دواس جمال عنقرة الثقافي وفرح مختار دفع الله المهاجر .. بقلم/ محمد الشيخ حسين

 


 

 

 

abusamira85@gmail.com

إذا كان الأمير النور عنقرة أحد قادة الثورة المهدية الأفذاذ قد اشتهر بصفته رجل قوة وحرب (دواس)، فإن الحفيد جمال عنقرة يسير في نفس الدرب متماهيا مع العصر لصفته رجل (دواس) ثقافي يمشي في طريق مظلم بسعي حميم لينير جنباته بشعاع الثقافة الذي يحمل الفكرة والوعي معا.
أصل الحكاية أن ليالي رمضان جادن من مركز جمال عنقرة للخدمات الصحافية، بجلسات ساحرات مدهشات ممتعات، تجلس فيها وشط النيل الأزرق تحت ناظريك حين تجلس في إحدى قاعات فندق الإيواء في طابقه الرابع عشر. إذا رأيت مياه النيل الأزرق تحتك ساكنة هادية فلا تقلق، فأنت على ارتفاع نحو 50 مترا من سطح البحر، لكنك موعود مع حراك ثقافية فنية زاخرة بالأشواق والمشاعر والأحاسيس النبيلة.
ليالي رمضان
الحاصل أن ليالي رمضان مهرجان ثقافي فني يعقد جلساته في ليالي الشهر الفضيل، وهو ثمرة شراكة ثلاثية تسعى إلى الانفتاح ورفد الحياة بنشاط إبداعي يرد الروح في الأجسام البالية. يقف في مقدمة هذه الشراكة الاتحاد العام للصحافيين السودانيين في خطوة جديدة في سعيه نحو الانفتاح على عدة مجتمعات: محتمعه الصحفي أولا، ثم المجتمع بشقيه الثقافي والفني ثانيا، ثم المجتمع العريض ثالثا. وهي خطوة مهمة جدا يدرك نقيب الصحافيين الصادق بحسه المرهف أن أقوى داعم لحركة المجتمع المدني في عالم اليوم، يتمثل في تكرار وتنويع اللقاءات المحببة غير الرسمية على نحو ما يعرف في الغرب بـ Happy Gathering
أما الطرف الثاني في الشراكة فهو صالون الأستاذ الراحل سيد أحمد خليفة، وصاحب الصالون رقم مهم في دنيا الصحافة السودانية، وصاحب بصمة مختلفة عبر رحلة امتدت لأكثر من 50 عاما. لو أن الظروف سمحت سأكتب لـ (الأعزاء) يوسف وعادل عن سيد أحمد خليفة الذي لا تعرفونه. والطرف الأخير هو مركز جمال عنقرة للخدمات الصحافية لمؤسسه صاحب الدواس الثقافي.
دعم ثلاثي
تكتمل هذه الشراكة الثلاثية بدعم ثلاثي أخر يقف في مقدمته رعاية كريمة من الفريق الركن أحمد علي أبو شنب معتمد الخرطوم الذي يؤكد بدعمه هذا سعيه المستمر إلى تحويل ليالي الخرطوم إلى أمسيات مترعة بالثقافة والفن والإبداع، ثم فندق إيواء الذي يستضيف هذه الليالي، لعله انطلاقا من حرصه الأكيد على أن تزدهر ليالي العاصمة بالفن المرهف الجميل. ويكتمل مثلث الدعم بقناة أنغام الفضائية التي تحرص على البث المباشر لهذه الفعاليات خدمة للآخرين الذين لا تتاح لهم فرصة المشاركة.
لسنا في إلى حاجة إلى القول إن الإسهاب في سيرة الشركاء والداعمين، يأتي من باب رد الفضل إلى أهله، خاصة أن حال هذا الحراك الثقافي الفني حال المشتاق إلى الاستثمار في جمال النيل والخرطوم بالليل.
الفرح المهاجر
خصصت الليلة الثالثة في ليالي رمضان قيدومة لتدوين ديوان الشاعر المطبوع مختار دفع الله (الفرح المهاجر). ويأتي الديوان الذي صمم غلافه الفنان الجميل عادل كبيدة في 112 صفحة من القطع الصغير يحتوي على 46 قصيدة كتبت خلال فترة طويلة تمتد لأكثر من 40 عاما. والسمت العام للقصائد التي كتبت باللغه العامية السودانية بين الوجدانيات والإخوانيات والغناء للوطن الذي يتوج بقصيدته الشهيرة (أنا يابلد). على أن الأهم في الديوان هو استهلال كتبه أمير شعراء الأغنية السودانية إسماعيل حسن في العام 1978.
انسابت ليلة القيدومة برشاقة تحلق فيها مع نموذج أول باذخ من أغنيات العميد أحمد المصطفي والإمبراطور محمد وردي بصوت الفنان عوض كسلا.
وأداء عوض كسلا الغنائي يفيد أن صاحب أغاني وأغاني لا يجهد نفسه كثيرا في البحث عن أصوات (ما سمعو بيها الناس)، ذلك أن أداء عوض كسلا يفوق كثيرا من فناني السر أحمد قدور وتابعيه بغير إبداع.
وتحلق أيضا مع نموذج ثاني إبداعي من غاندي حسين الذي يقف على المسرح شامخا يغني بقوة وثقة وحنية.
أما النموذج الثالث فقد كان الفنان المخضرم زكي عبد الكريم الذي يعيدك بصوته الشجي إلى محمد علي أبو القطاطي وإلى (أيام كنا نعيش الحب في عهده الأول).
ولا يكتمل الحديث عن الليلة دون الإشارة إلى مقدمة البرنامج المذيعة أسماء أبو بكر صاحبة الصوت المتميز والنبرة الواضحة واللغة المجودة والتقديم الرشيق الراقي دون مط أو تطويل أو ثرثرة.


