ذكريات صغيرة وحكايات عن قادة كبار

 


 

 

 

في حضرة غيابهم .. رحمة الله عليهم:

١٩٧٤ الإمبراطور هيلا سلاسي: شاركت في رفقة استاذي وصديقي الدكتور يوسف فضل في المؤتمر العالمي للدراسات الافريقية عقد في يوليو ١٩٧٤ بعاصمة الديبلوماسية الافريقية أديس أبابا .
اصطف المشاركون في الموتمر في بهو القصر لتحية ومصافحة الإمبراطور هيلاسلاسي ، نجاشي زمانه . تقدمني استاذي يوسف منحنيا احتراما وتوقيرا للمصافحة فتعثرت خطاه وكاد يسقط فوق جسد النجاشي والذي كان آنذاك كهلا نحيلا نحيفا قصير القامة . الا انني ادركت يوسف وسندته فاستقام وصافح وسلم الإمبراطور ! ولكنه لم يسلم بعد نحو عام ( ١٩٧٥ ) من دبابات وعسكر الانقلابي اليساري منقستو هايلي ماريم فقتل غيلة وغدرا ، وجاء في رواية اخري انه مات حبيسا في قبو بقصره المنيف .


١٩٧٥ : في حضرة الريس سنغور شاركت ممثلا للاتحاد الاشتراكي السوداني في مؤتمر الأحزاب الاشتراكية الافريقية الذي عقد في داكار في يوليو ١٩٧٥. ألقي الرءيس سنغور خطابا استغرقت قراءته ساعتين عنوانه : قراءة أفريقية للماركسية .
استقبلني الرءيس ضمن استقباله لرؤساء الوفود فنقلت له رسالة شفوية من الريس نميري فحواها تطوير وترقية العلاقات السودانية السنغالية ، ودعوته لزيارة السودان ( تمت الزيارة في ١١ نوفمبر ١٩٧٥ وكان الريس سنغور عرض الوساطة لاحتواء التوتر في علاقات السودان بإثيوبيا اثر انقلاب منقستو هايلي ماريم . )
شد انتباهي في حديث الريس سنغور لسانه الطلق في اللغة الانجليزية الا من كلمات هنا وهناك فرنسية وهو الفرانكفوني الأصيل لغة وشعرا وثقافة . وَمِمَّا قاله لي عن السودان انه اغني بلاد القارة الافريقية بالثروات الطبيعية والموارد البشرية ، واقترح قيام اتحاد فدرالي لدول القرن الأفريقي السودان وإثيوبيا والصومال وجيبوتي.
أبدي سنغور اعجابه بالحضارة المروية القديمة وبالتسامح عند المسلمين وقال ان أغلبية سكان السنغال مسلمين وان كثير من الأسر السنغالية تضم مسلمين ومسيحيين وأضاف ان جدته ( حبوبته ) كانت مسلمة .
أهداني الريس سنغور في نهاية اللقاء القصير نسخة من بحثه باللغة الانجليزية عنوانه :
قراءة أفريقية للماركسية .

هامش: رتبت للوفود المشاركة في الموتمر زيارة لجزيرة قوري Goree علي بعد ثلاث كيلومترات من الساحل الأطلسي والتي كانت الميناء التاريخي لتجارة وتصدير الرقيق الأفريقي للأمريكتين واروبا خلال القرون من السابع عشر وحتي منتصف التاسع عشر . ومن مرافق الجزيرة السياحية متحف " بيت الرقيق " يحتوي علي المخلفات والاثار القديمة للتجارة .....
هياكل سفن شراعية وبخارية ، سلاسل تقييد الرقيق ، خرائط وإحصاءات عن الإعداد والاسعار ....الخ . ظلت قوري مزارا منذ منتصف القرن الماضي للسواح وخاصة من الولايات المتحدة الامريكية وأكثرهم امريكان من أصول أفريقية .


