دور خريجي كليات الآداب في الحراك الثقافي:النموذج السوداني

 


 

 


الأدب هو ثمرة التفاعل بين الفكر والعاطفة في النفس الإنسانية. وهذا التفاعل له خصوصيته وظرفيته. أما وظيفته فهي تهذيب النفوس وتثبيت القيم الفاضلة والمثل العليا وتنمية الإحساس بالجمال ليس فقط بغرض الإمتاع الذاتي بل أيضاً لتدبر بديع صنع الله تعالى في هذا الكون الفسيح. فالأدب "شعر ونثر وفن وموسيقى ومسرح" لا ينفصم عن "الإنسانيات". لذا لا غرابة أن تربط "الآداب" دوماً بالعلوم الإنسانية حيث يتم التعامل معها بمنهج علمي معين. فالعلم (إنساني وطبيعي) هو معرفة منهجية محققة ومنظمة. 
ونلحظ في العقود الأخيرة أن ثمة إنحسار لدور خريجي كليات الآداب والدراسات الإنسانية في المشاركة في الحراك الثقافي بالسودان. وهذه الملاحظة تدعو بالطبع إلى إجالة النظر في الهدف المنشود من التعليم الجامعي بشكل عام وفي جانبه النظري على وجه التخصيص فيما يلي الإبداع الأدبي والفني. وكما هو معلوم – فإن الغرض الأساسي للتعليم الجامعي بجانب أهداف أخرى هامة – هو إعداد الإنسان المؤهل القادر على معالجة ما يواجهه من إشكالات حياتية بصورة علمية تطبيقية ونظرية نقدية لتحقيق مقولات "إرتباط الجامعة بالمجتمع " و " الجامعة بالواقع". 
ولا يغرب عن البال أن مناهجنا الحالية أصبحت غير مواتية لتحقيق أهداف العملية التعليمية بصورة ‘مرضِية . فنظامنا التعليمي على المستوى الجامعي – كما هو معروف لأهل الإختصاص – يرتكز في كلياتنا على التربية الإمتصاصية وليس على التربية الإستكشافية. فأصبح المتعلم يعد مستهلكاً سلبياً للمعرفة، وبالتالي لا يعد شريكاً فاعلاً وطرفاً معنياً في بناءها.
وتجدر الإشارة إلى أن كثيراً من طلاب وخريجي كليات الآداب أصبح لا يهتم البتة بالجوانب التطبيقية لتخصصاته الدقيقة. إذ لا يزال أغلب هؤلاء غير مدرك للمفهوم الحديث  "للآداب" التي لم تعد دراسة نظرية بحتة ناهيك عن بذل أي جهد لاكتشاف مواهبهم الأدبية والفنية. ويرجع ذلك بالطبع إلى عوامل عديدة أبرزها في ظني غياب النموذج المتمثل في "الأستاذ الجامعي" المهموم بالشأن الإبداعي داخل أروقة كليات الآداب. فإيقاع الحياة المتسارع جعل الهم الأكبر لأساتذة الجامعات اللهاث وراء لقمة العيش، إذ لم يعد الوقت كافياً لهؤلاء للتفرغ للهم الثقافي والأدبي سيما وأن تكاليف الحياة المعيشية أصبحت مرتفعة. فلم يعد الراتب الشهري يوفر للأستاذ متطلباته الحياتية االضرورية. فبات التدافع نحو المعاش اليومي بشكل أساسي وإنعكس ذلك سلباً على النشاط الثقافي والإبداعي لخريجي وأساتذة الجامعات. 
ولا مشاحة أن "الآداب" بالمفهوم الكبير لهذه الكلمة من أهم الإبداعات الإنسانية. لذا فإن دراساتها (لغات وإنسانيات) في المؤسسات الأكاديمية الجامعية – ورغم أنها تنحو منهجاً علمياً صارماً يخضع لقواعد نقدية عقلية (منهج) – فإنها غير منفصمة – أو هكذا ينبغي أن تكون – عن الحياة العامة والتي هي بمثابة العجينة التي يتشكل منها الوعي الإنساني، وعياً بذاته وعلاقته بالآخر وبالحضارة وبالوجود ككل.
ولكيما يتم الربط تربوياً بين قاعة المحاضرات والحياة الأدبية السودانية لابد من تفعيل العملية التعليمية. ويجب أن لا يتم الركون فقط إلى المناهج النظرية برغم أهميتها. فلابد من التفاعل مع النماذج الأدبية الواقعية في السودان بِحثِّ الطلاب على إختيار بحوثهم سيما للتخرج من موضوعات أدبية من البيئة المحلية ولمثقفين ومبدعين سودانيين. ولعل من الإبداعات السودانية التي تحضرني في هذا المقام والتي كان ل"الأستاذ الأنموذج" دور هام في التعريف بها ما أورده الناقد العربي الكبير