ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة

 


 

 

(الحلقة 10)


gibriel47@hotmail.com


توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

 ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

 لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.


المؤلف

العودة إلى الرياض (2)

ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد          لقد زادني مسراك وجدا على وجد

ومع بداية الألفية الثانية احتفلت مدينة الرياض بمرور مائة عام  على إنشائها. تلك المدينة التي أنطلق منها الملك عبد العزيز، رحمه الله، موحدا البلاد في دولة واحدة عرفت باسم المملكة العربية السعودية وأصبحت الرياض عاصمة لها.

لا زالت الرياض تضم حي (مقرن) وحي (بكار) جوار عمارة الملك خالد وعمارة الملكة في وسط الرياض، الذين كانا معروفين في العصر الجاهلي، وكذلك حي (منفوحة) الذي كان يسكنه الشاعر الجاهلي الأعشى بن قيس، صاحب هريرة:

ودع هريرة فإن الركب مرتحــــل                  وهل تطيق وداعا أيها الرجــــــــــــــــــــــــــــــل
غراء فرعاء مصقول عوارضـــــها                  تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت  جارتـــــها                  مر السحابة لا ريث ولا عـــــــــــــــــــــــــــــــجل

 ونجد هي أيضا موطن الشاعر والملك الضِلَيل أمريء القيس صاحب المعلقة المشهورة التي استهلها بقولة:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل         بسقط اللوى بين الدخول فحومل
.............        ..............            ...............    ....................
خرجت بها نجر على أثريــــــــــــــــــــــنا        ذيل مرط مرحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحــــــــــى        بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت علي        هضيم الكشــــــــــح ريا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة  ترائبها        مصقولة كالســـــــــــــــــــــــــجنجل

ونجد هي موطن قبيلتي (طسم) و(جديس) البائدتين حيث كانت تسمى الرياض (حِجر)، وعليها ضرب المثل القائل: (يا بائع التمر في حجر) وهو  شبيه بالمثل الدارجي القائل: (تبيع الموية" الماء" في حارة السقايين)، حيث لا تزال تمور الإحساء ومنطقة القصيم من أفضل أنواع التمور في العالم.

ونجد هي أيضا موطن الحمار الحساوي، وهو من أجود الفصائل في  العالم،ويسمى في مصر (الحصاوي) ثم دخل السودان من ريف مصر فسمي بالحمار الريفاوي(أي ريف مصر). ونجد هي أيضا موطن بني حنيفة وزرقاء اليمامة.

بعد أشهر في الدوام الحكومي كنت ألاحظ العديد من السودانيين يصلون معنا في مسجد الوزارة القديمة، التي كانت في محل الوزارة الحالية، والتي بنيت على النمط المصري ذي السلالم الدائرية. فقررت التشاور معهم على إنشاء جمعية خيرية للسودانيين العاملين بوزارة الدفاع.

وكالعادة كان السودانيون سباقين لعمل الخير، فوجدت الفكرة منهم قبولا عظيما. جمعت منهم الاشتراكات النقدية (القَطة، كما يسميها السعوديون، والمفردة بفتح القاف وهي كلمة قرآنية كما وردت في سورة (ص) الآية (16) " وقالوا ربنا عجل لنا قِطًنا قبل يوم الحساب"  وتعني نصيب، وليست القِطة "الهرة" )  وذهبنا في رحلة آخر الأسبوع إلى بستان من بساتين النخيل في ناحية الحائر (حيث لم تكن الاستراحات موجودة آنذاك). تم التعارف بيننا، وبين الأهل والأطفال.

الجدير بالذكر أن هذه الجمعية الخيرية استمرت عشرين عاما قدمت خلالها أعمالا جليلة لأعضائها في السراء والضراء (وكمثال فقد كانت تمنح العضو مجانا قيمة تذكرة الطائرة ذهابا وإيابا أي حوالي 1.500 ريال سعودي زائدا 1.000 ريال سعودي أخرى كمصاريف في حالة وفاة أحد الأقارب من الدرجة الأولى والسفر الاضطراري إلى السودان). ولم تحل الجمعية الخيرية إلا بعد قرار سعودة الوظائف الحكومية وإنهاء خدمات معظم أعضائها.