١٩٧٦ في حضرة " المجاهد الأكبر " الحبيب بورقيبة :
شاركت في رفقة الرشيد الطاهر بكر عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي السوداني في الموتمر الدوري لحزب الدستور التونسي بتونس العاصمة.
استقبل الرءيس بورقيبة روءساء وأعضاء الوفود في جلسة امتدت لنحو ساعتين وطلب من رءيس كل وفد ان يقدم نفسه واسم الحزب الذي يمثله . بدا التعريف والتعارف ممثل سوريا قائلا :
عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي ....هنا قاطعه الرءيس بورقيبة وبنبرة لم تخلو من الزجر " ...حزب البعث ؟ أنا اللي بعثت الأمة العربية. !! "
ران صمت مميت ، مميت في ارجاء القاعة كان ابلغ من كل تعليق .
وعندما غادرنا القاعة علق الرشيد رحمه الله : " بورقيبة دا خَرف ولا شنو ؟ " . قلت له :
المجاهد الأكبر single- minded عصي الرأي والمزاج عدل ( ضم العين وتشديد الدال ) له الدستور ١٩٦٥ ليصبح الرءيس مدي الحياة , كما أفتي قبلها بجواز الافطار في نهار رمضان مما دعا عبد العزيز بن باز رءيس هيئة العلماء في السعودية تكفيره ، وكان بورقيبة اول رءيس عربي دعا للصلح مع اسرائيل والاعتراف بها فقامت عليه دنيا الفلسطينيين والعرب ولَم تقعد الي يوم عزله وتقاعده عام ١٩٨٧


هامش : استمعت عام ١٩٩٠ اثناء اقامتي بالجزائر للقاء إذاعي تحدت فيه الرئيس بورقيبة لإذاعة تونس عن طفولته ونشأته وإخوته وقد كان أصغرهم سنا فقال ان والدته كانت تستهين به دائماً وتسخر منه وتزجره وتقول : انت مش نافع ...مش حتنفع في اَي حاجة ! قال للمذيع وهو يروي ذكريات طفولته " يا ليت ربي احي والدتي لتعيش فتري ماذا وكيف صار الحبيب : المجاهد الأكبر رءيس الجمهورية التونسية.
توفي الله بورقيبة عام ٢٠٠٠ عليه رحمته ورضوانه

١٩٧٦ : مع حسني مبارك رحمه الله
زرت القاهرة في ابريل ١٩٧٦ ضمن وفد الاتحاد الاشتراكي السوداني برئاسة بدر الدين سليمان وعضوية محجوب مكاوي ( وزير الخارجية ) وخليفه خوجلى لحضور اجتماعات اللجنة السياسية المشتركة . ترأس الوفد المصري الدكتور رفعت المحجوب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي / المصري وعضوية د . بطرس غالي ، سيد زكي ، عبد الأحد جمال الدين و د. الجرف .
استقبلنا حسني مبارك نائب الرءيس السادات وفِي سياق النقاش عن تجربة التنظيمين( الاتحادين) ساله بدر الدين مبارك عن استحداث فكرة المنابر داخل الحزب الحاكم وهل هي تمهيد للسماح بالتعددية الحزبية في مصر ؟ جاءت اجابة مبارك قاطعة وطريفة : "...لا لا دا احنا اولنا( قلنا ) نخلي الشيوعيين يبطلو الشغل from under to under " قالها هكذا بالانجليزية ثم إردفها بالترجمة " الشغل من تحت لتحت علشان نخبطهم. !! "


هامش:
لم يستدرج الرءيس نميري الشيوعيين للسطح " ليخبطهم " إنما بطل الشيوعيون أنفسهم الشغل من تحت لتحت وخرجوا للاستيلاء علي السلطة عنوة وجهارا نهارا عصر ١٩ يوليو ١٩٧١ ولاثنين وسبعين ساعة !
رحم الله قادة الانقلاب هاشم العطا وزملاءيه( منهم دفعتي وصديقي محمد احمد الزين _ ود الزين ) وَعَبَد الخالق محجوب ورفاقه ، وعفا عن النميري ورحمه .


