ديمقراطية السودانيين في زمن ديمقراطية ضد الديمقراطية

 


 

طاهر عمر
26 September, 2022

 

من الملاحظ أن النخب السودانية فيما يتعلق بالفلسفة السياسية و تطور الفكر السياسي في حالة يرثى لها مثلا يعتقد كثير من النخب السياسية في السودان أن الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي فكر رميم و لا يرقى الى مضارعة نظريات متكاملة كما يعتقد في الشيوعية و هذه كانت من أوهام كثير من النخب حول العالم لذلك عندما ناهض ريموند أرون ماركسية سارتر و جاء بأفكار توكفيل من قلب النسيان و كتب أفيون المثقفين و عبره قد انتصر على ماركسية ماركس كانت مفاجئة لكثير من النخب حول العالم.
و لكن كدأب الفلاسفة و المفكرين و علماء الاجتماع و الاقتصاديين و قد إجتمعت كل صفاتهم في ريموند أرون عندما حاول المستحيل في زمن كان الكل حول العالم يعتقد أن الرأسمالية بفكرها السياسي و الاقتصادي ذات فكر رميم مقابل نظرية متكاملة كالشيوعية إلا أن ريموند أرون لم يكن ممن يستكين للأحكام المسبقة و قد قال قولته المشهورة عندما قرر أن يذهب الى الكتب قبل أن يذهب الى الحزب و قد فتحت له آفقا عبرها قد قال درست رأس المال لماركس عبر ثلاثة عقود و لم أجد فيه ما يجعلك أن تكون ماركسيا.
رحلة ريموند أرون و بحثه المضني يكشف لنا كيف كان موروث النخب السودانية منذ بدايات أندية مؤتمر الخريجيين و الى اليوم بأن النخب السودانية لم تنزل بعد الى نهر الفكر و جريانه الدائم و كيف تكون مسألة تغيير المفاهيم و لهذا جاءت الديمقراطية السودانية ضئيلة و بائسة نتاج بؤس فكرهم جيل عبر جيل الى لحظة النخب السودانية الآن و قد أضاعت ثورة ديسمبر المجيدة لأن فكرهم عن كيف تطورت الديمقراطية و كيف تحولت المفاهيم الى درجة قد أصبحت الديمقراطية بديلا عن الفكر الديني.
هنا يكمن سر تحول المفاهيم مثلا كان توكفيل قد لاحظ أن التحول الهائل في مفهوم الارستقراطية و البرجوازية الصغيرة الناتج من ثمرة الثورة الصناعية هو ما جعلها تفكر في مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و بتطورها قد وصلت الى نواة صلبة لفكرة الضمان الاجتماعي الذي يسود في جميع الدول الغربية فيما يتعلق بفكرة الحد الأدنى للدخل للعاطلين عن العمل و قد رأينا كيف أصبحت المعادلات السلوكية التي تتخذ من المقطع الرأسي كحد أدنى للدخل في الفكر الرأسمالي.
على فكرة لم يستطع الشيوعيين الى اليوم تقديم معادلة رياضية كما قدم الفكر الرأسمالي معادلة رياضية في كيفية تحديد الحد الأدنى للدخل عبر منطقه الرياضي و من هنا يتضح لنا كيف كانت النخب السودانية أسيرة أوهامها التي غيّبت عن أفقها كيف تفكر في مسألة الهوية الفردية و كيف تكون علاقة الفرد بالدولة كمفهوم حديث؟ و قد رأينا كيف كان غوصهم في وحل فكر الهويات القاتلة كما يقول أمين معلوف.
و الغريب ما زال كثر منهم يعودون أي النخب السودانية الى مرحلة تعاطيهم الوهم و يتحدثون عنها كمدارس كما يصفون الغابة و الصحراء و العودة الى سنار و أبادماك و غيرها من دروبهم التي قد ضللتهم عن الهوية الفردية و علاقة الفرد بالدولة كمفهوم حديث و هذا ما ننبه له النخب السودانية في إعادة النظر وفقا لمنظور الليبرالية الحديثة و فلسفة التاريخ الحديثة و يندر أن تجد لهما أثر في كتابات النخب السودانية كما رأينا في كتابات ريموند أرون حيث أصبح علم الاجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتيك.
