ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة

 


 

 

(الحلقة 16)


gibriel47@hotmail.com

توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.



المؤلف


المراحل الدراسية (2)


قامت مجموعة من الخيرين من أبناء السودان بالخارج بعقد اجتماع مع المسئولين في السفارة السودانية بالرياض وإرسال وفد إلى السودان  في أوائل انقلاب الإنقاذ بعد  انبثاق (الثورة التعليمية) ليقابل الرئيس البشير ونائبه المرحوم الزبير  محمد صالح ومايسترو الثورة التعليمية البروفسير الفسل (الشحيح) إبراهيم أحمد عمر ليناقش معهم مسائل وطنية بشأن دخول أبنائهم الجامعات السودانية حرصا منهم على تشريب أبناؤهم بروح الوطن والانتماء  إليه في لاحق الأيام بعد دراستهم كل المراحل الدراسية قبل المرحلة الجامعية في الخارج.

قدمت هذه المجموعة الخيرة ثلاثة مقترحات محددة بشأن الثورة التعليمية، ولكنها وجدت آذانا صماء من حكومة الإنقاذ آنذاك. فقد كان كبيرهم الذي علمهم السحر ورأس الفسالة (الشح) ومهندس الخطط الشيطانية لا يريد خيرا لأبناء المغتربين وللسودانيين عموما. فقد أتى بحقد لا يشبه إلا حقد إبليس على أبينا آدم.

رجع الوفد( شأن كليم الله الذي أضناه بنو إسرائيل وصدودهم ) غضبان أسفا حيث رفضت اقتراحاته الثلاثة بشأن سياسة تعليم أبناء المغتربين، وطبقت عليهم سياسة تخفيض الدرجات ( التي وضعها جزء من أعضاء الوفد من كبار رجال التعليم للوافدين آنذاك من دول أوروبا وليس الخليج وطبقتها حكومة الإنقاذ خبط عشواء).

كانت طلبات الوفد أن يدخل أبناؤهم في جامعات الولايات التي ينتمي لها كل مغترب ليساعد في إكمال نواقص تلك الجامعات، أو أي جامعة في أي ولاية بشكل لا مركزي ويدفعوا  في هذه الجامعات السودانية ما يدفعونه  من عملة صعبة لجامعات الدول الأجنبية التي يرسلون   أبناءهم  إليها عادة. تلك الجامعات الأعرق من جامعاتنا الوليدة  والتي برغم ذلك لا تطلب  تخفيضا للدرجات أو شروطا تعجيزية وتعلم أبناءنا  ما يرغبون.

وكان الاقتراح الثالث أن تنشأ جامعة خاصة بأبناء المغتربين البلداء ( حسب وصف المسئولين الإنقاذيين) أو (الحناكيش) عند العامة.  أي حقد هذا وحسد وفسالة (شح) ورذالة!!! عجبا فقد رمتنا بدائها وانسلت!!!

انفض سامر الخيرين بعد فشل كل المساعي وبعثوا بأبنائهم إلى شتى جامعات الكرة الأرضية وهم في سن مبكرة جدا غير متزودين بسلاح اللغة واكتنفتهم بيئات خطرة للغاية واكتنفت الآباء والأمهات هواجس وكوابيس الليل عند النوم.  كل ذلك لم يحرك ساكنا في من ماتت قلوبهم وخلت من الرحمة. لا لشيء سوى الحسد و(الفسالة) والرذالة.

واقتبس مهندس الثورة التعليمية لاحقا اقتراح القبول الخاص فقط حسب مزاجه السقيم ونكاية في المغتربين الذين كانوا سيدفعون عمله صعبة للسودان في وقت كان فيه السودان والجامعات الوليدة بحاجة ماسة للعملة الصعبة.

وبعد أكثر من 20 عاما لاحت في الأفق أخيرا بشائر ولادة جامعة المغتربين، فما الذي تغير بعد كل تلك الأعوام الطوال؟!!! إنها (الفسالة) والرذالة!!!

كان من بين هؤلاء الخيرين الإسلامي الغيور وعالم الفيزياء الدولي محجوب عبيد (رحمه الله رحمة واسعة) الذي تدرس إحدى نظرياته في علم الطبيعة في جامعات العالم أجمع  و الذي تكفلت السعودية بعلاجه في مرضه الأخير في أمريكا وحكومتنا تنظر كالغبية وكأن الأمر لا يعنيها ولا فيه مذلة ومنقصة لها.   أين المروءة بل أين الشهامة التي نتشدق بها؟!!!

