ذكريات المرافق الشخصي للإمام محمد احمد المهدي؛ محمد المكي غليب

 


 

 

مقدمة المترجم:
هذه ترجمة للمقال الصادر بدورية الجمعية الملكية الافريقية، المجلد 35، رقم 138، يناير 1936، الصفحات 71-75. والعنوان الاصلي للمقال هو:
"ذكريات عن مهدي السودان، الشيخ محمد احمد، يسردها مرافقه الشخصي محمد المكي غليب، والذي لا يزال يعيش في السودان".
وكاتب المقال هو جيه ريد، إداري بريطاني؛ عمل موظفاً في الادارة السياسية للسودان – الاسم الرسمي للحكم الانجليزي المصري- وفي عام 1930م عمل في منصب المدير المكلف لمديرية النيل الازرق، وقد نشر العديد من المقالات عن السودان في مجلة السودان في رسائل ومدونات.

مقدمة المؤلف:
المكي غُلًيب، من الجعليين، كان على قيد الحياة عندما التقيته في عام 1930م في ود مدني مديرية النيل الازرق، ويومها كان متقدماً في العمر؛ حوالي 65 عاماً ويبدو منهكاً للغاية، ولكن رغم ذلك كان مرحاً جداً،.
بعد وفاة المهدي عام 1885م عاش المكي مع الخليفة محمد شريف، وبقي معه حتى معركة كرري؛ ثم غادر ام درمان وذهب لأهله في شندي بمديرية بربر، وبعدها ذهب لجزيرة الفيل بالقرب من مدني، ذلك المكان الذي قضي فيها السير السيد عبد الرحمن المهدي اكبر البناء المهدي الباقين على قيد الحياة فترة صباه، وبقي في خدمة السيد عبد الرحمن الى ان تقدم به العمر واصبح غير قادر على العمل، فعاد متقاعداً الى ود مدني، وكان مالكاً لقدراته الذهنية بشكل كامل، وله ولاء لذكرى سيده المهدي.