إذا أحس القارئ بأي إعجاب في الأسطر اللاحقة فهذا الإعجاب لا نخفيه، فقد جلست على مصطبة الدراسة الجامعية مع مختار دفع الله، فقد كان أكبرنا سنا وأكثرنا علما وأقدرنا خبرة على التعامل مع الحياة والناس، بل هو الذي قادنا دون أن ندري إلى دهاليز الشعر الغنائي السوداني وحناجر الغناء السوداني، وذلك هو زمن مختار د
فع الله صاحب الفرح المهاجر.
زمن مختار دفع الله
لكل سوداني أغنية تنام في ذاكرته يحفظ مقاطع ترديدها عن ظهر قلب. أنها دمعته ووسامه ومرجعه وحرقته.
عبر هذه الأغنية يتصل بالنغم ومواسم الفرح، عبرها يتصل ببعض الفن، أنها الذاكرة المنحازة تحفظ أغنية وتدفع بأخرى إلى غياهب النسيان. وهذا النوع من الذاكرة يبدو لي أنه حقل خصب مازال للتأمل في الحياة السودانية منذ أن صدح الحاج محمد أحمد سرور في زواج بشير الشيخ في عشرينيات القرن ( أبكي وأصيح لي الشوفتن بتريح).
المهم سارت قافلة الأغنية السودانية تنام وتستيقظ معنا، بل أصبحت بوصلتنا الفعلية وكتابنا المفتوح في قراءة البلاد وأحوالها والعلاقات بالآخر المقيم فيها. إنها مصدر الطمأنينة والقلق، مفتاح المشاعر والابتهاجات والثأرات.
وتأتي حقبة سبعينيات القرن الماضي بمسارات جديدة في طريق النغم، فهذا يحفظ عن ظهر قلب (قلت أرحل) لمحمد وردي والتجاني سعيد، بالمناسبة في أغنية قلت أرحل رحل وردي بالأغنية السودانية إلى مقامات جديدة، أرجو أن نعود إليها يوما ما. وذاك تطربه (زاد الشجون) لمحمد الأمين مع فضل الله محمد. وثالث يذوب في ثلاثية عبد الكريم الكابلي (تاني ريدة)، والأغنية من كلمات وألحان وغناء الكابلي.
في أجواء القمم هذه ظهر الشاعر الغنائي المعروف مختار دفع الله كأمدرماني (غلبان)، لكن دواخله لا تمتلئ بزهو الأمدرمانيين وحبهم للتفاصيل، لأن ولادته ونشأته الأولى في ود بندة في بيادر شمال كردفان قد غذته بأصدق الغناء وأعذبه، ذلك أن أعذب الغناء وأصدقه في السودان حسب الأستاذ عبد الكريم الكابلي (ما تغني به أهلنا الكبابيش والحمر والمجانين والمسيرية).
يبدو أن الفرح في حياة مختار دفع الله حالة مستمرة من المعاناة، لذلك صدر ديوانه الأول بعنوان (الفرح المهاجر)، فديوانه الأول صدر قبل أكثر من ثلاثين عاما (أنا يا بلد).
////////////////////

 

آراء