دَمعةٌ على شـيْرين أبوعاقـلة

 


 

 

شـيرين. . وأنـتِ في علّييـن في عـناية ربّ العالميـن، نشهد أنّـك كنتِ الشّاهد الذي رصـد ، خلال أكثر من عقدين من هذا الزّمان الرّديء ، حلقـاتٍ من مسلسلِ خيبات الأمّـة العربية. خيبات لم تبـدأ في هذا العصر ولا العصر الذي سـبقه، بل هو خسران التراجع الذي سـجّله التاريخ، منذ الخروج الـمُـذلّ من الأندلـس، منذ اندحار ملوك الطوائف ، ثم بزوغ عصر النّهضـة: "الرينيزانس" ، فاقـتطع شـيلـوك من جسـد الأمّـة العربية ما اقتطع، تحت سنابك خيول الصليبية والهـزائم المتتالية.
أمّا في القرن العشرين، فقد كُتب لتلـك الأمّة العربية أن تتراجع أكثر فأكثر، لتتقاسم أقدارها القوى العظمى، قسمة ضيزى . مَـن اضطهدوا اليهود طيلة عقود طويلة في التاريخ، قرّروا آخر عهدهم، أن يصنعوا وطناً للصهيونية التي تقود اليهود وهم في التيه قرونا، ليقيموا في أقـدس بقعـة سـكنها النبيّون، على التوالي : موسى وعيسى ومحمّد عليهم السّلام.
لم تُذل أمّة العرب إلا ساعة جلس سايكس البريطاني إلى بيكو الفرنسي، ليفـصّـلا خرائط المنطقة ، فرتّبا في اتفاقِ من لا يملك لمن لا يستحق من بني إسرائيل، وطناً في أرضٍ لا تشبههم ولا يعرفونها، إلا بالقليل الذي تواتر إليهم في العهد القديم. وتتالت حلقات المظلوميات تجرّ بعضها بعضا. كانت النكبة عام 1948، عام أرادوا محو وطنٍ، هو وطن أجـدادك يا شـيرين ، وهـا أنت ترحلين في الذكرى الرابعة والسبعين لذلك الترحيل القسري الذي سمّته كتب التاريخ عام النّكبة.
ثمّ يكتب التاريخ لمصر أن تجابه ما أسموهُ في كتب التاريخِ العـدوان الثلاثي عام 1956، وبعده تصل دويلة إسرائيل لسنِّ الثامنة. يكبر جرح فلسطين عاماً بعد عام، ولكن في يونيو/حزيران من عام 1967 تقع هزيمة كارثية، قالوا لنا في كتب التاريخ إنها النّكسـة . . حلقة جديدة في مسلسل المظلوميّات لم يتعب كُتّاب التاريخ من العرب الأذكياء، في استبدال باء "النّكبـة" بسـين "النّكسـة". أجل حرف واحد دفع بالأمة العربية وهي سادرة في خيباتها ، من خيبةٍ أصغر إلى خيبةٍ أكبر، فيما بلغتّ حينها إسرائيل سنِّ الرّشـد، وسنواتها تخصم من أمّة ضحكتْ من خيباتها الأمـمُ . ضحك علينا ونّوس ودُريد لحّام في مسرحية "ليلة سمَر من أجل 5حزيران"، فضحكنا إلى حدِّ البكاء. حينَ التأم القادة العرب في قمّة الخرطوم، أصابت الدّهشة المجتمع الدولي، إذ كيف يخرج أهلي السودانيون لاستقبال قادة مهزومين أذاقوا الأمّـة وجيوشها أبشع ما يمكن أن يرصد التاريخ من هزائم.
لكِ الله أيّتها الرّاحلة العظيمة ، فعام رحيلـك الآن هو عام "الغَـيـْبـة"، ولن يُرهق كُـتـّاب تاريخنا من أن يُبدلوا هـذه المرّة، حرفين لا حرفاً واحدا. لكَم هُم حاذقون - أو لعلّهم متحذلقون- في نحت حروف لغتهم العربية، عجـبـي.

