ذكريات وطرائف من عهد الطفولة في حي القوز بالخرطوم

 


 

 

 قضيت بحي القوز بالخرطوم جزءاً من طفولتي الباكرة، تلميذاً في السنة الثانية بمدرسة القوز الأولية في منتصف الستينات، وقبلها درست السنة الأولى في قريتي بمدرسة العكد الاولية، بين عطبرة والدامر، وفي القوز سكنا قرب مظلة المرحوم مرتضي القريبة من محطة عبيد بلال، ومرتضى ابن للصحفي فضل بشير رئيس تحرير جريدة السودان الجديد، وكان من الصحفيين اللامعين في ذلك العهد.

   تعود هذا الصحفي أن يأخذ ابناءه يومياً في سيارة تنطلق بهم لجوف العاصمة ونظل نتابعها بأعيننا حتى تستقر على الاسفلت ثم تختفي في زحام السيارات الأخرى، سألت رفاقي وأنا حديث عهد بالحي إلى أين تذهب هذه السيارة كل صباح؟ أفادوا بأنها تنقل أبناء الصحفي، الكبار إلى المدارس والصغار للروضة، ولما كان الوضع المعتاد عندنا في القرية  هو أن الروضة امرأة؛ ولا شك في ذلك؛ فقد ذهب ظني إلى كونها خالتهم أو عمتهم، ولكن عند تجاذب اطراف الحديث مع رفاقي اكتشفت أن الأمر ليس كما اتخيل، وأن روضتهم غير روضتنا، شكل هذا الأمر مفاجأة لي فقد كانت حدود الخيال في ذلك الوقت لا تستوعب مكاناً يتجمع فيه الأطفال للدراسة في تلك السن سوى الخلوة، أما أن يكون له اسم غير ذلك فهذا ما لم يكن في الحسبان، ويومها انشغل ذهني بسؤال عجز ان يجد له إجابة: لماذا الروضة بالتحديد هي التي اختير اسمها دون بقية النسوان ليطلق على هذا المكان؟

  لم تنتهي معاناتي مع الاسماء والمسميات العاصمية فبعد عدة أيام سمعت الصبية يتحدثون عن استاذ الخرطوم، سألتهم من هو هذا الشخص الذي نال شرف ان يكون استاذاً للخرطوم بكاملها؟ فاخذوا يرددون بعض الاسماء من تأليفهم وهم يضحكون، وعرفت منهم أن (الأستاذ)، كما كانوا ينطقونها؛ هو ملعب كبير لكرة القدم به مدرجات وله ابواب والدخول له بتذاكر.

  ثم فوجئت بمسمى آخر، فقد كان جارنا يمتلك جهاز تلفزيون؛ وكان التلفزيون عملة نادرة في ذلك الوقت، وقد دخلت هذه الخدمة للديار السودانية في نهاية عام 1962 كخامس دولة عربية تدخلها. وبرامج التلفزيون كانت تُقدم من السادسة مساء للعاشرة ليلاً، وحدود دائرة الأرسال لا تتعدي اربعين كيلومتراً، وعندما جلست امام الشاشة لأول مرة كانت انظار الجميع مركزة على وجهي القروي محاولة اصطياد تعابيره، قالوا لي أنه بعد الاستماع للقرآن ستشاهد فيلم (كرتون). تعجبت للتسمية وآثرت التريث؛ ثم شاهدت ثعالب وذئاب وارانب تجرى وتتحرك هنا وهناك وطيور تطير في الجو ومغامرات وافتراس وهروب، وانتهى الفيلم بكامله ولم تظهر فيه ولو (كرتونة) واحدة تبرر التسمية. كدت أن أسالهم اين الكرتون في الموضوع ايها الناس؟ ولكني رأيت أن افضل حل لاستقبال هذه الطلاسم العاصمية والتعامل معها؛ هو الظهور بوجه محنط خالٍ من التعابير، حال من يمتع نفسه بالدهشة.

أمام مدرسة القوز الأولية للبنين تقع مدرسة القوز الاولية للبنات، ويفصل بينهما شارع؛ وابواب المدرستين متواجهة، والويل كل الويل للتلميذ الذي تطأ قدماه النصف الاخر من الشارع حتى ولو عن سهو، مع أن أكبر تلميذ في المدرسة لا يزيد عمره عن ثلاثة عشرة سنة؛ إذا اعتبرناه ممن يعيدون السنة، ولكن بما ان معظم سكان القوز من أصول قروية وعائلات معروفة؛ فقد جرت قوانين الضبط والربط على هذا التحديد والالتزام به.