وكوزارة سيادية مهمة كانت وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة من أوائل الوزارات التي شملتها السعودة في أواخر التسعينيات من القرن العشرين. فرجع بعض الزملاء  إلى السودان.  وعمق آخرون الغربة بغربة أخرى إلى أمريكا وغيرها. وبحث آخرون عن عمل في مواقع أخرى، وانفض سامرنا.

الجدير بالذكر أننا  وأسرنا كنا نتلقى العلاج في مستشفى القوات المسلحة السعودية (المستشفى العسكري) في الرياض عند قدومنا أول مرة إلى الرياض. وقد حظيت بوضع طفلين من أطفالي (هما وضاح وعمرو) في المستشفى العسكري، ووضع ابنتي (الرميساء) في مستشفى اليمامة.

كما كانت شهادة ميلاد أطفالنا التي تقدمها لنا الجهات الصحية محترمة شكلا وموضوعا. ولكن عندما تقدمت الأيام منعنا العلاج في المستشفى العسكري وحتى شهادات الميلاد كانت عبارة عن وريقة فقط وفقدنا كثيرا من الاحترام الذي وجدناه عند قدومنا أول مرة.

والجدير بالذكر أنه عندما قررت وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة السعودية منح بعض الزملاء من المترجمين الذين كانوا يعملون في إدارات مثل إدارة القوات البرية شهادات نهاية خدمة كانت الشهادة أشبه بصكوك إبراء الذمة ليس بها أي تنويه وإشادة بعملهم خلال الفترة التي قضوها في الإدارات المعنية ما أغضب كثيرا منهم ورفض بعضهم أخذها.

هذا في الوقت الذي كرمت فيه إدارات أخرى في وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة مثل إدارة التعاون والمساعدات العسكرية الخارجية، وإدارة الاستخبارات، وإدارة البحوث والتطوير من عمل فيها إكراما جميلا وشكرتهم على أدائهم الرائع خلال عملهم فيها.

وفيما بعد وجدنا الجحود ونكران الجميل في الشركات عندما تحولنا للعمل فيها. فقد كانت معظم الشركات تمنحك عند نهاية الخدمة معها شهادة لا لون لها ولا رائحة ولا طعم ؛ تشعرك بأنك كنت عبئا ثقيلا عليها طوال وجودك فيها وتكتب عبارات أقل ما يقال عنها أنها تفتقر إلى الذوق.

ولا زلت حتى الآن لا أدري ما علاقة الثراء بسوء الأخلاق رغم أن الله سبحانه وتعالي قد قال في محكم التنزيل في سورة الإسراء الآية " 16 "  (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا). فالاحترام الذي وجدناه عند وصولنا أول مرة إلى المملكة تناقص تدريجيا مع زيادة ثراء المملكة العربية السعودية!!!!

وظل هذا السلوك العدائي تجاهنا ملازما لنا في حياتنا العملية من كل الجهات التي عملنا فيها في نجد، إلا من رحم الله، حتى في تفاعلنا مع المجتمع السعودي في مدن مثل  الرياض وغيرها.  وظل السعوديون يشعروننا بالازدراء والاستعلاء حتى لتظن أنك أتيت منكرا بقدومك للعمل في هذه الديار المقدسة.

كان بعض المترجمين يقولون: (يبدو أننا ركبنا الطائرة الخطأ من مطار الخرطوم. كان يجب أن نغترب في بلاد الكفر. فلو كنا كل تلك المدة، أكثر من ثلاثين عاما، مع اليهود والنصارى لإنصلح حالنا ولحفظت كرامتنا ولحظينا بأكثر مما وجدنا هنا عند جرد حساباتنا في نهاية المطاف).

يقال بأن أحد المترجمين عمل عشرين عاما في المملكة العربية السعودية وفي نهاية الخدمة طلب من مدير الشركة الإذن بنقل الكفالة إلى جهة أخرى ليعمل بها. وهنا بدأ التسويف والمماطلة المقصودة حتى قرر يوما أن يدخل على المدير.