قصة ود غليب.
يقول:
اول مرة رأيت فيها المهدي كانت في جبل قدير من جبال النوبة، وقد دعاني للالتحاق به صديقي عبد الله التيجاني، والذي اصبح فيما بعد حامل اختام المهدي، وكان المهدي في ذلك الوقت شاباً في عنفوان شبابه، مربوع القامة، ولونه اسمر فاتح، وعيناه لامعتان مع ابتسامة ودودة، وكان يرتدي ملابس بسيطة عبارة عن جبة مرقعة، وسروال من القطن، وطاقية من السعف يلف عليها عمامة قطنية مصنوعة محلياً، وقد طلب مني المهدي ان اكون مرافقه الشخصي، وكان احساسي بان هذا تشريف لي، وبقيت في خدمته حتى وفاته.
كنت احمل ابريق وضوئه، واصب الماء على يديه بعد تناول الوجبة، وعندما يركب على بعيره كنت اركب خلفه، كان المهدي قليل الكلام، ولكنه كان يقرأ القرآن باستمرار، ويذرف الدموع اثناء القراءة. اما مأكله فقد كان بسيطاً جداً؛ قليل من الذرة المسلوقة أو الدخن المقلي وهي وجبة يتشاركها مع أي شخص قد يكون حاضراً معه.
كان المهدي زاهداً بكل معاني الكلمة وليس لديه أي مطامع دنيوية، وكان صورة للتواضع ويخدم الضعفاء من الرجال والنساء. جاء المهدي لينقي الدين، وكانت مواعظه تنادي بالعودة لله وكتابه ونهج نبيه، وحتى اعداؤه اعترفوا بانه كان رجلاً خيراً. ولا رغبة لديه في شن الحروب، ولو تمكن من السيطرة على (اعرابه) لسلمت حياة غردون باشا.
تزايد عدد اتباع المهدي عندما كنا في قدير، وكان النوبة يقدمون الطعام لنا والخليفة عبد الله معه، لكن الخليفة لم يكن بارزاً في ذلك الوقت، وكان معنا على ود حلو وهو اصلاً كان من تلاميذ المهدي، ومعنا ايضاً الخليفة محمد شريف وكان وقتها صبياً.
بعد شهرين من الاقامة هناك؛ هرعت الى المعسكر امرأة عربية (رابحة الكنانية) واعلمتنا ان حملة تركية تعسكر في قرية قريبة منا وانهم يتخذون من الاشجار ساتراً، وفي الليل اعطى المهدي اشارة الهجوم على راشد بيه وعساكره القادمين من فشودة، ولم ينج من حملة راشد بعد الهجوم سوى رجل واحد، وغنمنا الكثير من الغنائم.
لم يمض وقت طويل على حملة راشد بيه حتى جاءت في اعقابها حملة يوسف باشا الشلالي والذي زحف من الخرطوم، وكانت نية يوسف الهجوم على المهدي ليلاً ولكنه ضل الطريق، وظل كشافتنا يراقبونه طوال الوقت وهو يقوم ببناء زريبة حول معسكره، وعند شروق الشمس قادنا المهدي الى المعركة وهو على ظهر حصانه، قائلاً الله اكبر، ثم نزل وصلى، وقمنا بالهجوم واكتسحنا الزريبة، وابيدت الحملة عن آخرها تقريباً، واخذنا من نجى اسيراً.
زحف المهدي للأبيض وعسكرنا في كابا جنوب المدينة، وارسل المهدي رسائله للأهالي يطلب منهم الاستسلام، فاستجاب بعض التجار وآخرين وانضموا للمهدي، وفي يوم الجمعة هاجم المهدي المدينة، ورغم الخسائر الفادحة إلا أننا اخترقنا التحصينات، ودخل المهدي المدينة على ظهر حصانه، واحتمى المدافعون بأسطح المنازل واخذوا يطلقون النار على المهاجمين، وانسحب المهدي الى خارجها وهكذا جرى صد الهجوم، عندها قرر فرض حصار عليها؛ والنتيجة ان المدينة استسلمت بفعل المجاعة.
تواترت الاخبار بان هكس بشا وصل الدويم، فقام المهدي بتعيين الامراء عبد الرحيم ابو دقل، من قبيلة الحمر، واحمد الصوفي من الرباطاب، ورحمة موسى من الجوامعة، وأوكل لهم مهمة مضايقة هكس في زحفه جنوباً.
كانت الاخبار التي ابلغوها للمهدي تفيد ان جيش هكس متجه نحو منهل بركة، فغادر المهدي الابيض ليكون في مواجهته، وقمنا باحتلال مورد المياه في بركة قبل وصول هكس، وعندما اقتربت حملة هكس من المكان، اعطى الخليفة عبد الله الاوامر بضرب النحاس بهدف بث الرعب في جيش هكس، وعندما سمع الاخير صوت ضرب النحاس قرر التوجه لشيكان في طريقه للأبيضِ، فزحف المهدي مطارداً الحملة وأوقع بها. كان جيش هكس قد اصابه الانهاك والعطش وغدا ضحية سهلة لهجومنا، ويومها كنت ممسكاً بلجام حصان المهدي عند حدوث الاشتباك، ولم تكن هناك الا مقاومة ضعيفة للغاية، وبعد المعركة عاد المهدي للأبيض.