يذكرني موقف حكومتنا هذا بموقف ود الريف (الوافد من ريف مصر وكما يقال  " ود الريف شن عيبه ما عيشته وبصلته في جيبه " )  مع التي طلقها زوجها أمامه وهو لا يعلم شيئا عن عادات وتقاليد السودانيين في موقف كهذا حيث يقال للمطلق (مرجوعة في مسماها) ولا يستطيع المطلق بعد ذلك أن يصر على طلاقه فيرجعها.

ففي هذه الحادثة وقف ود الريف لا ينبس ببنت شفه والمرأة (مزنوقة) تنظر إليه عله ينجدها حتى أفصحت عن حاجتها عندما يئست من ود الريف قائلة: ( يا قرد الطلح ما تقول حاجة).

كان البروفسير الفاضل / محجوب عبيد (رحمه الله رحمة واسعة) من ضمن هيئة التدريس في جامعة الخرطوم حينا من الدهر.  ولكن برغم ذلك رفضت ابنته الألمعية التي حصلت على نسبة 98% من دخول جامعة الخرطوم أيام "فسالة" الإنقاذ!!!  وقد تعرض لإهانة وجلد بسوط شرطي سوداني أثناء وقوفه في طابور مع غيره من المغتربين بصالة خدمات جهاز جباية وإذلال المغتربين المسمى زورا جهاز شئون المغتربين.

يتخرج الخريجون من جامعات (الثورة التعليمية) السودانية الواهية أنصاف متعلمين وشبه أميين. هذه الثورة التعليمية التي أضاعت هيبة العلم والجامعات الراقية المعتبرة دوليا وانحدرت بنا إلى مصاف جامعات محلية عربية وافريقية لا لون لها ولا رائحة ولا طعم. 

وأصبح الدكاترة أكثر من الهم في القلب. فلا تسمع ولا ترى في وسائل الإعلام وكل نواحي الحياة إلا دكاترة أشبه بالأميين. يتحدثون خطأ ويكتبون خطأ ولا يستحون. وأصبحت شهادات الدكتوراه والبكالوريوس المزيفة في كل مكان وقصرت رقابنا في جميع أنحاء العالم. وحتى الدول العربية أصبحت تشك في شهاداتنا!!! فبعد أن كانت جامعة الخرطوم تحتل الرقم 11 في جامعات العالم قاطبة انحدرت إلى الرقم 4371 عالميا.

وأصبح خريج جامعات (الثورة التعليمية) أي كلام بعدما عانى الأمرين في سني الدراسة ودفع والداه (الوراهم والقدامهم) في انتظار تخرج فلذة كبدهم. وعندما تخرج هذا الخريج التعيس اصطدم بجدار "الفسالة"  الذي شيدته حكومة الإنقاذ والذي يشبه كثيرا جدار اليهود في الأراضي المحتلة. هذا الجدار  لا يخترقه ولا يسمح لأحد باختراقه غير أبناء ممن ينتسبون لحكومة الإنقاذ   " الإسلامية " بعد التمحيص والتزكيات وكل أساليب الفسالة "الشح" التي لا تخطر على بال.

وفي ذات الوقت نعم أبناء المنتسبين لحكومة الإنقاذ خلال 21 عاما بالبعثات التعليمية إلى جميع الدول ومن بينها دول العالم الأول( التي يصفها إعلام الإنقاذ بدول الكفر والانحلال ) وحدهم فقط. فالسودان كدولة اعتبارية تأتيه البعثات والمنح من دول العالم. ولكن حكومة الإنقاذ اقتصرت البعثات والمنح الحكومية على بنيها فقط. واتخذتها تحفيزات ومكافآت للمنتسبين إليها. يتخرج أبناؤهم ويعودون ملء السمع والبصر. فهم السادة فقط ولا سادة غيرهم ونسوا دعوات المظلومين في الليل البهيم!!!