صدام حسين والشيوعيين :
أعلن الرئيس صدام حسين عقب نهاية الحرب مع ايران عام ١٩٨٨
السماح بالتعددية الحزبية ودعا جميع الأحزاب العراقية الكف عن المعارضة " من تحت لتحت " واستئناف نشاطها السياسي علنا فوق السطح .
ارتاب الشيوعيون _ العدو اللدود لحزب البعث الحاكم - في دعوة الرءيس خشية ان تك استدراجهم لمصيدة لكوادر الحزب ولكنهم وبعد تردد قرروا اعادة صيانة وفتح دارهم في بغداد وعلقوا علي مدخل الدار لوحة كتب عليها : دار الحزب الشيوعي العراقي .
جاءهم بعد برهة ضابط الأمن البعثي معترضا أمرا بإزاحة اللوحة قائلا." ماكو حزب الا حزب البعث ...ماكو حزب شيوعي. ..." فقال له الرفيق مدير الدار سمعا وطاعة ولكن مهلا سوف نعيد صياغة كلمات اللوحة لتكون :
الحزب الشيوعي العراقي لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي. !!
حل وسط علي مسافة متساوية بين الحقيقة والخيال او ربما هي طرفة سياسية حكاها لي في بغداد عام ١٩٩٥ دبلوماسي عراقي .


هامش :
شد انتباه كل من زار بغداد في التسعينات من القرن الماضي ميات الصور للرئيس صدام معلقة في دواوين الحكومة وفِي المدارس والجامعات والمصانع والأسواق ، والطرقات والميادين بل وحتي علي جانبي الطرق البرية بين بغداد والموصل والبصرة والرمادي ....الخ . ألقي ضابط أمن ذات عام علي " مخبول " ظل يتجول في ارجاء ميدان السعدون وسط بغداد يردد جَهْرًا ويكرر كلمة واحدة صباح مساء : كيف....
كيييف كيف كيييف.....؟؟ ولكن بعد الاستجواب والضغط والتهديد ليفصح " المخبول" عن المقصود بالكلمة قال لو قتل الرءيس او مات كيف يتم ازالة هذه الصور والتخلص منها ....!!
رحم الله صدام حسين وعفا عنه وغفر له فقد اغتيل شنقا في بغداد عام ٢٠٠٦ وهو يردد الشهادة مرتين جَهْرًا وحبل المشنقة لف حول عنقه . كانت ميتة الشجعان صادقي الا يمان .


١٩٧٧ : مع الرئيس نميري :
حضرت لقاء الرءيس جعفر نميري في ١١ اغسطس ٧٧ مع السيد محمد عثمان الميرغني في القصر الجمهوري وبحضور الوزير احمد عبد الحليم رحمه الله . زار الميرغني نميري مستفسرًا عن صحته بعد عودة الرءيس من رحلة علاج .
كان لقاء اجتماعيا صرفا لنحو نصف ساعة سال الميرغني خلاله نميري " هل تتابع اخي الرئيس مسلسل one million dollar man فأجابه الرءيس : ايوا متابعو لكن ما شفت الحلقة الاخيرة ، حصل فيها شنو ؟
عجبت حينها ان قادتنا لهم من الوقت والمزاج لمشاهدة المسلسلات .


هامش :
قال الرئيس الصيني هوا كوا فونق ( خليفة ماوتسي تونج ) مرحبا بالريس نميري عند زيارته لبكين ما معناه كان لنميري نظرة ثاقبة جدا جدا في حل مشكلة جنوب السودان، فإذا بالمترجم الصيني يترجمها : " كان للريس نميري نظرة كثيرة الثقوب. !! "
في حضرة حياتهم اطال الله أعمارهم :

١٩٧٦ : مع حاكم الشارقة سلطان القاسمي :اصطحبني استاذي الدكتور يوسف فضل وكنت زميلا له في التدريس بمعهد الدراسات الافريقية والاسيوية في زيارة قصيرة لإمارة الشارقة نسال شيخها
وحاكمها الدكتور سلطان القاسمي مالا وتمويلا لتشييد قاعة كبري للمؤتمرات
بالمعهد . ألفينا القاسمي أجوادا سخيا وعد وصدق وعده فكانت قاعة الشارقة
الكائنة اليوم في جامعة الخرطوم قبلة للدارسين والمنتدين والمؤتمرات .
اقترح د. يوسف علي الشيخ ان نطلق اسمه علي القاعة فتسمي قاعة سلطان
القاسمي للمؤتمرات فأبي وتابي وقال سموها قاعة الشارقة وهكذا كان سلطان علي غير ما عليه سلاطين وحكام زماننا هذا يسمون كل شيء بأسمائهم وينسبون كل إنجاز لذواتهم .