والأستاذ السابق بجامعة الخرطوم والجامعة الأمريكية ببيروت إحسان عباس. فقد أفاض في كتابه الموسوم بـ "غربة الراعي: سيرة ذاتية لمثقف فلسطيني" في الحديث عن الثقافة والحياة في السودان في الخمسينات والستينات الماضية وما بذله من جهد لنشر الأعمال الأدبية لطلابه المبدعين في كلية الآداب بجامعة الخرطوم والساحة الثقافية السودانية. وكان من ثمرة هذا الجهد ظهور ديوان "غابة الأبنوس" للشاعر صلاح أحمد إبراهيم ومجموعة قصصية لصلاح وأخرى للكاتب على المك ثم نشر لاحقاً ديوان "غضبة الهبباي" لصلاح أحمد إبراهيم وديوان "الصمت والرماد" لمحمد عثمان كجراي. وقد نشرت كل هذه الأعمال الأدبية بدور نشر بيروتية. 
وننوه بأن الإستراتيجية الأكاديمية – التربوية الناجحة لتأهيل خريج الآداب والعلوم الإنسانية تعمل على رفده بقاموس لغوي مكين وذلك بدراسة اللغات وبخاصة الاجنبية حتى يصبح الطالب ملماً منذ ولوجه الدراسة الجامعية بالعديد من تخصصات الدراسات الإنسانية (فلكور، آثار تاريخ، أنثروبولوجيا، فلسفة، علم نفس، علم الجمال ومقارنة الأديان، …الخ) على أن يختار تخصصه بعد دراسة تمهيدية لمختلف فروع الإنسانيات المشار إليها، فضلاً عن ربط الطالب ببيئته وواقعه الإجتماعي عن طريق إدخال مناهج قادرة على الإجابة عن تساؤلاته في مراحل دراسته الجامعية وحتى يكتمل نضجه العقلي وحسه الوطني بنفس الدرجة. 
ولا ريب أن هناك الكثير الذي لم تطله أبحاث في تراثنا القومي. فالإمكانيات المادية تقف دوماً عقبة كأداء أمام العمل على إنجاز المزيد من الدراسات التراثية والمعاصرة (الأدبية والفنية) السودانية. ورغم ذلك نلحظ أعمالاً لافتة في مجال الفلكلور والتراث – معظمها باللغة الإنجليزية. أما في مجال الشعر والموسيقى فلا يزال هناك الكثير الذي ينتظر التنقيب والبحث والدراسة وهذه مهمة المجتمع ككل. وإلى جانب الدور الرسمي، فلمنظمات المجتمع المدني دور مهم في هذا الشأن ونشير هنا إلى أن المنظمات الأهلية والجمعيات الأدبية السودانية التي قامت في العشرينيات والثلاثنيات من القرن الفائت هي التي قادت العمل الفكري والسياسي الذي أفضى إلى بزوع فجر الإستقلال. 
فإعداد جيل قادر على صياغة أسئلة فكرية وجمالية جديدة تعمل على تخصيب الحياة الأدبية في السودان يتطلب تغيير المناهج التعليمية، فهي (المناهج) المرتكز لإعادة صياغة المفاهيم الفكرية لأبنائنا وشبابنا. ويستوجب ذلك أن تعمل المناهج التعليمية على صياغة النشء قيماً (دينية واجتماعية) ونظماً ومناهج تفكير بأن تركز على الجوانب التحليلية والنقدية في الأعمال الأدبية. وهي - أي هذه الخاصية- التي تعمل على تفعيل الحياة الأدبية السودانية مع تشجيع الشباب لإرتياد المنابر الفكرية والثقافية. هذا من ناحية، ومن جهة أخرى، لابد من العمل على إخراج العقل الأدبي السوداني من حنينه إلى الماضي بصورة باثولوجية مرضية بإبداع أسئلة حول الراهن والآتي. فالنوستالجيا (الحنين إلى الماضي) دليل على عدم الإقتناع بالحاضر وعدم الرضا عنه. فالرجوع إلى الماضي (التراث) لأخذ الإيجابيات منه شيء مقبول ويجب الحث عليه بشرط أن يكون ذلك الرجوع مرتكزاً على مشروع ثقافي للإرتقاء بالراهن. أما إذا كان الحنين إلى الماضي بهدف التشبث به فقط لتعويض معنوي لواقع ثقافي غير مقبول فهذا مرفوض لأن في هذه القراءة التقليدية للراهن الثقافي تنكرًا لذاتيتنا ولفرديتنا بل تنكراً لقدرتنا على الإبداع والإضافة ، فدور المثقف إياً كان يكمن في مقدرته على الإبداع بل والإضافة وتجاوز الراهن. والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل. 


khabirjuba@hotmail.com

 

آراء