تنام عيناك والمظلوم منتبه      يدعو عليك وعين الله لم تنم

وقال الشاعر:
ولو أنا إذا متنا تٌركنـــا          لكـــــان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بٌعثنـــــــا         ويســــــــأل ربنا عن كل شيء

نعم أبناء المنتسبين لحكومة الإنقاذ " الإسلامية " برغد العيش في قصور آبائهم (مستجدي النعمة). وذهبوا في الإجازات الصيفية إلى المصايف العالمية واعتادوا التحدث عن تلك الدول والمصايف كأنهم ينتمون إليها. ونسوا أن آباءهم كانوا يوما ما من الطلبة الفقراء  الذين صرفت عليهم الحكومات الوطنية في التعليم وأسكنتهم الداخليات يرتعون فيها مجانا، وعالجتهم وسهرت على تنشئتهم. ولولا هذه الحكومات الوطنية وحر مال الشعب السوداني لما أكمل معظمهم تعليمه. فهل هناك رذالة و"فسالة" أكثر من هذا؟!!

العجيب عندما تذهب إلى سفارة جمهورية (الإنقاذ) السودانية لتوثق شهادة المدرسة الثانوية السعودية، التي توثقها الخارجية السعودية بثلاثين (30) ريال سعودي  فقط، تتقاضى السفارة السودانية كعادتها وبكل (بجاحة وقلة حياء وعين قوية) مائة وخمسين (150) ريال سعودي على توثيق الشهادة السعودية وهي لم تقدم لك من التعليم شيئا وتكتب في الإيصال خدمات تعليم وصحة!!!

كانت السفارة السودانية تتفنن في جباياتها بعذر وبغير عذر. فتبيعك كل عام الكتاب المرشد للقبول في الجامعات السودانية بمبلغ مقدر من الريالات السعودية ، وكذا دفتر المغتربين، وتتقاضي مبلغ مائة وعشرة (110) ريالا سعوديا عن التوكيل، وحتى تصوير نسخ المستندات داخل السفارة الصفحة بريال في حين أنه في الخارج عشر صفحات بريال ،  وكذلك التصوير الفوتوغرافي ، وتتقاضي مبلغ 1.500 ريال - أول الأمر  -في قنصلية جده كرسوم لمأذون الأنكحة، ثم بدأت سفارة السودان في الرياض في تخفيض الرسوم إلى 110 ريال سعودي ، وتبيعك الزي الإسلامي للنساء، وتبيعك حتى استمارة استخراج أو تجديد جواز السفر بثلاثة (3) ريالات عند موظف الاستقبال، وتجديد جواز السفر بمبلغ مائتان وخمسة عشر (215) ريالا، واستخراج الجواز الجديد بمبلغ (450) ريالا، وتعرض عليك الكتب (الإنقاذية)، وتكتب جملة من البنود: المساهمة الوطنية، وترعة الرهد، وشريان الشمال، وضريبة الدش (أطباق الأقمار الاصطناعية) وبنود مكتوب عليها  عبارة (أخرى) لا تعلم عنها شيئا!!!

كانت سفارتنا عبارة عن سوق حر (بفتح الحاء)، كما يقول السودانيون، من كثرة الجماهير وخاصة أيام الخميس يوم عقود الأنكحة حيث تعج بالنساء اللائي لم يخصص مكان لانتظارهن مع أطفالهن الذين يملؤون حوش السفارة بالضجيج والجري من مكان إلى آخر.

تشاهد كل ذلك  عندما تضطرك الظروف لزيارة سفارة جمهورية السودان العجيبة لإضافة طفل في جواز والدته، أو استخراج شهادة جنسية لأحد أبنائك أو بناتك، أو لتجديد أو استصدار جواز سوداني جديد. فتكتب السفارة في إيصال تجديد أو استخراج جواز سفر الجديد أشياء ما أنزل الله بها من سلطان لا تشبه أي أجراء ولا يمكن أن تقابلك في أي سفارة  من سفارات العالم من حيث السعر والمدة والإجراءات الغريبة!!!

يقال بأن سفارة السودان بالرياض كانت العماد ومصدر الدخل الرئيسي لأكثر من خمسة وعشرين (25) سفارة في العالم. لذا لا غرو إذا دخلت السفارة في الرياض ووجدت أمامك العديد من النوافذ المخصصة للمحاسبين للجباية بكل أنواعها، الأمر الذي لا تشاهده في أي سفارة أخرى من سفارات العالم!!!

وهناك قسم خاص للأراضي السكنية (القطع المميزة والفاخرة وغيرها) أسوة بسنتهم في السودان عندما صنفوا الخبز إلى خبر (فاخر) وغير فاخر،  وحتى الحج كان هناك الحج (الفاخر)!!!. أي عقد نفسية هذي!!! ولم يستكثرون على الناس كل شيء طيب!!!؟ بلا شك هذه من شيم النفوس الخبيثة والدنيئة والوضيعة والمريضة ولا شيء غيرها.