هامش :
تخرج سلطان القاسمي في كلية الزراعة بجامعة القاهرة يحمل باكلريوس الهندسة الزراعية ، والدكتوراه في التاريخ من جامعة اكستر ببريطانيا ثم دكتوراه ثانية من جامعة دارام عن رسالته وبحثه في جغرافيا الخليج ،عرف عن القاسمي اهتمام خاص بقضايا التنمية الزراعية في السودان وبشعار "السودان سلة غذاء العالم العربي " ، رفع في سبعينات القرن الماضي !


١٩٧٧ : الامير شارلس ولي عهد بريطانيا :
كلفت باستقباله ( كنت وزير دولة برئاسة الجمهورية ) في مطار الخرطوم عند توقف طائرته الخاصة للتزود بالوقود في طريقها لكينيا في رحلة صيد . رافقني للاستقبال عبد الرحيم سعيد مدير المراسم رحمه الله .
امضي الامير نحو ساعة في قاعة كبار الزوار تحدث عن ذكريات وانطباعات والدته عن زيارتها السودان عام ١٩٦٥ وقال انه يتطلع لزيارة السودان والتجول في أرجائه للوقوف علي ما اشتهر به من تنوع بيني وثقافي . أقمنا للأمير مأدبة غدا في القاعة حضرها السفير البريطاني .


هامش. : طال انتظار الامير شارلس ، أمير ويلز , لوراثة عرش والدته وقد بلغ من العمر الثانية والسبعين وبلغت هي الرابعة والتسعين ومازال التاج علي رأسها ! ولكن ربما تحدثه نفسه ان لا بد من التاج وان طال العمر. !


٢٠٠٠ : في حضرة الملكة إليزابيث الثانية :


قدمت للملكة في يونيو عام ٢٠٠٠ أوراق اعتمادي سفيرا للسودان لدي المملكة المتحدة .
كان لقاء قصيرا لنحو عشر دقايق صافحتني وصافحت زوجتي وأثنت علي ثوبها قائله :
" your national dress is stunningly pretty ."..يا لروعة زيك القومي .
سألتني الملكة عن فرص تحقيق السلام في السودان ثم استعادت من ذكريات زيارتها للسودان في فبراير ١٩٦٥ ما أسمته political row الضجة السياسة في السودان التي سبقت الزيارة ( نشب خلاف في الخرطوم قبيل الزيارة بين الأحزاب السياسية من معارض للزيارة ، الشيوعيون ، وموءيد لها حزب الأمة والوطني الاتحادي .)

هامش. :
زارني في السفارة قبل يومين من لقاء الملكة رءيس المراسم الملكية لاطلاعي علي ترتيبات المقابلة وسألني ان كنت سأرتدي الزِّي الاروبي أم الزِّي القومي السوداني .
قلت له السوداني وهو جلابية وعمة وعباءة وأضفت هل هناك ما يمنع ان احمل معي عصاتي الأبنوسية وهي مكملة لزينا القومي ؟ اجاب بروح النكتة الانجليزية : لما لا سعادة السفير وإني واثق انك لن تستخدمها عند لقاء جلالة الملكة !!

هامش اخر :
روي سفير اسبق لموزمبيق لدي بريطانيا ان الحنطور الملكي ( Royal Chariot ) الذي حمله هو وزوجته لتقديم أوراق اعتماده تعثر احد الحصانين وكبا فكاد الحنطور يطيح بهما أرضا !....لكن تم التلافي وان تاخر استقبال الملكة لهما لنحو عشرين دقيقة اعتذرت الملكة للسفير وزوجته وقالت لهما انها سوف توجه بعزل الحصان ( to be banished ) وحرمانه من العمل في المناسبات الملكية عقابا له !!

د . حسن عابدين
١٠ مايو ٢٠ ٢٠


hasabdin1939@gmail.com

 

آراء