ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة

 


 

 

(الحلقة 8)

gibriel47@hotmail.com


توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

 ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

 لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.



المؤلف

الانتداب إلى البعثة العسكرية السعودية في اليمن

كانت إدارتنا الجديدة " إدارة التعاون والمساعدات العسكرية الخارجية"  في وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة السعودية، برئاسة الفريق ماجد قباني، سفير المملكة العربية السعودية إلى المغرب لاحقا. ثم خلفه الفريق محمد عبد الله العثيمين، واللواء ركن يوسف محمد المدني، رئيس اللجنة العسكرية لدول الخليج العربية. رحم الله من توفي منهم  وأمد في عمر من بقي منهم.

طلبت الإدارة من ثلاثة منا المغادرة إلى صنعاء والانضمام إلى البعثة العسكرية السعودية في صنعاء ضمن برنامج مساعدات المملكة العربية السعودية للدول العربية. وبقي رابعنا في رئاسة الوزارة في الرياض.

ونحن على وشك الهبوط في مطار صنعاء وزعت المضيفة الاستمارات الخضراء لتعبئتها بتفاصيل الاسم وجواز السفر الخ. وعندما أخرج كل منا قلمه وبدأ يكتب هجم علينا ركاب الطائرة دفعة واحدة كل ممسك بجواز سفره والاستمارة الخضراء لتعبئتها. يا للهول!!! ما هذا؟

لقد كان بالطائرة عدد كبير من العمال اليمنيين  الأميين – لا يكتبون ولا يقرأون. فما كان منا إلا أن شمرنا عن سواعد الجد وعبأنا كل الاستمارات وكنا مثل موظفي الجوازات تماما خلال المدة المتبقية لهبوط الطائرة في مطار صنعاء.

لم نستاء من تعبئة الاستمارات بقدر استيائنا وحزننا على هذا العدد الكبير من الإخوة اليمنيين الأميين. عجبنا من جعجعة الحكومات العربية بتعليم المواطن العربي!!! وكلنا في الهم  شرق. فهؤلاء ضحية الحكومة اليمنية ونحن - رغم تعليمنا - كنا ضحية حكومة السودان. والأمر سيان.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة         على النفس من وقع الحسام المهند

هبطنا في مطار صنعاء ولسان حالنا يقول:  " لابد من صنعاء وإن طال السفر".  كان المطار كبقية المطارات العربية البائسة التي تفتقر إلى الكثير. وفي طريقنا إلى داخل المدينة لم نكد نصدق أعيننا. أهذه صنعاء المدينة العريقة وإحدى أقدم مدن العالم!!!

لم يلفت انتباهنا إلا جبل (نقم) الذي يشرف على صنعاء و مبنى الشيخ عبد الله الأحمر، رحمة الله، الذي كانت به مكاتب الخطوط الجوية اليمنية، ونحن في طريقنا إلى داخل صنعاء. كما لم يكن هناك من الشوارع الرئيسية غير شارع على عبد المغني وشارع جمال عبد الناصر (حاليا شارع 26 يوليو).  فلا طريق دائرية ولا مبان حديثة تلفت النظر،  بل كانت هناك بوابة اليمن القديمة والتي بها ناطحات سحاب من زمن منسي وأناس من أمم سابقة.

استقبلنا اللواء حامد المارديني، رئيس البعثة العسكرية السعودية في اليمن، استقبالا حارا في مقر البعثة في القيادة العامة للقوات المسلحة اليمينية. ونزلنا في  ميز (مهاجع) الضباط السعوديين. سعدنا بمزاملة الضباط السعوديين وعلى سبيل المثال لا الحصر الضابط الرائع علي شايخ الشهري وغيره من الضباط السعوديين المحترمين.

علمنا بعد فترة وجيزة من أحد الأخوة السعوديين بأن ( الميز) تعرض لإلقاء قنابل يدوية دمرت بعض السيارات والحمد لله لم يصب أحد. استغربنا الفعلة، ولكن بعد أن استعرضنا العلاقات السعودية اليمنية وما تمخضت عنه حرب اليمن أيام الإمام يحي أدركنا أن رواسب البغضاء لا زالت تغشى القلوب.

كان الأخوة الضباط السعوديون يشعرون بالغربة في بلد عربي شقيق. فكانوا لا يضعون العقال على رؤوسهم وهم  يسيرون في شوارع صنعاء. لأن الأخوة اليمنيين لا يطيقون رؤية سعودي يمشي في شوارع صنعاء وعلى رأسه عقال ما يثير استفزازا وكراهية وبغضا عند اليمنيين وتعاركا لا محالة. لذلك كانت مشاويرهم داخل العاصمة صنعاء محدودة ومدروسة.