و عبر فكر توكفيل كيف كان التحول الهائل في مفاهيم البرجوازية الصغيرة قد فتح على مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هنا تتضح فكرة كيف تفارق الشعوب عقلها الجمعي التقليدي. مثلا التطور الهائل في فكر البرجوازية الصغيرة في فهمهما لفكرة المسؤولية الاجتماعية كان تجاوز لعقل جمعي تقليدي و هذا ما جعل الديمقراطية ترتفع الى مستوى ثورة أي ثورة الديمقراطية و هي كيف أصبحت بديل للفكر الديني في جلب سلام المجتمع الذي فشل فيه الدين أي دين كما يقول ماكس فيبر.
و مسألة أن الديمقراطية بديلا للفكر الديني و وحله تكاد تكون نقطة الضعف المستدامة للنخب السودانية و لهذا لم نجد أثر لأفكار توكفيل و مسألة كيف حققت الديمقراطية الأمريكية ما فشلت فيه النخب الأوروبية في القارة العجوز و عندها كيف إهتدى توكفيل لفكرة أن الشعب الامريكي قد فارق عقله الجمعي التقليدي عندما توصل لفكرة فصل الدين عن الدولة و هي روح فكر جون لوك الأب الشرعي لليبرالية بشقيها السياسي و الاقتصادي. و قد إهتدى لها الشعب الأمريكي عندما أصابت فكرة المساوة بين أفراد المجتمع هدفها و هي فكرة المساوة بين أفراد المجتمع و حينها قد أصبح الدين علاقة فردية بين الفرد و ربه دون تدخل رجال و تجار الدين.
حيث كانت فكرته أي جون لوك تكمن في مقته للإلحاد كما يمقت عدم فصل الدين عن الدولة و لا يمكننا التحدث عن تحول ديمقراطي في السودان ما لم نصل لفكرة فصل الدين عن الدولة و هذا يحتاج لتحول هائل في مفاهيم نخب سودانية ملتصقة بعقلها التقليدي الذي ما زال يقدس فكر الدولة الارادة الالهية في زمن قد توجهت مسيرة البشرية لفكرة الحق في الحقوق في زمن قد أصبحت الهوية الفردية حيث أصبح الفرد بديلا عن الطبقة و ليس كما يتوهم الشيوعي السوداني الى الآن في مسألة انتهاء الصراع الطبقي و نهاية التاريخ و هذا ما يجعل الشيوعي السوداني في حالة بائسة فيما يتعلق بتطور الفكر و تحول المفاهيم و كله بسبب عدم استيعابه بأن نمط الانتاج الرأسمالي يجعل الديمقراطية الليبرالية بديل للدين إلا ان الشيوعي السوداني يريد أن تكون الشيوعية كدين بشري بديل للدين.
من الملاحظات المضحكة و مبكية و توضح ضحالة عقل النخب السودانية إدعاء الشيوعيون السودانيين بأن شعار ثورة ديسمبر حرية سلام و عدالة شعار شيوعي و تناسوا بأن جميع المفكريين يعرفون أن ذلك روح فكر توكفيل في حديثه عن الديمقراطية و أن توكفيل كان يدري بأن الديمقراطية كبديل للدين و قد أصبحت ثورة نتاج أفكار جون لوك في حديثه و أفكاره في رسالة في التسامح حيث لا يكون التسامح ممكن في ظل الخطاب الديني أي دين.
و لا تكون المساواة ممكنة في ظل أي خطاب ديني أي دين و لكن في ظل فكرة المساواة في ظل الديمقراطية بعد إبعاد ظلال الدين كمنظم للمجتمع بعدها يصبح الدين شأن فردي يصبح هم الانسان بمسألة المساواة مع الآخرين قد زال و ينصرف لتحقيق مصالحه الفردية و هنا سر إزدهار الرأسمالية و تقدمها المادي بعد أن أصبحت فكرة التسامح و المساواة نتاج العقل البشري في إبداعه و عقلانيته.
