دنيا !

 


 

عدنان زاهر
4 December, 2021

 

" حايم " فى " الواتس آب " هذه الأيام فيديو يغنى فيه رجل ستينى العمر أغنية الفنان الراحل خوجلى عثمان " أنت أتلومت فينا " بأداء يشبه " الراب " و بشكل صادق و مؤثر ساهم ذلك فى سرعة انتشاره فى القروبات المختلفة التى تملأ سماء ذلك الفضاء الأكترونى.

 لفت الفيديو و الشخص الذى يغنى فيه انتباهى، فقمت بارساله لعدة أشخاص من الأصدقاء، و كنت حريصا على معرفة تعليقاتهم و هم أشخاص يمتلكون كم من المعرفة و الخبرة...... و جاءت تعلقاتهم كالآتى....

( من شدة ما عجبتنى رسلتها سريعا لصديق ).....الثانى ذكر ( ياخى ده ألذ زول فى الدنيا ) ....أما الثالث فقد ذكر ( واضح جدا أنو بنعم بسلام داخلى يحسد عليه ).....أما الأخير فلم يعلق و لعل صمته و عدم تعليقه كان " فوق رأى " !!.. كما يقول أهلنا البسطاء فى السودان.

 ليس مدهشا أختلاف طريقة تعبير الأصدقاء حول الفيديو بالرغم من اتفاقهم بالاعجاب بالمغنى ، فكما هو معروف و مجمع عليه فان كل شخص يقرأ الحدث من الزاوية التى يريد بها تفسيره و تفكيكه مستخدما فى ذلك معارفه المتراكمة، تجاربه،احاسيسه ، رؤيته للدنيا و خلفيته الأجتماعية، كل ذلك بالضرورة يؤدى الى اختلاف التقييم و الرؤى . انطلاقا من ذلك المنظور و تلك المقولة أحاول أن اكتب عن أفكارى ، مشاعرى و رؤاى لدى مشاهدتى لهذا الفيديو مستصحبا بالطبع معى تعليقات الأصدقاء.

عندما استمعت للفيديو لأول مرة وجدت أن هنالك بعض الأشياء التى شدت انتباهى مباشرة و وتتمثل فى الآتى :

1- الشخص الذى يغنى كان باديا عليه الأنتشاء بالخمر أو بدونه.

2- من خلال الفيديو يصل المشاهد الى نتيجة مفادها أن الأشخاص الذين قاموا بتصوير الفيديو لهم علاقة بالشخص الذى يؤدى الأغنية، و يبدوا أنهم قد طلبوا منه أداء تلك الأغنية و هدفهم السبق الصحفى و نشر ما يرون انه مدهش لرواد " النت " دون مراعاة لأى شئ آخر.

3- حرص المصورين على عدم اظهار صورهم فى هذا الفيديو، يرسل رسالة سالبة مشفرة لكنها سهلة الالتقاط  بانهم ليسوا من طينة المغنى.

4- الفيديو تم تصويره قرب مكان لبيع الشاى و كأنه صور بالقرب من سوق " قندهار " فى أمدرمان أو طرف أى مدينة أخري.

تمعنت فى المغنى الذى تبدوا ملامحه أنه من أهل جنوب السودان الذى أصبح دولة أخرى، أو الغرب الذى أهلكت المجاعات، الهجرات و الحروب العنصرية نصف أهله أو جنوب النيل  الأزرق الذى تدور به حروب  أهلية زهاء عقدين من الزمان.

 يقول أهل الفراسة العارفين للناس، أنك تسطيع قراءة تاريخ الأشخاص من خلال سلوكهم و هيئتهم أو حركة أجسادهم " لغة الجسد ". متقمصا شخصية الفراسة التى تحدثت عنها أستطيع أن أقول أن المغنى له علاقة بالمعرفة، فمخارج صوته واضحة و صحيحة رغم اللكنة التى تطغى عليه، قلم " البج "1  الذى يعلقه الى حافة قميصه و هندامه رغم اتساخه فهو يشير بشكل أو آخر لمنشئه الطبقى، العرقى ووظيفتة.... كل ما ذكرته يشير الى أنه اما معلم سابق ، موظف أو فنان أدمن و عاقر الخمرحتى أمتلكته و أوصلته لتلك الحالة ! كما لا أستبعد تماما أن من قاموا بتصوير ذلك الفيديو قد قاموا بمنحه بعض النقود لزيادة " الأنبساطة ".........اضافة الى ذلك فهو يبدوا أنه زبون دائم ل " ست الشاى " التى تبيع أشياءها فى تلك " الضروة "  المعروشة  بشوالات الخيش المثبت على حائط مبنى قديم، تصل لتلك المعلومة عندما تستمع الى تعليقها فى أداء المغنى ( عسل أنت )!!