وبرغم أن دولا مثل السعودية والكويت والإمارات وغيرها من دول الخليج العربية  قد بذلت بسخاء وأنشئت جامعة صنعاء ومطار صنعاء والتلفزيون القومي والمستشفى العسكري والطرق والمدارس وغيرها من المعالم البارزة  واجتهدت في تعمير اليمن السعيد وتدريب القوات المسلحة اليمينية إلا أن العداء للسعودية كان الأكبر وسط العامة.

ذهبنا يوم الجمعة للصلاة في مسجد صنعاء العتيق. كانت دهشتنا أن نرى أكثر الناس وهم يحلون سراويلهم ويضعونها في الخارج. عجبنا لهذا المشهد الغريب!!! ولأول مرة نتعرف عن قرب على مذهب شيعي ونعلم أن باليمن طائفة تسمى الزيدية وأن اليمنيين ينقسمون إلى زيود وشوافعة.

لم نشهد مثل  هذه التقسيمات في السودان. فالسودان يعج بطرق صوفية كثيرة: سمانية وقادرية وشاذلية وتجانية وبرهانية الخ. بالإضافة إلى الطائفتين الكبيرتين الأنصار والختمية. وجميع هذه الطوائف تكاد تكون سنية ولا تلحظ لها ممارسات مختلفة اختلافا كبيرا فيما بينها في المساجد أو غيرها اللهم إلا في أيام وليالي عيد المولد النبوي الشريف.

كانت القبيلتان الكبيرتان اللتان تتحكمان في إدارة دفة البلاد هما: حاشد وبكيل. كما علمنا أن لبعض شيوخ القبائل اليمنية سلطة كبيرة ونفوذ وقد اقتني بعضهم دبابات. فلا عجب أن رأيت دبابة مكتوب عليها (خصوصي)، أي ملك خاص!!!

وكانت قطع الأسلحة الصغيرة منتشرة في اليمن خاصة خارج صنعاء. وكان إقبال اليمينيين عليها كبيرا. فاليمن السعيد هو أصل العرب، وهو أرض بلقيس وسبأ، وهو من أقدم الحضارات العالمية.

بدأنا الترجمة داخل البعثة العسكرية السعودية في رئاسة القيادة العامة للقوات المسلحة اليمنية. وكنا نذهب أياما لتدريب القوات المسلحة اليمنية في اللواء السابع كمترجمين مع القوات الأمريكية التي تولت تدريب القوات اليمنية على مدافع الهاوتزر  155مم.

اصطففنا يوما في طابور الصباح قبل بدء التدريب ليختار كل مدرب أمريكي واحدا منا ليعاونه في الترجمة وتدريب الجنود اليمنيين على مدافع الهاوتزر. فذهبت مع (رايت) أحد ضباط الصف الأمريكيين الأفارقة الذين حاربوا في فيتنام في سن مبكرة جدا خلال الستينيات من القرن العشرين ولا يزال حانقا على زجه في حرب يعتقد اعتقادا جازما بأن البيض كانوا يريدون التخلص منه وإلا فكيف يزج به في تلك السن  الصغيرة في حرب ضروس كحرب فيتنام؟!!!

ويحمد للأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية مناهضتهم لحرب فيتنام ورفضهم علنا الدخول في خضمها. يتجلى ذلك في مواقف وخطب القس الشهير وداعية الحقوق المدنية الدكتور مارتن لوثر كينج والملاكم الأسطورة المسلم محمد علي كلاي اللذين رفضا بوضوح خوض هذه الحرب وقاما بحملة مضادة وسط الأمريكيين السود لعدم التطوع لقتال الفيتناميين  في وطنهم في حرب لا طائل منها سوى سحل الأنفس.

كان (رايت) مشاكسا للحد البعيد ويبدو أن الأهوال التي رآها في حرب فيتنام التي خلفت جرحا نفسيا غائرا في ذهن العسكرية الأمريكية هي سبب مشاكساته وحتى كوابيسه في الليل. فأصبح لا يفيق من شرب الخمر إلا قليلا،  ولا ينام حتى يعاقر (الخندريس).