توكفيل من قبل ما يقارب المئتين عام وضّح بأن الكاثوليك في فرنسا كانوا يظنون بأنهم و كاثوليكيتهم يستطيعون الوصول للديمقراطية كهدف و كان توكفيل يقول بأن ما يزعمه الكاثوليك مستحيل و لا يمكن تحقيقه بفكر ديني و هذا حال النخب السودانية و هي تظن تحقيق ديمقراطية و هم أتباع لأحزاب الطائفية و رجال دينها و أحزاب المرشد حيث ما زال المثقف السوداني يظن بان الطيب زين العابدين مفكر اسلامي و ما زال امين حسن عمر كفيلسوف خائب للانقاذ يظن انه مفكر اسلامي و غيرهم كثر من يسعى للغب مفكر إسلامي و لك تتصور جهلهم و هم يصرون على شئ انتقده توكفيل من قبل قرنيين من الزمن لهذا تجهل النخب السودانية بأن الديمقراطية هي بديل للدين بعد أن أصبح في مستوى الخروج من الدين و لا يمكن فهم كل ذلك ما لم تعرف كيف وصلنا لفكرة الدولة الحديثة كمفهوم حديث و كذلك مفهوم السلطة وفقا لعصرنا الحديث حيث أصبحت الديمقراطية بديلا للدين.
لا عليك أيها القارئ المحترم نرجع بك الى عنوان المقال و هذا يتطلب منا بأن نرجع و نرى كيف أنزل ريموند أرون فكر توكفيل و كيف يرى توكفيل بأن الديمقراطية قد أصبحت بديل للدين و كيف حققت أمريكا كل ذلك في مراقبته للمجتمع الامريكي في زيارته و كيف حزن على حال بلده فرنسا و هي تحت أوهام و إصرار الكاثوليك كأوهام أتباع المرشد و الامام و مولانا اليوم في السودان و ظنهم بأنهم يستطيعون تحقيق الديمقراطية بوحل الفكر الديني. و توكفيل كان فيلسوف و عالم اجتماع و كان يدري بأن للديمقراطية إختناقات و لكنها تخرج منها أكثر قوة و هذا ما جعل مارسيل غوشيه يتحدث بأن الديمقراطية الآن في مستوى قد أصبحت فيه ضد الديمقراطية و هو يعرف بأن للديمقراطية إختناقات إلا أنها تخرج منها أكثر قوة.
هنا ندعو النخب السودانية لمعرفة معنى ديمقراطية ضد الديمقراطية وفقا لتطور النظريات الاقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي منذ أيام توكفيل و كيف أصبحت الليبرالية التقليدية في أزمة إبتدا منذ عام 1880 و كيف تغيرت المفاهيم و كيف و متى بدأت الليبرالية الحديثة و عبرها قد تغيرت كيفية مقاربة الأزمات الاقتصادية و إختناقات الرأسمالية و هذا ما يجعلنا أن نفك الخناق من رقبة النخب السودانية التي ما زالت تظن و تتوهم عن إنتهاء الصراع الطبقي و نهاية التاريخ.
على العموم في مقاربات ريموند أرون و من بعده مارسيل غوشيه وفقا لتطور الفكر الرأسمالي و تطور مناهجه في مقاربة نصوصه الكلاسيكية فإن ماركسية ماركس حدث عارض مثل حدوث النازية و الفاشية و قد زالت كل من النازية و الفاشية و الشيوعية و لكن ما يهمنا هنا و نود ايضاحه أن كثر من النخب السودانية تعتقد في ماركسية ماركس أي كأنها هي ستكون مآل البشرية و هذا هو المضحك فالشيوعية و النازية و الفاشية ظهرت على مسرح الأحداث في أوروبا بسبب نهاية الليبرالية التقليدية و لا يمكن أن تكون الشيوعية هي غاية آمال العالم إلا إذا عادت النازية و أصبحت مقبولة لعقلنا البشري في قبول هيمنة عرق على عرق و لحسن الحظ فقد تجاوز عقلنا البشري أوهام النازية و الفاشية و الشيوعية.
و آخر ما أريد قوله في هذا المقال بأن الديمقراطية الآن حتى في البلدان المتقدمة قد أصبحت تحتاج لمفكر جيد يدرك كيف يتمفصل الزمن فما بالك عندنا في السودان و في ظل مؤرخ تقليدي و مثقف تقليدي و مفكر تقليدي لم نقراء و لو مرة واحدة في كتاباتهم لمحات ذكية فيما يتعلق بمفهموم إختناقات الديمقراطية و كيف تخرج منها منتصرة و لا يكون ذلك باليسير في السودان و ما زالت غالبية النخب تعتقد في أحزاب وحل الفكر الديني.

taheromer86@yahoo.com
////////////////////////

 

آراء