دخل على المدير وابتدره قائلا: (أنت عارف شوازنجر " بطل أفلام تيرمنيتر الأمريكي" وأنا اغتربنا في يوم واحد. ذهب هو من بولندا إلى أمريكا وأتيت أنا من السودان إلى هنا. الآن شوازنجر حاكم ولاية  كاليفورنيا وقريبا سيكون مرشحا للرئاسة الأمريكية. وأنا لا زلت أطلب الإذن بنقل الكفالة!!!) ضحك المدير لغرابة التشبيه وأذن له بنقل الكفالة بعد معاناة لا معنى لها.

ويقل هذا الاستعلاء والازدراء نسبيا في المناطق الأخرى من المملكة. لذا يهرع معظم المغتربين في العطلات والإجازات إلى الحجاز والمدنية المنورة والمنطقة الشرقية، والجنوبية، والشمالية.

وفي نهاية الثمانينات من القرن العشرين بدأت المستشفيات الحكومية في الرياض ترفض استقبال حالات وضع النساء الحوامل – من الجاليات الأجنبية - إلا في الحالات الطارئة للغاية. فعانت النساء معاناة شديدة نتيجة ذلك القرار حيث كان (إنتاج) الأجانب والسعوديين على (ودنه) أشده، و(سمحة العافية).

عانت السودانيات كثيرا بسبب الطهارة (الختان/الخفاض) الفرعونية، فأصبح الأطباء في كل المستشفيات والمستشفيات الأهلية خاصة يعمدون فورا إلى إجراء العمليات القيصرية للسودانيات.  أولا تفاديا للدخول في تعقيدات الختان الفرعوني، وثانيا لأن فاتورة الوضع بالعملية القيصرية أغلى ثمنا من فاتورة الوضع العادي!!!

وفي أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أصبح وضع النساء والعلاج للأجانب عموما بثمن في المستشفيات الحكومية في المملكة. ومن ثم ظهرت شركات التأمين وبطاقات التأمين الصحي.

وحتى مع ظهور بطاقات التأمين الصحي كانت أغلب الشركات لا تؤمن إلا على رب العائلة فقط. أما التأمين على الزوجة والأبناء وحالات الوضع فذلك برنامج آخر عليك أن تسلكه بنفسك. وأحيانا تصلح أم العيال ما أفسده الدهر، وسد الجقم (الفلج نتيجة سقوط بعض الأسنان) ومعالجة الأسنان، عندما تكون في زيارة لابنتها  أو ابنها في بلد آخر!!!

لذلك ظلت، وإلى الآن، فئة معتبرة غير مقتدرة من الأجانب المقيمين في المملكة العربية السعودية تبعث بالبرقيات والعرائض للمقامات السامية من أجل العلاج المجاني في المستشفيات الحكومية الكثيرة المنتشرة في الرياض.

ومما يجدر ذكره أن الدكتور الشاعر غازي القصيبي، رحمه الله، تولى وزارة الصحة في الثمانينيات من القرن العشرين، فكان نعم الوزير ونعم الرجل المثقف العالم بمشاكل ديرته (دياره / وطنه) وكان بحق الرائد الذي لا يكذب أهله.

أصدر الراحل القصيبي العديد من التعليمات للصيادلة بعدم صرف أدوية بعينها، تسيء استخدامها بعض الفئات الضالة كمسكر، من دون وصفة طبية من طبيب. وكذلك الحال بالنسبة لعقاقير  نسائية أخرى. وتصدى لكثير من المخالفات الدوائية ودقق في شهادات الأطباء الوافدين للعمل في الحقل الطبي في المملكة العربية السعودية، وقيد إصدار تراخيص إنشاء المستشفيات والصيدليات إلا لمن له صلة بالمجال الطبي.

لسوء الحظ اصطدمت جهوده الوطنية الواعية والخيرة والصادقة بمصالح مجموعات (لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب) توجد في كل زمان ومكان، فكادت له، فأعفي عن الوزارة وأرسل سفيرا إلى دولة البحرين آنذاك (قبل أن تصبح مملكة).