لك الله يا شـيرين وأنت لم تشهدي حلقات مسلسل المظلوميّات منذ بداياتها ، بل عاشها جيـلٌ قديم منهُ والديـك وأجـدادك ، إذْ كان مولـدك في رام الله ، أوائل سـبعينات القرن الماضي . تفتّحـتِ في سـنوات السّبعينات، فإذا حلقات تلك المظلوميات تأخذ لوناً جديدا. تخوض مصر حرباً عام 1973، فتبدأ حلقات التسويات عبر عقود متتالية : خضراء في كامب دافيـد، وبيضاء في أوسـلو، وصفراء من صـاحب صفقة القـرن المُخادع الكبير. .
الخداع والتغييب الذي عاشـته الأمّـة لعقـود طويلة، لم يعد ممكنا استمراره ولا جدواه، إذ ثورة الاتصالات والمعلوماتية والرَّقميّات وانكشاف العالم، هي كلمة السـرِّ: إفتح يا سمسم التي فُتحتْ في إثـرها أبواب الكهوف والمغارات على مصاريعها . أكثر ما انتفع بكل هذه التطوّرات هو الإعلام. صارت للفضائيات عيون ٌتبصر وآذانٌ تسمع وقرونُ استشعار تحـسّ. وكنتِ أنت يا شـيرين من قادة فـيالـق الإعلاميين المهرة . تأهّلتِ في دراساتك وصرت مهندسة في المعمار، لكن خيـارك كان في اتجاهٍ آخر. للإعلام الذي حملته رسائل أخطر من المعمار. أيّ هندسة وأي إعمـار وأنت وشـعبك كله يعيش الهـدم والدّمـار فجـرَ كلّ يومٍ، وعلى رأس كلِّ ساعة .
أنتِ وفلسطين امتزجـتما في ملمحٍ واحـد ، فيهم أسرتك يا شـيرين. لم تحملين قلمك ولا معينات مهنتك، وأنتِ الإعلامية الباصرة ، إلا لتكوني الشاهد الرّصين القادم من أطلال فلسطين والتي اغتصبوا أرضها، وقد عاش فيها أجدادك، فإذا أنتِ قـد سـعيتِ السّعي الإعلامي الأعمـق لتحمـلي فلسـطينك في روحك وترسمي خرائطها تحت رمش عينيك، فحدثتنا عنها بصوتك وحركتـك وقلمـك وعدسـات المصورّين من مرافـقـيـك، وهم معـكِ وأمامـك وخلـفـك.

حـدّثـتـنا في تغطيـاتك التـوثيقـية ومجـازفاتـك الإعلامية الاحترافية، كيفَ تُمسك إسرائيل بمكوّنات أجنـدة بقـائها في أرض ليسـتْ أرضها، وتاريخ منطقةٍ ليسَ لهم فيها تاريخ ، غير ما ورد في كُتُـب الدّيـن ، وكيفَ يستمسك قـادتـها – من تطرَّفَ منهم ومن اعتدلَ- تمسُّـكاً غـريزياً وَمَرَضياً بحاسّـة البـقـاءِ ، فيما بقيَ حُلـمُ الوطن السليب يبتعـد يوماً بعد يوم ، وحلقـة إثر حلقـة في مسلسل المظلوميّات، حتى كاد الحُلـم أنْ يصيْـر كابوسـاً .
غريزة البـقـاء الزائفـة تزيد الظالـم قسوةً وتوحّشـاً. كُنـتِ أنـتِ هناك والمواجهات يزيد أوارها في شهر الصّيام وقـد تزامن مع أعياد الفصح اليهودية، فطفق العـدو الغاشم في تطرفه الذّميم، يدوس بدنّسِ أحذيـتـه فُـرُشَ ومُصليّـات المُسـجد الأقصى . لـثـاني القبلتين ربّـاً يحميها. لقد تابع العالم وأبصر عبر عينيك وصوتك ثمّ عبر فضائياته، كيف كان حراكك وزميلك وليد العمري يتـابع ، وكلّ طـاقـم "قناة الجـزيرة" وأيديـهـم على صدورهم ، وأنتِ بمهنيتـك تجولـيـن في ســاحات المواجهات التي تعـشـقـيـن انقطاعك إليها. ثم في جينـيـن غـربي الضّفة الغربية، تصطادك أجـنـدة البقـاء الظالمة ، قبل أن يغتال صـوتك الجسور قـنّاصٌ لم يكُن مُنـدّسـاً، بل هو مفوّض كامل التفويض من أبالسـة إسرائيل الكبـار، ليُسـكت صـوتـك، صوت الحقـيـقـة. لا فرق بيـن هـيرتزوغ أو نفـتـالي أو نـتـنـياهـو. لا فرق بين الكنيسيت أو مجلس الوزراء الإسـرائيلي. هيَ غريزة البقـاء في أرضٍ تشـدّهم للتمسّك بهـا وقد أخـذوها قسراً بإسـنادٍ كولونياليٍّ تاريخيٍّ بغيض، ومُلّاكها حاضرون يحفظونها في الذّاكـرة. يظلمهم من يصـنّفهم لاجئـيـن، ولهم منازل مفاتيح أبوابها في جيـوبهم . .

