ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة … بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
الحلقة -22-
gibriel47@hotmail.com
توطئة
الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).
لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.
وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.
ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.
لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.
ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).
وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.
وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.
المؤلف
تنويه: القراء الكرام، هذه الحلقة هي الحلقة الأخيرة. فقد رأيت أن أتوقف بعد هذا المشوار الطويل مع ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة، وأجمع ما كتبته في كتيب صغير ذكرى للأجيال القادمة ليقفوا على تجربة من تجارب الدهر في زمن أغبر قذف بنا وسط أمم لا تقيم لنا وزنا ولا تعرف قدرنا.
لاشك أن هناك بعض الأجزاء التي لم تتسع لها هذه الحلقات، وهي حلقات تحلق خارج السرب. ولاعتبارات كثيرة مقدرة، أرجو أن يتفهمها القارئ الكريم، لم أرغب بتضمينها في المذكرات ولكن قد يسعها الكتيب كما ذكرت.
عسى الأجيال القادمة أن تفيد من هذه التجارب وتصلح ديارها وتقاتل من أجل ذلك، إن دعت الضرورة، ولا تضطر للخروج عن أوطانها مهما كلفها!!! وكما قال أهلنا في السودان: ( تطلع من بيتك حزين تلقى الفرح وين)
شاكرا لكم مصاحبتي في هذا المشوار، ودمتم في حفظ الله ورعايته.
رجاء : يرجى عدم نقل أو إعادة نشر أي من حلقات هذه المذكرات على أي وسيط إعلامي إسفيرى أو تقليدي دون إذن مسبق من صاحبها مع إمكانية اقتباس أي من فقراتها في البحوث والمقالات شرط التقييد بشروط الاقتباس العلمية المتوافق عليها مع شكري الجزيل.
موسم الحصاد المر
وبغياب الآباء والأمهات يبدأ الأبناء والبنات في إحصاء ما تركه المحاربون القدامى بغية استهلال موسم الحصاد المر. فيتقاسمون إرث المحاربين القدامى في هدوء، إن كانوا زمرة من العاقلين. وإلا فستتناهى إلى آذان الناس أسرار وحكايات!!!
وتبدأ دوائر حياة الأبناء والبنات في الاتساع مكونة بدايات لمشاريع أباء مناضلون وأمهات مناضلات في درب السديم. ويعتلي كل أب وأم مركب واحد يبحر بهما في نهر الحياة الجارف إلى مصب مغمور في الأفق البعيد. وتستمر الحياة على منوالها القديم.
أما الصغار من الأبناء والبنات فهم تحت رحمة أخوانهم وأخواتهم في الحفاظ على حقوقهم، وإكمال مسيرة تعليمهم. فلو أبر الكبار من الأبناء والبنات بوالديهم فسيكون الصغار من أخوانهم وأخواتهم في حدقات عيونهم حتى يوصلونهم إلى بر الأمان، وأن خانوا الأمانة فتلك بداية الحكايات المأسوية.
فقد شهدنا الكثير من تغولات الكبار من الأبناء والبنات على حقوق الصغار، وسمعنا عن مآسي تدمي القلب. ففي بعض الأحيان يبيع الكبار من الأبناء والبنات كل الإرث، منقولات وغير منقولات، في لحظة ويصرفون المال في مشاريع خاصة بهم ويتركون الصغار يتامى بواكيا.
في ذات مرة ونحن نقف في المقبرة لدفن أحد المحاربين القدامى،نظر أحدهم إلى الأجداث المتناثرة الكثيرة وتلك الحفر الفاغرة أفواهها التي تنتظر القادمين الجدد وقال: (أنتو عارفين، الجماعة ديل لو قالوا ليهم قوموا، لقام كل منهم راكضا ليكمل أحد مشاريعه التي لم تكتمل !!!)
ويقول أحد الحكماء أن شابا مفعما بالحياة ويحب زهوها قال عندما قام من مجلسه قائلا: (أريتني ما أموت حتى ينقضي غرض النساء) أي ليتني لا أموت حتى تقضى كل حوائج النساء. ضحك الحكيم قائلا: (بهذا أؤكد لك يا بني بأنك لن تموت أبدا. فمتى علمت أن حوائج النساء قد انقضت ؟!)