كان رايت من الرجال الذين انطبق عليهم المثل القائل " رجال حرب، ونساء، وخمر" (Men of Three Ws: War, Women & Wine)  

وكان يزامل (رايت) في تدريب القوات اليمنية زنجي أمريكي آخر هو (كروفورد). شكلنا فريقا رائعا. فكنا نذهب في سياحة داخل صنعاء أحيانا بسيارات الجيب الأمريكية المكشوفة. وعندما قدمت زوجتي وزوجة أحد زملائي من السودان كنا نأخذهما إلى الشقة لنتناول العشاء والسمر معا. كانا يعجبان بالشطة السودانية الحارة (الحريفة) المخلوطة بالدكوة (زبدة الفول السوداني).

كان (رايت) يعجب من مناداة اليمنيين لنا بلفظ (السوداني) وسألني مرارا ماذا يعني سوداني. أجبته بأن كلمة (سوداني) تعني الرجل الأسود. لدهشتي فرح (رايت) بتلك الكلمة وأصبح متى ما قابلني يبتدرني بكلمة(سوداني). فقد أحس بالوشائج الأفريقية التي تربط بيننا لاسيما وأن للأمريكيين الأفارقة شوق دفين لموطن الأجداد.

لقد أنكرتنا العرب لاختلاف ملامحنا التي تشربت بالملامح الأفريقية من جراء  فعل الأختام الأفريقية الثلاثة: اللون والشعر والملامح. ولا يزال معظمنا في السودان يصر على عروبته أكثر من الأعراب أنفسهم، وهي أحدى الأسباب التي زجت بنا في تلك الكارثة المسماة ( جامعة الدول العربية)!!!

ذهبت يوما مع (رايت) لاستقبال زوجتي القادمة من الخرطوم في الطائرة السودانية.  كان برفقة زوجتي ابني راشد الذي تجاوز عمره العام بأشهر قليلة وابنتي شيماء التي تجاوز عمرها الأربعين يوما بأيام معدودات.  عجبنا لأن موظفي مطار صنعاء كانوا لا يدرون عن الطائرة السودانية شيئا رغم التأكيدات التي وصلتني بمغادرتها للخرطوم.

وفي لحظة خروجنا من بوابة المطار  ونحن في طريقنا إلى داخل صنعاء نظرت إلى السماء فإذا (بسودان طير  ويز) في سماء صنعاء. ذهلت وأشرت إلى (رايت) بالرجوع فقد جاءت الملكة (تطير وتهبط على كيفها) أو كما قال المصري: (دي ستُهم تقوم وتقعد على مزاجها). لم يتمالك (رايت) نفسه من الضحك الهستيري. ولم يتصور أن بالعالم الثالث طائرات تفعل أفاعيل كتلك!!!

ونحن في طريقنا إلى داخل صنعاء صعقت زوجتي ولم تكن تتصور أن هناك بلدا أسوأ من السودان. فاجأتني بقولها: ( لعلكم ما ساكنين في زقلونا دي؟!!!). فقد كانت المنازل ونحن في طريقنا إلى داخل صنعاء بائسة جدا.

الجدير بالذكر أن كبار اليمانية كانوا يحترموننا للحد البعيد وفاء للأيام الخوالي التي قضوها بالسودان. وظل معظمهم يجترها أمامنا  بحنين غامر وشوق كبير  وسعادة متى ما ذهبنا لشراء أغراض من البقالات المنتشرة في صنعاء.

عمل أكثر اليمانية أثناء إقاماتهم في السودان في البقالات أيام ثراء السودان، في بداية الخمسينيات والستينيات وحتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين. وكانت تطلق عليهم الكثير من الطرائف والنوادر. يقال أن أثنين من اليمانية يعملان في بقالة. جلب أحدهما 2 كيلوجرام من اللحم  من الجزارة. قام بطهي اللحم ويبدو أنه قضى عليه كاملا ولم يترك شيئا لزميله.  وقام بتقديم الآدام (الملاح) بدون لحم  لزميلة الذي  سأله قائلا: (أين اللحم؟). أجاب قائلا: (قضت عليه الهرة بنت عم الأسد). لم يقتنع السائل فقام إلى (بنت عم الأسد) فوضعها على الميزان. لدهشته وجد أن وزنها 2 كيلوجرام. فنظر إلى زميلة قائلا: (هذا هو اللحم 2 كيلوجرام، فأين بنت عم الأسد؟!!)