كان خروج الدكتور القصيبي من الوزارة خروجا مأسويا كتب على إثره قصيدته العتابية المشهورة آنذاك والتي راجت بين المثقفين. وأشبه كثير من المثقفين  عدم رضا  السلطة السعودية عليه بمثل عدم رضا سيف الدولة الحمداني على أبى الطيب المتنبئ.

كان المرحوم غازي القصيبي من الرواد والنخب الأوائل المتعلمين وأساتذة الجامعات الذين استعانت بهم السلطات السعودية في إدارة دفة الحكم في المملكة العربية السعودية في أوائل الثمانينات من القرن العشرين.

وفي حج عام 1981 شاهدت المرحوم الدكتور غازي القصيبي يقف داخل مستشفى منى يراقب باهتمام بالغ  سير العمل في المستشفى. فلو كان المتعلمون والمثقفون بهذه الكفاءة والوطنية العالية لانصلح حال الدول العربية قاطبة.

ودون ما أدري وجدت نفسي أقارن الآن بين المرحوم الدكتور غازي القصيبي والدكتورة تابيتا بطرس، وزيرة الصحة في حكومة الوحدة الوطنية الأخيرة لحكومة الإنقاذ. فقد كانت نعم الوزيرة العالمة والمتفانية في خدمة الناس.

كان الحج آنذاك مشقة ما بعدها مشقة وينطوي على مخاطر كبيرة. فرمي الجمرات كان من الأماكن التي فيها الهلاك. وقد رأينا العشرات من الحجاج الذين قضوا نحبهم سحقا تحت أقدام الحجاج المتدافعين، وكذلك كان الحال في الطواف.

وإذا خرجت سالما من تدافع الجمار والطواف حول البيت العتيق فقد تهلك من جراء الأمراض والأوبئة في منى. لقد كانت صحة البيئة في منى صفرا؛ حيث كان معظم الحجاج يذبحون الذبائح في العراء يأخذون جزءا منها ويتركون الباقي ما ساعد على فساد البيئة وكثرة الذباب والهوام. هذا بالإضافة إلى قضاء الحجاج حاجاتهم في العراء.

 وقد ظل الحال كذلك إلى أن من الله على المسلمين بفتوى جواز رمي الجمار في المساء وعدم التقيد بالرمي بعد وقت الزوال فقط والتوقف عن الرمي في المساء.

 قام الملك فهد، رحمه الله، بتوسعة الحرمين توسعة كبيرة ولكن برغم ذلك ظلت الجمرات من الأماكن المهلكة في الحج.  وكانت الفرحة أكبر عندما فرج الملك عبد الله، حفظه الله، على المسلمين بالتوسعة الأخيرة للحرم المكي التي ركزت على الجمرات والمسعى خاصة وغيرها من المشاعر المقدسة. فلم نسمع بعدئذ بأي مآس كالتي  شهدناها في بداية ثمانينيات القرن العشرين إلى أوائل القرن الحادي والعشرين.

وفي موسم حج عام 1431 هـ (2010) شهدنا لأول مرة القطار ينقل الحجاج إلى الجمرات وبعض المشاعر المقدسة. عمت المسلمين فرحة غامرة وهم يشاهدون هذا الفتح العظيم. ويبدو أنه أول القطر وستنهمر بعده الخيرات على المشاعر المقدسة، جزا الله حكام المملكة العربية السعودية على جهودهم الخيرة.

الجدير بالذكر أن بعض العائلات السعودية سكنت السودان منذ وقت طويل عندما كان السودان ينعم بالثراء. وعلى سبيل المثال لا الحصر عائلة البابطين صاحب المعجم الأدبي المشهور في مدينة النهود، وعائلة الشيخ الحجيلان في مدينة النهود كذلك (ومنها الشيخ الحجيلان رئيس مجلس التعاون الخليحي)، وعائلة العتيبي في مدينة الأبيض.  ويقال بأن الملك فهد، رحمه الله، وبعض أخوته التحقوا بمعهد بخت الرضا للدراسة في القرن الماضي.

