تري كم تبقي من ( يا حليل)؟!

 


 

 

خاطرة

الدكتور الخضر هارون

يا حليل. هذه الجملة الناقصة والتي يكتنف نقصها أريحية تتيح للمستخدم دوما الاستخدام كيف شاء حزينا كان أم سعيدا أو مبتهجا بصنيع الخالق الأعظم من الجمال والإبداع في البشر والشجر والحجر أيضاً ابداعاً تنفرج له الأسارير وتطيب به النفس فيقول القائل ( الله!)
أحببتها فبحثت عن أصلها في المعاجم العربية فلم أجدها على ذلك التركيب والاستخدام والحيل موجود في المعاجم وحتي شدته (شد حيلك) تجدها هناك لدي عرب اليوم والأمس تجري علي كل لسان. لكنها (أي يا حليل هذه) لم تزل تنبض بالحياة في اللهجات العربية المعاصرة في نجد وفي الأردن وفي الجزائر والسودان. يتطابق استخدامها في السودان ونجد والأردن بمعني ظريف، طيب وخلوق أو عند الاعجاب بالخلق ( بفتح الخاء) الحسن لدي الأطفال يشع من عيونهم بريق البراءة وخلو أفئدتهم ونقاء سرائرهم كأنهم قد ولدوا لآدم قبل أن يطعم تلكم التفاحة اللعينة التي حملتنا علي ظهرها إلي هذا الدرك من الشقاء ! حيث تفيض على وجوههم الغضة نضارة وجمالاً ينتزع الاعجاب والغبطة لأن الطلاقة التي تشع على الوجوه مصدرها دواخل سليمة لم تزل علي فطرة الخيرية والجمال الإنساني لم تتلوث بعراك المعاش. وتلك صفات حميدة تندر في البالغين من الرجال والنساء في هذا الزمان البئيس الولع بالمنكر. ولنفاستها وندرتها نبحث عنها مشدودين في عيون الصغار ! ومرادف الكلمة في شأن عذوبة الأطفال عند الناطقين بالانقليزية كلمة ( كيوت)! وفي الجزائر تستخدم في سياق الترحم بمعني (مسكين) أو (غشيم) وقر يسهل غشه, تأكل الهرة عشاءه كما نقول ذلك في لسودان ,كالكلمة التي اشتقها شبابنا خلال العقود الثلاثة الفارطة من الطيبة وهي، ( طيبان) وليس بينها وبين الطيب من سبب سوي التركيب العجيب فهي من ضروب الهبل مثل (طيب ) لدي الأشقاء في المحروسة . أما العبارة (يا حليل) في السودان فهي تحمل تلكم المعاني جميعاً فتعبر عن الحزن من لوعة الفراق المؤقت والأبدي وعن الاعجاب والغبطة فهي بهذا غدت عبارة سودانية نمنحها الجنسية بلا تردد مثل كلمة طاري بمعني متذكر بشوق او لهفة أو بأسي فهي من فصيح الكلام فالطارئ هو الجديد ولكنها كثيرة الاستخدام في عامية السودان: والله طاريك يا ام درق وطاري العشيرة! وللكلمات في الجرس أو المعاني شؤون. روي عن الشاعر الجميل ابو آمنة حامد أنه قال يعبر عن جمال كلمة أسيرة لدي الشايقية هي ( نان)! قال أنها من الجمال بحيث تبذ الفرنسية ! طرية حنينة تنساب في يسر .والفرنسية عنده وعند من يحسنونها هي أحق اللغات بالتعبير عن الرومانسية والجمال!
أما طرفة بن العبد فقد استخدم شبيهها (يا حليل) في التفجع على مصير طائر الكروان المغني إذا صادف يوم بؤس النعمان وهو يوم نسب للنعمان بن المنذر أو لعمرو بن هند أو لشقيقه قابوس كان إذا خرج فيه فالويل لمن لقيه من البشر فذاك لقاء الموت أما الطيور المغنية فتكفيه جوارح نسوره أمرها فتصطادها عنه. قالها طرفة ( يا حليلا) بلغة أخري: في هجاء شقيق الملك عمرو بن هند واسمه قابوس:
لعمرك إن لقابوس بن هند في ملكه نوك كثير
لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات ولا نطير.
قالوا جاءت البائسات بالكسر برغم كونها فاعلا ثم قالوا بل هي منصوبة للترحم أي للحزن عليها فكأنه استخدم ( يا حليلا) استخدام الجزائريين اليوم!
وأكثر ما تستخدم لدينا في الحنين الممزوج برنة حزن علي الفراق المؤقت وربما الدائم:

يا حليل رمضان ونتبعه بأن يبلغنا القادم منه كقول الإخوة في الجزيرة والخليج (عساكم من عواده.)
و في أغنية سليمان عبد الجليل وحمد الريح الشجية حيث السواقي النايحة نص الليل حنين الدنيا مسكوب في بكاها :
يا حليل الراحو
وخلو الريح تنوح فوق النخل.
فرغم غرق القري والنخيل التقي ساكنوها في بقاع أخري!
ويا حليلن دوام بطراهم!
ويا حليل ناس آمنة عند ساعة التلاقي
ويا حليلك يا بلدنا
وفي الحزين حيث تسكب العبرات:
والله وحدوا بينا البارحونا وراحو
شالوا من وادينا بهجتو وافراحو
بالكتير يا حليلون يا حليل الراحو!
ومثل هذا كثير في الغناء السوداني لا يكاد يحصي.
وجل هذا لفراق مرجو بعده التلاقي تفيض به المشاعر في حينه وربما أعقبته العبرات. وهذا من جميل المشاعر الإنسانية تسمو فيه الروح فوق الماديات ولعاعات الدنيا.
وقد تجئ الكلمة لرغبة عارمة لا تخلو من الغرائز الدنيا :
حليلك يا ام ضمير يا بدر دورين صديرك عام تقول غرر الوزازين.
وهذا هياج مقدور عليه بالزواج الحلال إن تيسر!
وكانت احدي عماتي عليهن من الله الرحمات ببركة اوخر هذا الشهر الفضيل ،١٤٤٥هجري, تختم الدعاء أدبار صلواتها :
يا حليلنا من الموت!
حقاً يا حليلنا من الموت, اللهم لطفاً.
قال عبدالله الطيب لعل الكلمة من قولهم ما أحيلي! وبدا لي أن ما أحيلا بعيدة في المعني من يا حليل. وللعمانيين مدحة جميلة للنبي الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام تبدأ بما أحيلا ولعل معناه ما أحلي لولا أن تفندون .والحق أن في ترنيمة ما أحيلي شيء من يا حليل تحمل معان الاشتياق في ترنيمة لايهاب جنتلمان:
ما أحيلي ديار ربنا يا لشوقي أليها مسكناً
لي اشتياق يا ربي أن أراك!
استعنت بلسان اللسان وهو موجز من لسان العرب لابن منظور فلم أجد الكلمة لكني رأيت أنها ربما اشتقت من قولهم :
أحلت الناقة علي ولدها أي در لبنها له
وكما تري فكأنها حنت عليه فأرضعته. ووجدت كثيرا من مفردات عاميتنا وعرة خشنة مشتقة من صفات الابل كأنما نحتت من صخر يندر فيها ناعم القول وهذا مبحث جدير بالدراسة.
والذي جاء بهذه الخاطرة ما نحن فيه منذ بداية هذه الحرب اللعينة في منتصف أبريل ٢٠٢٣م مع تسائل مخيف يتأرجح بين الخوف والرجاء: هل بقي لنا من كل استخدامات ( يا حليل) السودانية سوي استخدامها الباكي الحزين المنقطع الرجاء في العودة إلي مرابعنا في السودان ؟ وهو سؤال مشوب بالأسي والتفجع والخوف أن يكون (حليلاً) بلا عودة إن استبدّ بنا القنوط ولازمتنا الغفلة وعدم التبصر ولم ينبلج الصبح عن غمة تسلطها علينا دولة تجمعنا بشعبها كل الروابط الملزمة للإحسان ومقابلة معروف قديم بمعروف وإحسان . سؤال حزين قرأته لأحدهم في هذه الوسائط لرجل من مواطني العاصمة الخرطوم عموم . تلكم المدينة التي تركها لنا المستعمر بهية ناضرة يقصدها رغم صغرها يومئذ الناس من وراء الحدود لأشهر العسل علي شيخ الأندية ، الفندق الكبير لا لأنها علي نهرين فجل العواصم علي ضفاف الأنهار ولكن لسحر فيها وهي تجاور الصحراء ونهرها يجري معاكساً جري الأنهارمن الجنوب إلي الشمال يتحدي قسوة الصحراء إزاء الماء النمير ويتخطي جلاميدها الصخرية في عمقه بجسارة واقتدار حتي يلامس صفحة بحر الروم عند رشيد ودمياط ويذيق حيتانه من نواله . وإذا تهاطل المطر وهو في مسيره المقدس, هي تجاور الصحاري والقفار,جلب ( الدعاش) ونحن من فرطنا لحبه ننسبه إليه وما هو كذلك. و الدعاش , تلك كلمة حبيبة أخري إلي نفوس السودانيين جديرة هي الأخرى بحق المواطنة! هل نحن نهذي و (نطربق) أم تلك لغة المشاعر تفرضها الأحاسيس المشوبة بالأحزان؟ ألا يصاحب الحمي الهذيان؟ أرجو ألا نكون!
يقول ذلك الكاتب المحزون: ما للحشود والوعود لا تشملها (أي الخرطوم) بالتحرير وترمي بعيداً عنها كأنما طواها النسيان! أما أقسي وخذ الحسرات والندم علي ما فات!
تري هل تنقطع استخداماتنا العديدة للعبارة الناقصة ( يا حليل) علي الأسي وعلي الضياع الأبدي وتسكاب الدموع الحري وتصبح العبارة الحبيبة مثل شجرة عارية في فلاة عافتها الحياة وهجر جوارها الأحياء وقد كانت بالأمس القريب مورقة يغشاها الناس من كل مكان فغدت ساقا جافة في قلب صحراء تسمع لرياح السموم فيها صر حزين يعاف الحياة وتعافه ينتظر الفأس؟!
لا بأس بالتشبث بحبال الأمل والفأل الحسن والعزم الأكيد ببذل كل غال ونفيس لحشد العزائم للعودة إلي الخرطوم التي اتسعت تحت عيوننا وتمددت من جراء الحروب المستمرة في أطراف البلاد فحنت كما ينبغي للأم أن تحن علي كل من قصدها حنو المرضعات علي الفطيم ونقول ( يا حليلا) في بعدها المتفائل بالعودة واستئناف العطاء.

abuasim.khidir@gmail.com

 

آراء