وقسم آخر في السفارة مخصص للمشاريع الزراعية والاستثمارية وغيرها من حيل النصب على المغتربين مثل مشروع سندس الزراعي الفاشل الذي استغرق أكثر من ربع قرن من الزمان ولا يزال (الإنقاذيون) يروجون له.  ولا يزال مهندسه وشاعره الفصيح " العكر" يعتلي المنابر، بلا حياء، ويتحدث عن السيرة النبوية و مكارم الأخلاق ودولة المدينة المنورة الفاضلة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم!!!

والعجيب أنه عندما جد الجد ودعت إحدى القنوات الفضائية السودانية مهندس مشروع سندس وفارس الإنقاذ المغوار لمناقشة هذا المشروع الفاشل على الهواء مباشرة لاذ بالصمت وبح صوت مقدمة البرنامج وهي تطلبه على كل أرقام الهواتف فاعتذرت للمشاهدين عن الحلقة؛ واختبأ المهندس المغوار كجرذ كبير رأى صقرا يتهادي في الجو.

ينتابك شعور وأنت داخل سفارة السودان بأنك في سوبر ماركت كبير لا ينقصه إلا عرض الجبن والزيتون والخيار والخضروات والفواكه واللحوم.  فيخيل إليك هناك جزار في الطابق العلوي بمئزر وساطور ويضرب على (وضم)، وفي الدور الأرضي بائع خضروات. وعلى ناحية قصية من السفارة مكان مخصص للكمونية وأم فتفت والشطة والبصل والجرير والدكوة (زبدة الفول السوداني)!!!

كانت ميزة الغربة في المملكة العربية السعودية أن أبناءنا وبناتنا درسوا كل المراحل الدراسية مجانا. وهذا نعمة ما بعدها نعمة نشكر  عليها حكومة المملكة العربية السعودية شكرا كثيرا. ففي سودان  حكومة ما يسمى (الإنقاذ) تجهدك وزارة التربية والتأليم (التعليم) برسوم ومصروفات دراسية لا قبل لك بها وأنت تعيش في زخم الثورة التعليمية والدولة الإسلامية!!!

اضطرت بعض الأسر كاملة، أو أحيانا الأم وأبناؤها وبناتها، للرجوع إلى السودان من أجل تعليم أبنائهم وتفاديا لقطع الدرجات. ولكنهم يتعرضون لقطع من نوع آخر: قطع الكهرباء والمياه وكل معينات الحياة الأخرى،  وتوفر كل المنغصات المبرمجة.

العجيب أن معول تخفيض الدرجات من الشهادات العربية الخليجية غير متساو. فمعول التخفيض في شهادات الطلاب السودانيين في دولة قطر غير معول التخفيض في شهادات المملكة العربية السعودية وهلم جرا!!!  يبدو أن الأمر خاضع لمؤشر العلاقات الدبلوماسية رغم أن "لحم أكتاف" حكومتنا وسفاراتنا من المغتربين السودانيين في المملكة العربية السعودية وغيرها.

وفي لاحق الأيام احتار الآباء والأمهات في الأبناء والبنات الذين ولدوا في دول المهجر وأصبحوا دون أن يدروا ينتمون لتلك الدول التي ولدوا ونشأوا فيها، ولا تثريب عليهم، فتلك مسارح صباهم.  وعندما عاد بعضهم إلى السودان لم يستطع العيش فيه. استنكر عليه أنداده  تصرفه واعتبروه مستكبرا وبدأت المضايقات والسخرية منه وأنه (شهادة عربية)، أو (ولد مغتربين حنكوش) أو (مرطب)!!!

وعندما (كبر العيال) رجع بعض قدامى المحاربين إلى المربع الأول، مرحلة ما قبل زواجهم، بعد عودة الزوجات والأبناء والبنات للدراسة في السودان وعاشوا مرحلة عزوبية ثانية من نوع غريب وفي سن متقدم، فازدادت غربتهم كآبة وهموما ووحشة وأمراضا.

تزوجت بعض البنات في سن المدرسة الثانوية، والبعض الأخر في المراحل الأولى في الجامعة أو بعد التخرج. وذهب الأبناء للدراسة في الجامعات السودانية ويمم البعض الآخر جامعات في ما وراء البحار. وانهمك الآباء في توفير المصروفات والرسوم الجامعية وتذاكر سفر الأبناء.