زحف المهدي الى الرهد وحدثت مناوشات بيننا وبين نوبة جبل الداير ولم نتمكن من اخضاعهم، ومن هناك بدأ الجيش يعد العدة للزحف الى الخرطوم، كنا في موسم الامطار والماء متوفر بكثرة، وزحفنا بطريق بساطي وعسكرنا في شات لمدة شهر، ومن شات مررنا بالدويم على النيل الابيض وعسكرنا في الترعة الخضراء، ثم كان معسكرنا التالي بعد ذلك في الشيخ الصديق المواجهة للقطينة، والمحطة الاخيرة كانت ابو سعد جنوب ام درمان.
اصبحت الخرطوم في حكم المحاصرة،ً وللدراويش جيش عرمرم، وتواصلت عمليات الحصار بشكل متقطع لمدة طويلة، واخيراً قرر المهدي مهاجمة المدينة، فخرج الى شجرة ماحو بيه "شجرة غردون" على الضفة الشرقية للنهر واخذ القَسَم من جميع القوات، ثم عبر النهر مرة اخرى لمعسكره في ام درمان.
سمع المهدي بان الجيش البريطاني وصل الى ابو طليح؛ وانزعج من احتمال ان الخرطوم ربما سيفك عنها الحصار. وكنت مع المهدي ولم اشارك في الهجوم.
هوجمت الخرطوم في ساعات الفجر الاولى وانتهى كل شيء عند منتصف النهار، وعبر المهدي النهر من ام درمان وصلى صلاة الظهر في مسجد المدينة، ثم عدنا لام درمان مرة أخرى؛ بينما بقي الجيش في الخرطوم.
بعد يوم او يومين وصلت باخرتان من بواخر الجيش الانجليزي وعندما وجدوا ان المدينة قد سقطت عادوا ادراجهم باتجاه مجرى النهر، ارسل المهدي جيشا كبيراً تحت قيادة موسى ود حلو "اخ الخليفة على ود حلو" لمحاربة الجيش الانجليزي في الشمال ولكنه انهزم، ونجت قلة منه عادت تحكي عن الهزيمة، فارسل المهدي تعزيزات بقيادة الامير عبد الرحمن النجومي ولكن الجيش الانجليزي كان منسحباً قبل وصوله.
منذ لحظة التحاقي بخدمة المهدي لم افارقه ابدا، وكنت مرافقه الشخصي، وكان نادراً ما يتحدث الى بصفة خاصة، ولكنه كان يتلو القرآن، وكان يقول ان الدنيا ما هي الا جيفة، وان من يحبون الحياة الدنيوية هم مثل الكلاب، وكان دائما مشغولاً بكتابة المنشورات والدعوات، ولديه كاتب من الجعليين اسمه احمد النور مهمته اعداد نسخ من خطابات المهدي. وكان من النادر ان يستشير المهدي خلفاءه ولكن كان يجمعهم قبل أي معركة ويعطيهم تعليماته.
بعد سقوط الخرطوم عاش المهدي في منزله الذي فيه ضريحه الآن، وكان به ثمانية اقسام تعيش فيها زوجاته، وغير مسموح لأى رجل بالدخول ما عدا عشرة خصيان او اثنا عشر، وقد جيء بهم من مناطق مختلفة من البلاد، ولكل زوجة من زوجات المهدي خادمة تقوم بمهام الطبخ والتنظيف.
كان مجلس المهدي ينعقد في باحة المسجد، ولا يلتقي أبداً بالرجال داخل مكان اقامته الخاصة، ومن الشخصيات المفضلة للمهدي شخصيتان هما احمد سليمان من المحس؛ وهو المسؤول عن بيت المال، وسليمان عبد الله وهو رقيق كان تابعاً لحليم افندي من بربر، وكان يساعد المهدي في ركوب حصانه ويعمل رئيساً للبوابين.
لا اعتقد ان المهدي مات مسموماً، وكنت معه عندما مرض ومات، واستمر مرضه لمدة خمسة ايام فقط، ولم نكن نعتقد ان مرضه خطير للغاية، وفي اليوم الذي مات فيه جمع خلفاءه الثلاثة واخذ منهم قسم الولاء والاخلاص للخليفة عبد الله، وبعد لقائه مع الخلفاء اجتمع مع القاضيين الكبيرين، احمد ود على، وسليمان الحجاز، وطلب منهم اداء القسم على ان يحكموا بالعدل، واخيرا طلب جميع نساءه وقال لهن: انا احتضر، وعليكن بالاستعداد للآخرة، ثم سجد مرتين وجلس على عنقريب ومات، وكان هذا ظهراً، وما أن اعلن موته حتى امتلأ المسجد بالنائحين، فتصدى لهم احمد ود سليمان ومنعهم النواح وقام بتفريقهم.
حضر الخلفاء الثلاثة وقاموا بحفر القبر بمساعدة عدد من الاتباع في غرفته الخاصة، وقد دفن في هذا المكان بناء على رغبته الشخصية، وقبل الدفن اخذ الجثمان الى باحة المسجد حيث صلى عليه الناس، وبعد الدفن ارتقى الخليفة المنبر واخذ قسم الولاء من الجمهور المحتشد.

nakhla@hotmail.com

 

آراء