تصاهر اليمانية مع السودانيين ونتج عن ذلك التصاهر أبناء وبنات نجب كانت لهم أدوار بارزة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في السودان. فكان من أنجبهم أستاذنا الراحل البروفسير الفذ ووزير الأوقاف أيام حكومة النميري البروفسير عون الشريف قاسم الذي تربو مؤلفاته في اللغة والأدب وعلم الأنساب على أكثر من عشر أشهرها (العامية في السودان) و (دبلوماسية محمد)؛ وكذلك الفنان الطيب عبد الله، صاحب أغنيات ليل الفرح والأبيض ضميرك والسنين وغيرها من الروائع، والذي يتمتع بحنجرة رائعة وموسيقى رومانسية حالمة؛ والمرحوم سعد قشرة الذي سمي عليه ميدان سعد قشرة (حاليا سوق سعد قشرة الشهير) في مدينة الخرطوم بحري، والعدني صاحب محلات العدني في أم درمان قرب موقف بصات (حافلات) ود نوباوي في الخمسينيات  والستينيات من القرن الماضي.

كنا أحيانا نذهب في رحلات خارج صنعاء مع بعض الأسر السودانية فنفاجأ بأن ثرامس الشاي (حافظات حرارة الشايThermos )  تنفتح تلقائيا لأن الضغط داخلها أكبر من الضغط في الخارج لارتفاع صنعاء عن مستوى البحر. وكانت معظم المنازل في صنعاء غنية عن أجهزة تكييف الهواء البارد أو الحار إلا في المدن التي تقع على السواحل مثل الحديدية والمخا وغيرها.

فقد ساعدت سلسة جبال السروات المرتفعة والمحاذية للساحل من عدن جنوبا إلى الطائف شمالا على هذا الجو اللطيف نتيجة لما يسمى جغرافيا بصدع الوادي الكبير (Great Rift Valley) . وامتدت السلسلة الأخرى في أفريقيا محاذية ومقابلة لهذه السلسلة الجبلية.

ونتيجة لهذا الجو اللطيف كانت الحكومة السعودية في الثمانينيات من القرن العشرين تنتقل كلها إلى الطائف لتنعم بهذا الجو الرائع بدل قيظ صيف الرياض. ولكن الحكومة السعودية  توقفت بعد ذلك عن هذا الانتقال الموسمي.

العجيب أن القات، الذي وضعته المملكة العربية السعودية بالإضافة إلى السعوط/ التمباك (التبغ) السوداني في قائمة المخدرات، كان من المنشطات – حسب زعم اليمانية. وكان سوق القات يشهد إقبالا منقطع النظير، من الجانبين الرجال والنساء، خاصة بعد الدوام الحكومي الرسمي.

كانت جلسات القات حسب فئات وطبقات المجتمع. فقد وجهت لنا دعوات كثيرة من قادة اللواء السابع في صنعاء من بينهم اللواء حاليا علي محسن الأحمر الذي أنشق مؤخرا وأعلن تأييده لثورة الشباب اليمني، وهو أخ غير شقيق (من أمه)  للرئيس علي عبد الله صالح الذي دوخ اليمانية وأصر على بقائه في سدة الحكم في تسونامي الثورات الذي اجتاح الدول العربية في بداية عام 2011. وكذلك فعل الرئيسي الليبي معمر القذافي مع شعبه.  وقد قال المولى الكريم في محكم التنزيل " يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء".  فالملك يؤتى ولكن حين يراد أخذه لابد من انتزاعه انتزاعا كما عبر عن ذلك القرآن الكريم.

دعانا قادة اللواء السابع في صنعاء لجلسات القات التي كانت تكلف مبالغ لا يستهان بها. اعتذرنا للضباط الداعين ولكنهم على ما يبدو استغربوا اعتذارنا عن شيء معتاد عليه في المجتمع اليمني.

ويقال، آنذاك، بأن بعض النساء تكتب في شروط الزواج من الشخص المتقدم لها طقسا يسمى "التفريطة" وهو أن يدعها تخرج في فترة العصر إلى المغرب أو بعدها وتجتمع مع صويحباتها في جلسات القات.

الجدير بالذكر أن القات نبتة أفريقية يقال بأنها وفدت إلى جزيرة العرب مع القائد الحبشي أبرهة الأشرم في زحفه إلى البيت العتيق حيث أجبر نفيل الخثعمي ( من قبيلة خثعم التي كانت تدعى سابقا بجيلة) على أن يكون دليلا له فدعا نفيل هذا على أفيال أبرهة. وحين ظهرت طيور أبابيل نفذ نفيل بجلده وصعد إلى قمة من قمم جبال الحجاز وشهد الواقعة كلها.