كان بعض الأبناء والبنات يأتون من الدول الأوروبية أو الأسيوية أو الأفريقية بتذاكر تكلف (الشيء الفلاني) لتجديد إقاماتهم حسب النظام السعودي. تمنينا لو جددت السلطات السعودية إقاماتهم وهم في تلك البلاد حتى توفر علينا معاناة مادية نحن في غنى عنها.  ولكن كما يقول المثل السوداني (تطلع من بيتك حزين تلقى الفرح وين).

وبعد تخرج الأبناء والبنات وبعد أن عملوا لفترة في السعودية، بدأت الطموحات الجديدة وهي تقديم طلبات اللوتاري (اليانصيب)  للحصول على الجنسية الأمريكية أو الكندية أو جنسيات دول أوروبية، أو التحصيل العلمي لنيل درجات الماجستير والدكتوراه.

الجدير بالذكر أن  الجامعات السعودية مثل جامعة الرياض (قبل أن تصبح جامعة الملك سعود وتنتقل من مقرها في الملز حي النور إلى الدرعية) و جامعة الملك عبد العزيز في جده  ،كمثال، كانت تقبل الأجانب. وقد درس بها العديد من أبناء المغتربين الأوائل. لكن فيما بعد منع أبناء المغتربين من القبول في جامعة الملك سعود وغيرها من الجامعات السعودية عموما حتى ولو كنت تعمل أستاذا فيها،  إلا بمنحة.

وفي لاحق الأيام ظهرت مؤسسات تعليمية أهلية في المملكة العربية السعودية وجامعات تقبل الأجانب مثل جامعة الأمير سلطان بن عبد العزيز، والجامعة العربية المفتوحة، وكليات مثل كلية الأشعة التابعة لجامعة الملك سعود، وكليات الحاسوب، وكلية طب الأسنان ، والأكاديمية الدولية للعلوم الصحية، وجامعة الغد الدولية للعلوم الصحية، الخ.

لكن القبول في هذه المؤسسات التعليمية الجديدة يتطلب دفع رسوم باهظة للغاية ليست في مقدور أغلب المغتربين، فاستمر تدفق سيل أبناء المغتربين إلى خارج المملكة العربية السعودية إلى جامعات في الهند وباكستان وماليزيا والفلبين ومصر  ودول أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.

وتزوج بعض الأبناء من الدول التي درسوا فيها وأصبحت وجهتهم تلك الدول. ولم يستفد السودان الذي تبرأ منهم مبكرا من الانتفاع بخدماتهم وحرم الشعب السوداني من نعمة نعمت بها دول أخرى.

وبذهاب الأبناء إلى دول أخرى، انفرط عقد الأسر السودانية ثانية. وبدأت مرحلة جديدة من الغربة (غربة داخل غربة)،  وأصبح الآباء والأمهات كالسفراء المتجولين فمرة تقوم الأم بزيارة ابنتها في البلد الفلاني في حالات الولادة وتترك الأب؛  ويسافران معا في أحيان أخرى لزيارة ولدهما في البلد الفلاني.

رحم الله آباءنا، لقد كانوا أسعد حالا منا. فهم لم يعرفوا الغربة البطالة " السيئة". وسعدوا بوجود مجموعة من أبنائهم وأحفادهم  في معظم الأوقات بجوارهم طوال حياتهم ومعايشتهم ومشاركتهم تجاربهم اليومية في الحيشان الواسعة.

وعلي أي حال، فقد مكنتنا  الإنترنت ببرامجها المختلفة مثل (سكايب) وغيرها من الاتصال بأبنائنا وبناتنا وأحفادنا في الدول الأخرى والتحادث معهم والنظر إليهم.  وعلي كل حال كما يقول المثل الإنجليزي: " شيء خير من لاشيء".

الجدير بالذكر أن الغربة شرعا هي النفي من الأرض. ولكن المجموعات السودانية اختارتها طوعا وهربا من جحيم الحياة المعيشية في بلادها أيام حكومة انقلاب مايو(1969-1985)، والديمقراطية الثالثة(1985-1989)،  وانقلاب الإنقاذ(منذ 30/6/1989)، فانطبق عليها المثل القائل: (كالمستجير من الرمضاء بالنار).

 

آراء