وعندما اغتربنا كان بعض أفراد عائلة البابطين معنا في الغربة وقد درسوا بجامعة الخرطوم،ولكن سرعان ما نالوا التابعية (الجنسية) وأصبحوا سعوديين. أما عائلة العتيبي فقد اغترب ابنها الدكتور عبد الروؤف عبد الله العتيبي وعمل في مستشفى الرياض المركزي (الشميسي) ثم عاد إلى السودان عميدا لكلية طب الأسنان  في جامعة التقانة. كما زاملني في فترة الدراسة الثانوية ابنها الفنان التشكيلي المبدع محمد عبد الله العتيبي.

هذا بالإضافة إلى مجموعات كبيرة من المصريين واليمنيين والحضارم مثل باعبود (صاحب إمبراطورية السفن بين جدة وسواكن)، وباوارث، وباخريبة، وبا زرعة التي يكفيها فخرا في التاريخ الجمالي بالسودان إسهامات ابنها الشاعر  الرقيق حسين بازرعة الذي شكل ثنائية قلما يجود الزمان بمثلها  مع المغني السوداني العملاق عثمان حسين وتغنى له كذلك التاج مصطفى، وعبد العزيز داؤد الخ. والمجموعات الشامية اللبنانية والسورية والدرزية وغيرها من الجاليات الهندية واليونانية واليهودية والأرمنية والشركسية. ولا تزال الجالية الهندية في السودان بأعداد كبيرة خصوصا في أم درمان، والأبيض، و ود مدني، وكسلا، و بورتسودان.

كانت مدينة الأبيض ومدينة بورتسودان هما المدينتان اللتان في كل منهما قنصلية مصرية بالإضافة إلى السفارة المصرية في الخرطوم، وهو مؤشر على العدد الكبير للجالية المصرية في هاتين المدينتين. وكان بالأبيض، في أوائل الستينيات من القرن الماضي، أربع كنائس (إحداها من أكبر كنائس أفريقيا وهي الكنيسة التي أنشأها الأب دانيال كمبوني الذي سميت عليه مدارس الكمبوني في الأبيض والتي انتقلت لاحقا إلى الخرطوم) في وقت لم يكن بالخرطوم أربع كنائس، بالإضافة لكنيس اليهود الذي أندثر والذي يقع خلف مدارس الكمبوني في الأبيض.

كانت أولوياتي المتواضعة، وأنا في أوائل الثلاثينيات من العمر، تتركز أول الأمر في بناء منزل واقتناء سيارة والعودة سريعا إلى السودان (المتعوس) والذي يجري حبه في دمائنا، و(أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا).

كانت معظم أولويات المغتربين السودانيين بسيطة ومتشابهة ولكنا لم نكن ندري آنذاك أن تلك الأولويات البسيطة هي فخ كبير أو قل ثقب أسود كبير  ابتلع معظم المغتربين لاحقا.

في أثناء وجودنا في صنعاء رفدتنا وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة براتب ثلاثة أشهر كتجهيز لأحوالنا أيام العاهل السعودي الخير الملك خالد،عليه رحمة الله. وفجأة توفر لدي مبلغ عشرة (10.000) آلاف دولار. وضعتها في حقيبة يد (سامسونايت)  اشتريتها هدية لأخي وصديقي العزيز المرحوم  إبراهيم هارون  الأستاذ بجامعة الخرطوم وبعثت بها مع أحد الأساتذة العاملين في جامعة صنعاء إلى السودان. وقد لحق بي فيما بعد صديقي إبراهيم " الرقيق" مفارقا جامعة الخرطوم وملتحقا بجامعة الملك سعود في الرياض.

ومن شدة فرحتي وكثرة المودعين للأستاذ لم أتمكن من إبلاغه بتفاصيل المبلغ  الموجود داخل الحقيبة. ولكني ألمحت له بأن بها مبلغا من المال. ويبدو أن الأستاذ لم ينتبه أيضا لما قلته، وفوجئ بالمبلغ داخل الحقيبة فغضب.

