء من الهضاب الداكنة فى الغرب البعيد . وهذا اشقر ، جاء من البوادى عموم . و ذاك قمحى ، لا اشقر و لا اسمر . وهذا خاطف لونين ، لا تستطيع تحديد لونه ولا جهويته .تقاطروا جميعا نحو الوغى فى ذلك الصبح وقابلوا الفناء تحت سفح التل الملغوم بالكبرياء . تدافعوا للدفاع عن الحيز الجغرافى الممتد مثل سرداب التاريخ . جاءوا من كل فج عميق . جمعتهم نخوة الدفاع عن الربوع التى تنسموا عبير الحياة فيها . وبللت فيها رطوبة الانداء اجفانهم الشامخة. جاءوا لا يحملون وثائق ثبوتية بهوياتهم او جهوياتهم . اكتفوا بهوية واحدة ، هوية الانتماء للحيز الجغرافى الذى وجدوا أنفسهم فيه منذ فتحت عيونهم على الحياة واسرارها فيه .. حكايات آبائهم شكلت وجدانهم المتنوع . وزرعت فيه ارادة البقاء عند هذا السفح الشامخ . و ابقت فى ذاكرتهم حكايات تصادم عاديات النسيان . عنتيل الخيل الذى كسر عمود الخيالة الانجليز. وانفتل خارجا باتجاه الشرق متحيزا لقتال قادم وخاطره ما زال مكسورا لأن القائد الاعلى للجيوش كسر خاطر قواده الاشاوس حين امرهم بتاجيل الهجوم حتى الغداة. اطرق القائد المحزونون وقالوا سمعا سمعا وطاعة . إلآ ذلك المجروس القادم من الشرق البعيد . تمرد المجروس العنتيل وكسر اوامر القائد الاعلى الممعنة فى الخطأ . وكسر معها مربع الخيالة الانجليز وقتلهم . جدودها يرقدون فى هذه البقعة بالتحديد . حصدتهم راجمات المكسيم و صعدت ارواحهم واسرارهم واسماؤهم وبطولاتهم الى الاعالى هنا . وبقيت تحت سفح كررى العنيد الاسطورة الخالدة . مثل جدودها ومثل ابيها التصقت بهذا الوادى. ومثلها سيبقى ابناؤها ملتصقين بهذا الوادى . اجدادها الابعدون تركوا وراءهم الرجاف البعيد . وغلبهم ان يعودوا . كل اشبار الارض هى وطن مفتوح لمن يستطيع ان يضيف سطرا فى كتاب الخلود . كان هذا هو تقديرها. ولكن الخبر الجديد جاءها فى صبح ذلك اليوم . يوم الجمعة بالتحديد . اطرقت نيكيتا داو ودقت على صدرها من الخوف والاشفاق. اصبح لها وطن آخر لم تعرفه من قبل ولم تسع اليه . وطن وعنوان جديد . تبرع به لها الآخرون . لم تكن حاضرة او راغبة . الآن فقط تبين لها انها كانت تعتمد عنوانا خاطئا فى تلك السنين الطويلة . وتتلبس وطنا غير وطنها . و تكذب على نفسها وهى لا تدرى انها تكذب. وابوها وحكاياته عن ابيه . كل ذلك الجلال كان وهما. كل تلك العناوين كان مزورة . وسعاة البريد الاماجد فى المدينة الكبيرة وقد حفيت اقدامهم فى السعى وراء تلك العناوين . اشعلت سيجا رة اخرى ، نفثت منها دخانا كثيفا . القت بصدرها على صدر امها . حدقت فى عيون امها بقوة . همست فى اذنها : بنتك باقية هنا فى مقرن النيبلين . ستعودين اليها من الرجاف عندما ينضج الزرع . عادت الى نحيبها وهى تهمس الى نفسها فى استغراق " لقد فعلها المجانين . غدا سيعرفون ما جهلوا .
alihamadibrahim@gmail.com