لم تقف أمام جيش أبرهة إلا قلة من القبائل الكبيرة من بينها قبيلة بني عامر الحجازية التي انتقل جزء منها للعيش في شرق السودان والقرن الأفريقي مع قبيلة بلي التي جاءت منها كلمة البجا  "بلاويت" والتي تعني العربي أو اللغة العربية. كما تعني كلمة "بداويت" لغة البجا فخر السودان الذين كسروا المربع البريطاني أيام الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس بقيادة قائدهم الفذ الأمير  عثمان دقنه، رحمة الله، أيام معارك المهدية في شرق السودان والذين مدحهم شاعر الإمبراطورية روديار كبلنج في قصيدته المشهورة الفظي وظي Fuzzy Wuzzy)) والتي ترجمها إلى العربية الشاعر السوداني الكبير النور عثمان أبكر 1938-2009، وكذلك الأستاذ محمد صالح ضرار. وكذلك فخذ الحمران (من قبيلة غامد العربية المشهورة) الذي تنتمي إليه  أسطورة الجمال السوداني تاجوج  الحمرانية السمحة "الجميلة" التي خلدها الفن السوداني عبر أغنية تاجوج لوردي وكجراي وفيلم شهير لجاد الله جبارة بطولة المغني الصوفي صلاح  "ابن البادية".

وقد اشتركت قبائل في شرق السودان والصومال وموريتانيا في صفة جمالية عند النساء كانت سائدة بالحجاز أيام الشاعر الفحل الملقب بجميل بثينة وهي كبر الأرداف حيث كانت العرب تمدح الحسناء قائلة:
إذا دخلت اليوم       دخلت أردافها غدا

ولا يزال بعض اليمانية الذين يحبون السلطنة "الكيف" يذهبون إلى جيبوتي أو كينيا للاستمتاع بأصناف مختارة من القات أقوى مفعولا.

من المشاكل التي كانت تواجهنا في تدريب القوات اليمنية الأمية السائدة وعدم تلقي معظمهم الدراسة النظامية. فكانت إحداثيات المدفع واللوغريثمات معضلة كبيرة حتى بالنسبة للضباط الكبار.

 أخبرنا المدربين الأمريكيين بذلك، ولجأنا لارتجال الأمر بتعليم الجنود اليمنيين النبهاء تعليما عمليا وعن طريق الممارسة فقط. وكان ذلك ما حز في نفوسنا وأحزننا أكثر. فكيف يكون جيش عربي بدون تعليم!!! وقد ظلت العرب تردد لدهور بيت الشعر القائل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له        والجهل يهدم بيت العز والشرف

في صباح أحد الأيام فوجئنا بالعسكر اليمنيين، الذين كان معظمهم صغارا في  السن، مرهقين وأزياءهم متسخة. سألناهم ما الذي حدث. أجابوا بأنهم كانوا البارحة في مهمة عسكرية في جهة مدينة (إب) الجنوبية لضرب قواعد المتمردين.

صعقني الخبر وحزنت لأني اشتركت وساعدت بالتدريب، دون أن أدري، من تمكين أناس على قتل آخرين،  رغم أن تلك حقيقة من حقائق الحياة المرة ومسلماتها.

كان المدرب الأمريكي (رايت) يسمي نفسه (رقم واحد) ويتحدى الفرق الأخرى. وكان محقا. فمن كثر رميه بالمدافع بكل أنواعها في حرب فيتنام تصلب إبهامه منثنيا إلى الأمام وأصبح لا يستقيم إلا بقدر معين فقط.

كان (رايت) صادقا في تحديه للفرق الأخرى. ففي جولات تخريج المتدربين نصب الفريق الذي دربه (رايت) مدفع الهاوتزر ورمى ثلاث دانات ( طلقات مدفعية) وأصاب الأهداف قبل أن تنضم إليه المدافع الأخرى. وكان يضحك بشكل هستيري قائلا: (هكذا يكون العمل "ده الشغل"، فإن لم تسرع سينال العدو منك لا محالة. هذه لعبة ليس فيها موضعا وسطا، فإما حياة أو موت !!!)

ومن مشاكسات (رايت) التي أسرَ بها إلي أنه كان يؤدي التحية العسكرية للضباط البيض في ميدان المعركة،  وهو أمر ممنوع منعا باتا في ميادين القتال خاصة في جحيم فيتنام، لأنه يجعلهم هدفا سهلا لقناصة العدو. فكان الضباط يهربون منه بكل الطرق ويلاحقهم (رايت) بالتحية العسكرية.


 

 

آراء