أولئـك أهلـك، يا شـيـرين، وقد أحسنتِ الانتماءَ لآلـك وذويك، مثلما أحسنتِ الأداء بمهنيـتـك السّـامقة، فقـد تمخطرتِ بقدميـكِ وفـاءاً لأ رضٍ قُبـرَ في تُرابها أجـدادك ، هيَ فلسطين وإنْ زوّروا الخرائط وسـمّوها إسرائيل. أمّا لقـب عائلتـك أيّها الرّاحلة الغالية "أبوعاقلة" ، فقـد وقـفَ أهلي السودانيـون عنـده طويـلا ، ولكَـمْ سـألتُ نفسي، كيفَ جاءَ هذا الّلقب إلى أسـرتك المسيحية في الـشّـام؟ نحـنُ في السّودان نعلم أنّهُ لقـبٌ توارثه فـقـهـاء وعلماء وشيوخ مسلميـن في السّـودان، من نسلِ العالم الشيخ تاج الدين البهاري الذي أدخل طريقة الشيخ عبدالقادر الجيلاني من العراق، فـشـاعتْ في أواسـط السّـودان، قبل أكثر من خمسةِ قـرون. ظلّ إسـم "أبوعـاقـلة" إسـماً يتداوله نسـلُ أولـئـك الشّـيوْخ المتصوّفة منـذ مئـات السّـنين في السّودان، وقد لا تجده متـداولاً في أيّ بقعـة أخرى في العالم الإسلامي أو العربي، حسـبّما علمتُ من مصادر قريبة من تلـك الطريقة الصوفية الشهيرة.
أيّتها العـزيزة الرّاحلة ، والتي طالمـا كنـتِ بحضورك الإعلاميّ الأبرز، تلك الشّاهدة التي رأتْ كلَّ دوائر المظـلـوميّات في وطنـك المُحتل، لكنّـك هذه المرّة، وقـد روَّى دمّـك تراب ذلـك الوطـن، تصيرين حلقة تسـتعيد فيها فلسطين مكانها في ضمير كلِّ فلسطيني ، من "فـتح" أو من "حماس" ، مسلماً كان أم مسيحياً .
وأنتِ مُضرّجة بدمائـك ، قد دفعتنا للترفّـق باللّـغـةِ لنجعلِ من عـام النّكـبـة عاماً للعودة، ولاسـتعادة الحلم ليقترب من الواقع المتوقّـع. إثر رحيلـك ، اضطربتْ أحوال تل أبيب بأكثر ممّا فعلت الاحتجاجات والتظاهرات في فلسطين المحتـلة ، بل وبأكثر ممّا فعلت الطائرات المسيّرة فوق سـمائها. .
بعد مقتلك الفاجع، تنبّه المجتمع الدولي إلى أن الأوان قد حان لترسيخ حرية الإعلام وحماية الإعلاميين عبر ميثاق دولي ملزم ، يلحق بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ليت إعلامنا أن يحثّ الشعوب قبل حكومات العالم، لمساندة حقّ كلِّ إعلامي أن يُنجز رسالته الإعلامية دون أن يلاحقه عسس الطغاة أو يصطاده قنّاص مُحرّض. .

الخرطوم – 18/5/2022

 

آراء