لاحقا وبعد وصولي إلى الرياض، اعتذرت له في رسالة مطولة عن سوء الفهم ولكنه ظل حانقا لفترة من الزمن. وكان سبب غضبه أن حكومة مايو كانت قلقة بشأن التحويلات المالية وتهريب العملة الصعبة من وإلى السودان عقب خطوتها غير الموفقة في تطبيق بعض الأجندة الشيوعية مثل تأميم الشركات والمصادرة بلا تخطيط ما أثار الذعر في رأس المال.

وكما يقال رأس المال جبان، فهاجرت مجموعات كبيرة من الرأسماليين، من بينهم يهود مثل بنجامين الذي كان يملك محلا ضخما  في شارع الجمهورية مواجها لمقهى المحطة الوسطى في الخرطوم (تحول لاحقا مقرا للخطوط الجوية السودانية ثم بنك فيصل الإسلامي) ومجموعات سودانية وقبطية وخلافها، إلى بلاد الله الواسعة.

فقد كانت حكومة مايو تحاكم من تجد معه عملة صعبة، كحال العسكر دائما، كما فعلت حكومة الإنقاذ في بداية عهدها وحكمت بإعدام نفر من السودانيين كالمرحوم مجدي محجوب والطيار جرجس، ولكنها أصبحت سيدة المتاجرة بالعملة الصعبة لاحقا!!!

كان المغتربون وغيرهم من السودانيين يرددون مقولة مفادها أن الغربة الطيبة في بلد النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. وحسب قولهم: (الاغتراب يا أبو ظبي ولا بلد النبي، أما اغتراب ليبيا واليمن ضياع زمن).

وقد شهد السودان في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي وفاة العديد من السودانيين المغتربين والمبتعثين إلى اليمن السعيد في مهن كالتدريس وخلافها. يقال بأن ارتفاع المدن اليمنية عن مستوى سطح البحر هو السبب في وفيات بعض أولئك المغتربين والمبتعثين الذين كانوا يعانون من أمراض قلبية.

أما اغتراب ليبيا فكان إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عبارة عن دخول في مغارة مجهولة القرار، فالداخل فيها مفقود والخارج منها مولود حتى أتت الطامة الكبرى بثورة شباب ليبيا والتي اضطرت أعدادا كبيرة من السودانيين للخروج من ليبيا هربا إلى وطنهم السودان.

سبب استعجالي لإرسال الدولارات إلى السودان هو رغبتي الملحة في الحصول سريعا على قطعة أرض لمشروع بيت يضمني وعائلتي الصغيرة، وهي بلا شك أولوية أولى في أجندة الغربة الجديدة لمعظم السودانيين الذين غادروا السودان هربا إلى بلاد الله الواسعة، باستثناء مجموعات النوبة الرائعة في شمال السودان التي تمرست على الغربة منذ وقت بعيد.

والسبب الآخر هو الإسراع بإنهاء الغربة غير المعلومة الجوانب. وثالثا يظل سوداننا رغم  الكتاحات (عواصف الغبار) والمنغصات الكثيرة هو البلد الوحيد في العالم الذي نجد أنفسنا فيه.

بلادي وإن جارت علي عزيزة          وأهلي وأن ضنوا علي كرام

ورابعا لأن أسعار البيوت لم تكن قد ارتفعت كثيرا. فبمقدور هذه الحفنة من الدولارات مع إضافات قليلة أن تؤمن بيتا متداعيا أو، على أسوأ الفروض، قطعة أرض في منطقة تعيسة.

والسبب الخامس هو التفرغ للبند الثاني من الأولويات: السيارة. فبعد سنتين اقتنيت سيارة كريسيدا جديدة موديل 1982م . وحزمت أمري للعودة " ويا بلد جاك زول ".

ولو كنت أعجب من شيء لأعجبني              سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتي لأمور ليس يدركــــــها               والنفس واحدة والهم منتشــــــــــر
 

 

آراء