كانت زيارة القبور قليلة في بداية الغربة ولم تكن الوفيات بتلك الكثرة. ولكن ما أن انقضى أكثر من عقدين من الزمان حتى شهدنا ازديادا ملحوظا في زيارات المقابر. لقد تسللت عاديات الزمان إلى العظام والأجساد التي كانت يوما شابة وقوية فأوهنتها.
وتحت ضغط الحاجة استحدثت السلطات السعودية مواقع مقابر جديدة في الرياض في حي النسيم، ومقابر " منفوحة الجديدة" في الجهة المقابلة لشارع الفريان من الطريق الدائري الجنوبي بالقرب من محطة مياه الصرف الصحي، وفي الحائر، وأماكن أخرى.
كان أحد أصدقائنا من المحاربين القدامى يخشى الموت في الغربة خشية مبالغا فيها. وكان أكثر ما يخشاه ثلاجات الموتى. و كان يقول أن الموت في السودان أرحم ألف مرة، فالجسد يطمر في التراب ولا يزال دافئا. أجبته قائلا: (يا أخي ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ كما قالت ذات النطاقين أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنهما لابنها المجاهد سيدنا عبد الله بن الزبير . يا أخي وحد الله. وقد قال المولى عز وجل ( وما تدري نفس بأي أرض تموت)).
ظل هذا المناضل يذهب إلى السودان ويعود أكثر من ثلاث مرات. وكان في كل مرة يغالب العودة إلى الغربة بشتى الطرق والوسائل إلا أن جهوده كانت دائما تذهب أدراج الرياح وتنفد كل سهام جعبته ويهزم في الآخر ويعود إلى الغربة مطأطئ الرأس.
وفي المرة الأخيرة نجح في الاستقرار في السودان. فرحنا لهذا النجاح أيما فرح. أولا، لأنه نجح بعد معاناة كبيرة، وثانيا، لأنه منحنا الأمل بالعودة إلى الوطن الحبيب وداعب أشواقنا ودغدغ مشاعرنا من حيث لا يدري عن قرب وضع حد للغربة المفتوحة.
لكن أم العيال، التي اتخذت من العيال كتيبة هجومية مساعدة، بعدما عانوا الأمرين من عيشة السودان الصعبة مقارنة بالعيشة السهلة في الغربة، شنت عليه هجوما كاسحا اضطره في الآخر لأن يشرفنا بالرياض لتجديد (الإقامات).
وفي فترة الانتظار لتجديد الإقامات كان ذلك المحارب القديم يعيش حالة نفسية صعبة للغاية. والأدهى والأمر أن أم العيال والعيال نظموا صفوفهم ثانية وشنوا عليه هجوما كاسحا آخر والحقوا به هزيمة نكراء أكبر من الهزيمة الأولى واضطروه لاستجار شقة في غبيرة العتيقة. ثم أشعلوها حربا شعواء عليه وازدروا برامج عودته الفاشلة، وأعلنوا العصيان ورفض العودة إلى السودان. فانكسر للمرة الثالثة واضطر لإدخال العيال المدارس السعودية.
كانت يستخدم في حربه مع عائلته كل الأسلحة المتاحة ومنها التهديد بالزواج، وهو في هذا السن. ولكن يبدو أن سلاح (التهديد بالزواج) لم يعد سلاحا ماضيا وفتاكا كما كان ولا مجديا أو مرعبا كفاية ليخيف زوجته التي صممت بشموخ وإصرار وإباء على البقاء في المملكة العربية السعودية.
قال البروفسير الفنان والنحات وزعيم شعراء الحلمنتيش الرائع محمد عبد الله الريح ( الشهير بحساس محمد حساس، أستاذ علم الحيوان بجامعة الخرطوم والذي عمل فترة من عمره محاضرا بإحدى الكليات العلمية بالطائف بالسعودية وصاحب البرنامج التلفزيوني الشهير "طبيعة الأشياء") أن معظم المغتربين لم ينعموا ببيوتهم التي بنوها أيام الغربة. فقد ظل معظم المغتربين يجاهدون تيارات الغربة ويحاولون بشتى الطرق العودة إلى السودان الحبيب. ومع كل ذلك أخذتهم تيارات الغربة القوية بعيدا عن الوطن وظل حلم العودة خلال عقود من الزمان حلما جميلا استحال تحقيقه.