   المرة الوحيدة التي دخلنا فيها مدرسة البنات هي لحضور عرض لألعاب الدمى (الأراجوز)، وعروض سحرية قدمها خضر الحاوي، والد الملحن وعازف الاكورديون عبد اللطيف خضر، ملحن اغنية (يا زمن) التي يغنيها الفنان ابراهيم عوض، وقد قدم لنا عرضاً مبهراً في العاب الحواة والسحرة. اسطوانة تخرج منها حمامة لا أحد يدرى من أين أتت، ولولا أننا رأيناها تطير فوق رؤوسنا لكذبنا أعيننا، وكرة صغيرة يضرب بها الحاوي الأذن اليمني لأحد التلاميذ فاذا بها تخرج من اليسرى بيضاء من غير سوء، ومنديل ابيض مطرز يفرده امامنا؛ ويرينا رسم قلب أحمر في زاويته اليسرى ثم يقوم بحرقه في إناء؛ وبعرض رماده علينا؛ ويطلب منا ولزيادة اليقين أن نلمس الرماد، وبعد أن تيقنا تماماً من وفاة المنديل، قام الحاوي بفرك يديه وإذا بالمنديل المطرز وقد بعث للحياة من جديد، والقلب الأحمر في زاويته اليسرى ينبض بالحب وبالحياة.

  كان طلاب السنة الرابعة يقومون بتهريب مادة بيضاء اللون من معمل العلوم، (لاحظوا اننا نتحدث عن مدرسة اولية وبها معمل)، وكانوا يطلقون على هذه المادة اسم (كربون)، مع ان الكربون عموماً اسود، ولا أدري حتى الآن ماهية هذه المادة التي لها قابلية الانفجار عند الاشتعال، وعند اكتمال عملية تهريب الكمية المطلوبة كنا نتجمع ونسير في موكب اقرب للزفة ونختار موقعاً نحفر فيه حفرة في الارض بعمق 15 سنتمتر تقريبا؛ ثم نقوم بمزج هذه المادة بالماء داخل الحفرة؛ وبعد ذلك نضع فوق تلك الحفرة (كوزاً) عبارة عن علبة اناناس قديمة ونقوم بعمل ثقب في اعلاها، ومن خلال هذا الثقب نسقط عود كبريت مشتعل والنتيجة انفجار يقذف الكوز عشرات الامتار في الهواء؛ وسط صيحات الفرح بنجاح العملية.

  في احدى المرات كان اختيار الموقع سيئاً حيث تم تجهيز الحفرة عند احد اعمدة الكهرباء وتحت الاسلاك مباشرة، وطار الكوز ليصطدم بالأسلاك وانبعث نتيجة لذلك شرر كثير، سادت بيننا حالة من الذهول اعقبه فزع ثم تفرقت الزفة في ثوان وكل في اتجاه، والنتيجة كانت في هذا السباق أن (التقيل فات المهر العنيد).

   في صباح اليوم التالي للحادثة، شهدنا في الطابور الصباحي تجهيزات غير عادية ومجموعة من السياط قد أٌحضرت؛ وأن هناك أمر مريب يتم الترتيب له ولا أحد يدري من سيكون الضحية، قدم الناظر شرحاً للجريمة كما وصفها؛ ثم قُرئت الاسماء في الطابور، ولم ينفعنا التظاهر بالبراءة عند التحقيق معنا، ولا الحلف المغلظ بان كل واحد من كان في بيته عصر ذلك اليوم ولم يخرج منه، والنتيجة عشر جلدات من يد استاذ مادة الحساب احمد وهو اشول. وكان التلاميذ ينسجون روايات مخيفة عن الاشول؛ وأن اليد اليسرى بها قوة هي اضعاف ما لليمنى؛ وأن اليسرى هي يد الشيطان الباطشة، فكان كل واحد منا ينتظر دوره في العقاب وارجله بالكاد تحمله.

   لم تأت تحرياتنا للكشف عن الخائن بشيء مفيد؛ ولم نعرف أبداً هوية (يهوذا الاسخريوطي) الموجود بينا في المجموعة، والذي قدم قائمة الاسماء للمدرسة ولم يشفع له ذلك في اعفائه من العقاب. وكما حلفت المجموعة امام الطابور في المدرسة دون أن يرف لها جفن، فقد كان من السهل عليها الحلف في الشارع عند عمود النور موقع الحدث، إذ طلب زعيم المجموعة من كل واحد منا ان يحلف بانه ليس الذي خان الفريق، كان حلف الشارع اخف وطأة فليس المطلوب منك إلا أن تقول و(حياة ابوي) أو (حياة أمي) لإعلان البراءة، ولكن أحدنا؛ وبعد ان حلف بحياة أمه وحياة ابيه؛ تحمس فزاد كيل بعير، فقد حلف أيضاً بحياة جد من أجداده مدفون في إحدى القباب ومتوفى منذ قرون.