فى تقديرى بان اداء المغنى رغم تميزه لكنه يعكس حزنا كامنا،ازدراءا و سخريه من الذين قاموا بتكليفه بتلك المهمة ؟! .....اليس أحيانا السلوك البشرى يمكن أن يشير الى نقيضه ؟!!


و أنا أكتب هذا التحليل المتداعى خطرت ببالى تلك القصة التى حكاها لى أحد اقربائى كبار السن منذ سنوات طويلة، مستنكرا سلوك ذلك المفكر و الفيلسوف2 الذى قرأت له كل كتاباته التى نور بها أروقة الفكر السودانى قال قريبى ( كان يقف فى وسط دائرة من الناس بملابس مهترئة و متسخة.....  امامه حمارا يقف مؤدبا و مستكينا، و هو يحاضر المجتمعين المنصتين  باهتمام عن الفرق بين الأنسان و الحمار ) !!

واصل حديثه ( ده " مرمر "3  سمعته و سمعة أهله فى التراب.....بالتأكيد كان شارب )!!

قلت سرا و فى غيظ ( و لماذا لا تفكر فى الأسباب التى دفعته لمثل هذا السلوك ) ؟!

فى تلك اللحظات استحضرت قول شخصا آخر...... ذلك المناضل العميق و النبيل، الذى تناوشته رماح الدنيا و قناصيها عندما يضرب براحته على فخذه.....  و يقول فى لحظات شرود...............دنيا !



عدنان زاهر-29 -11 -2021



1- قلم البج : هو قلم حبر " ناشف " جميل الخط كان المتعلمين و المثقفين السودانين فى القرن الماضى مغرمين باغتنائه.

2- المقصود المفكر عبدالله عشرى الصديق الذى أسس مع شقيقه محمد عشرى الصديق جماعة الفجر، كتبت الدكتورة عفاف عبد الماجد أبوحسبو ما يلى ( جماعة أخرى مهمة،كانت هى جماعة الفجر مثلها مثل جماعة الأبورفيين تكونت فى أواخر العشرينات من الخرجين الذين عاشوا فى الموردة،و كان لهم أصدقاء يعيشون الهاشماب و من هنا أستمدت الجماعة أسمها " أولاد الموردة و الهاشماب ".و كما كان الأخوان الكد هما مؤسسا و روح جماعة أبوروف، كذلك كان الأخوان عشرى بالنسبة لجماعة الفجر ).

دب خلاف فكرى فى الجمعية بين أولاد الموردة و الهاشماب حول " القومية السودانية " تحول الى صراع عرقى تناول ذلك د  خالد الكد فى كتابه " الأفندية و مفاهيم القومية فى السودان " فكتب ما يلى (  نشر عدد من أبناء الهاشماب فى مجلة " النهضة " العدد الثالث التى كان المساهمون الأساسيون فيها هم جماعة الموردة، و على غلاف المجلة صورة كبيرة للزبير باشا و تحت الصورة التعليق التالى " المغمفور له الزبير باشا العباسى "!.....كان المقال نكاية فى الأخوين عشرى و توجيه اساءة لهم و مذكرين لهم بأصلهم يرجع الى قبيلة الشلك الجنوبية. زاد الخلاف حدة عندما غير أبناء الهاشماب اسم الجمعية من جماعة الموردة و الهاشماب الى جماعة " الهاشماب " فقط !!

يواصل الكد فى كتابه الأفندية كاتبا عن نهاية ذلك الصراع المأساوى (أخيرا أستسلموا....محمد أصيب بمرض عصبى، و عبد الله عاقر الخمر.كانوا خارج اطار الصورة عندما  تمت مصادرة افكارهم عن القومية السودانية ).

أزعم ان الأضطهاد العرقى و الضغوط الأجتماعية تجاه المفكرين ذو الأصول الأفريقية لم يطل فقط أولاد عشرى الصديق بل امتدا لاحقا الى آخرين أهمهم مفكر و مؤسس " الكتلة السوداء " دكتور محمد أدهم .

3- مرمر : لطخ





elsadati2008@gmail.com

 

آراء