ومن قيض الله له أن يعود إلى السودان وينعم ببيت (الجاك) الذي بناه فقد كان أسعد الناس. وهناك فئة كان قدرها أن تتخذ من بيوتها منصات للانطلاق إلى الدار الآخرة.
في صباح يوم الجمعة سمعت طرقا على الباب مع ضغط على الجرس الكهربائي فأيقنت أن الطارق في عجلة من أمرة. فتحت الباب فإذا بي وجها لوجه أمام أسامه،أحد جيراني، وصهر زميلي وأخي وصديقي الدكتور حسن دسوقي.
ابتدرني أسامه قائلا: ( البركة فينا، دكتور حسن دسوقي توفي في نومه. ) لم أكد أصدق أذني لكنها الحقيقة المرة. فحسن دسوقي صديقي منذ أيام الدراسة الجامعية مع مجموعة رائعة من أبناء مدينة مدني تناثروا في بقاع المعمورة وعز لقاؤهم.
وفي يوم الخميس بعد أن تفرقنا إلى مساكننا بعد نهاية العمل عند الساعة الثانية عشر ظهرا في شركة روناء للإعلام المتخصص، كان زميلي مبارك على أحمد، من أبناء سنار، قد غادر إلى مسكنه. صلى مبارك العصر ثم أغفى قليلا بعد صلاة العصر.
وعند صلاة المغرب أرادت زوجته أن توقظه لصلاة المغرب. لم يحرك ساكنا. انخلع قلبها وصاحت. فقد فارق مبارك المبارك الدنيا وهو في ريعان الشباب، في الثلاثينيات من عمره. وترك زوجته الحامل التي أنجبت له ولدا!!!
وفي الثامنة والنصف صباحا ونحن في مكاتبنا نستقبل يوم عمل جديد، كان خالد مختار الدمث الخلق والذي تزوج قبل بضعة أشهر فقط يمزح ببشاشته المعهودة في مكتب استقبال شركة عجلان وإخوانه في العليا.
أسر خالد لبعض الأخوة بأنه اليوم أفضل حالا ويشعر بطاقة زائدة. وكان أيضا في الثلاثينيات من عمره.
وأثناء حديثه مع أحد الإخوة سقط من كرسيه. أخذ إلي مستشفى المركز التخصصي القريب من مقر الشركة وغرب طريق الملك فهد. أخبرهم الطبيب أنه فارق الحياة قبل وصوله إلي المستشفى. ترك خالد زوجته الحامل التي أنجبت له ولدا!!!
وفي حي الملز، قرر عبد الرحمن غريب،وهو في الثلاثينيات من عمره أيضا، أن يتزوج على زوجته الأولى حيث لم يرزقهما الله طفلا خلال عقد من الزمان. كان الأمر صعبا عليه، فهو يعزها جدا.
وعلى أي حال تم المقدر وأخبر زوجه.
وبعد أشهر وضعت زوجته الجديدة ولدا. فرحنا أيما فرح بهذا النبأ السعيد. ذهب عبد الرحمن في إجازة عيد الفطر وترك زوجتيه في الخرطوم على أن يعود إليهما في عيد الأضحى، وعاد سريعا إلى الرياض عندما استدعته الشركة لأمر عاجل.
نام عبد الرحمن الطيب القلب في مسكنه وحيدا وكان يعاني من نوبات الأزمة الشعبية. وفي صباح اليوم التالي اتصل به زملاؤه من الشركة عدة مرت ولم يجب. اتصلوا بشقيقه الدكتور مبارك الذي ذهب إلى مسكن عبد الرحمن القريب منه في حي الملز. وكانت المفاجأة. لقد مات عبد الرحمن في تلك الليلة!!!
لقد سمعنا عن وفيات كثيرة في الرياض ومناطق أخرى من المملكة العربية السعودية حدثت بصورة مماثلة ولشبان في مقتبل العمر وفي عنفوان الشباب. تغمدهم الله جمعيا برحمته وبارك في نسلهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكفى بالموت واعظا.