  في عصر يوم سمعنا دوى دلوكة واصوات غناء واحياناً صراخ؛ فانطلقنا نحو مصدر هذه الاصوات مستطلعين، وجدنا امرأة ضخمة عند الباب منعتنا من الدخول، فتوجهنا نحو الشبابيك. رأينا نسوة جالسات على الأرض يغنين على ايقاع الدلوكة وأخريات يرقصن بطريقة مجنونة ومرة بعد مرة تسقط واحدة منهن على الأرض مغشياً عليها، ورائحة البخور تملأ الجو.  عرفنا فيما بعد ان هذا حفل ظار. وبختني الوالدة على حضور حفل الظار وكانت حجتها أن احد الشياطين ربما يخرج من جسد واحدة من صاحبات الظار ويتلبسني، وهددتني بإبلاغ الوالد، فوعدتها بأنها ستكون المرة الأولى والأخيرة، ولكن شقاوة الطفولة كانت اقوى من أي تهديد؛ فما أن طرقت اسماعنا اصوات دلوكة اخرى قادمة من مكان ليس بعيد عنا؛ حتى طرنا لها انا ورفاقي من صبية الحي نتزاحم على الشباك الذي يؤمن رؤية أفضل، لكن عند مشاهدتي لامرأة تسقط غائبة عن الوعي راودتني الهواجس عن التلبس وأن ما ذكرته أمي قد يكون صحيحاً، فانسحبت راكضاً وجلست غير بعيد من المكان وأنا أحس بخطوات الشيطان تتعقبني، مرت امرأة شاهدت هروبي فوقفت وسألتني عن الأمر، نقلت لها مخاوف الوالدة وموضوع الشيطان، فقالت متهكمة:

- انت يا ولد شايف الشيطان دا مغفل؟

واردفت متعجبة:

- يعني في فهمك أنو الشيطان يخلي النسوان الشحمانات القاعدات هناك؛ ويجي يسكن فيك انت يا الكحيان؟

ثم أشارت بأصبعها نحوي وقالت:

- دا شكل واحد يدخلو شيطان؟

 اطلقت المرأة موجة من القهقهات الساخرة واستطردت موبخة:

- امشي يا وِليد اتلم على رفاقتك.. قاعد متكرفس زي قرد الطلح.

هذا المنطق الإغريقي كان بالنسبة لي مقنعاً وكافياً لإنهاء حالة الجدل الدائر في ذهني، فهرولت من لحظتي ازاحم المجموعة على الشبابيك متخلياً عن جلسة القرود؛ وأنا واثق من زهد الشياطين في امثالي.

   كان التلاميذ حين يوجه لهم المدرس سؤالا يرفعون ايديهم وهم يقولون: استاذ استاذ للفت انتباهه، وفي اول حصة لي في المدرسة وجه الاستاذ سؤالا للتلاميذ فرفعت يدي وانا اقول: فندي، فندي، وهي الكلمة التي كنا نستخدمها في القرية لمخاطبة الاستاذ والمحرفة من افندي، فجأة ران السكون على الفصل واتجهت انظار الجميع نحوي مندهشة، كانوا مستغربين لوجود كلمة اخرى غير كلمة استاذ تستخدم لمخاطبة المدرس. ويبدو أن  الاستاذ كان من الذين تنقلوا بين عدة مدارس وعمل في بيئات مختلفة لذا فقد نظر إلي نظرة طويلة فاحصة ثم قال متسائلاً:

- من عرب وين انت يا ابني؟

  نسف هذا السؤال جميع محاولاتي اللاحقة فيما بعد للانضمام لركب العاصميين والتشبه بهم، وكان اي تقليد من جانبي للسانهم أو مظهرهم يقابل بالسخرية والتندر. واضحت عبارة (من عرب وين انت يا ابني) ماركة مسجلة باسمي. ثم فقدت حقوق الملكية لهذه الماركة حين انتشر استعمالها بين التلاميذ وهم يغيظون بها بعضهم البعض، وكانت الامكنة التي يكثرون فيها من استخدام هذه العبارة ضدي، هي المحلات التي يباع فيها الزبادي والدندرمة (الآيسكريم)، ولكن  مهما كانت درجة السخرية من جانبهم فان التنقل بين مذاقي الزبادي والدندرمة الشهيين يجعلك تتغافل عن سخريتهم وتغني:

واغشى كنار الغاب في هدأة المرقد

وحدث الاعراب عن روعة المشهد.

    أحد الجيران كان القاضي عثمان عيسى، وهو من قضاة المحكمة الشعبية، وله سيارة لاندروفر ،كنا نتسلل لها ونضرب البوري ثم نولي الادبار، ولم نكن نعرف شيئا عن طبيعة عمله، ما عرفنا ذلك إلا بعد أن عدنا لديارنا في القرية وبعد مضى فترة طويلة، فحمدنا الله على انه لم تتح له الفرصة أبدا للتعرف على هوية من يقومون بهذه التصرفات الصبيانية، وكان التسلل للسيارة وضرب البوري ثم الهروب متعة لا تعادلها متعة.

    ولا نملك في الختام إلا أن نقول ما قاله ادريس جماع:

ذهب الصبا بعهوده ليت الطفولة عاودتنا.


nakhla@hotmail.com

 

آراء