رائحةُ البارود

 


 

 

خاطرة،

لم يكن ذلك اليوم يشبه ايام العاصمة المثلثة الانيقة. اشرقت شمس صباحه كالعادة، لكن اشعتها ابت ان تتسلل هذه المرة برقةٍ وعذوبة، عبر نوافذ بيوتها العامرة وعماراتها السامقة .. في صباح ذلك اليوم لم تغادر الطيور اوكارها، ولم يُسمع للعصافير تغريدٌ، ولا للقطط مواءٌ، ولا لأوراق الشجر حفيفٌ. يوم غريب استعصمت فيه السماء فجأة بجمالها وبهائها، وبعدت عن عشاقها وعن الجميع. صباحه اطل بوجهٍ عبوس، لم يهمس بحبٍ كعادته في آذان الاطفال، لكي يستيقظوا من نومهم وسباتهم العميق، وفي نهاره انعدم دبيب الحركة والنشاط في اوصال الشوارع والازقة والحواري، ولم تُسمع فيه اصواتٌ للباعة المتجولين، يعلنون عن بضائعهم واشيائهم. وفي مغربه لم يهنأ الصائمون بإفطارهم ولم تُسمع اصوات الملاعق تطرق اكواب الشاي وفناجين القهوة، وغابت عنه رائحة البخور، وحل محلها رائحة البارود. في ذلك اليوم سكتت امواج سليل الفراديس عن الهدير والصخب المباح .. وعند مسائه لم تحكِ الصديقة لصديقاتها عن حلمها الجميل بقدوم فارس احلامها المنتظر، ولم يلعب الاطفال ويلهوا مثل كل يوم، وخلت المساجد عن مرتاديها ومصليها، ولم تلتقِ الجارات ليتسامرن بعد صلاة التراويح. كان يوماً عصيباً، جمّد الدماء في العروق والشرايين، عندما انطلق صوت الرصاص والمدافع والدانات في كل مكان، وتلونت سماء العاصمة بسواد الدخان والحيرة والخوف. كان يوماً مشهوداً، اغرى وكالات الانباء وكاميراتها، لنقل البشاعة والفظاعة وكل ما لا يمت للانسانية بصلة، فاوفدوا مذيعيهم ومراسليهم وضجت شاشاتهم بالمحللين، والخبراء العسكريين واصبح السودان بين عشيةٍ وضحاها مادةً دسمةً على مائدة الاخبار العالمية، ثم توالت الايام والاسابيع والشهور، وتوالى معها جحيم الحرب والخراب والدمار والدماء، وارتفعت الاكف بالضراعة والرجاء، ولكن، ولحكمة يعلمها الله كشرت الحرب عن انيابها اللعينة، واختطفت من بين ظهرانينا اقرباء واصدقاء واحباء كانوا عشاق حياة في الامس القريب، وبناة آمال وطموحات عظام، لكن ارادة الله كانت امضى واسرع، وما انفك الموت ينشب باظفاره ومخالبه صباح مساء، ولم يستثنِ رضيعاً او شيخاً او شاباً او عروساً، وفر من العاصمة من فر، وبقي فيها على مضض من بقي والكل يمني النفس بعودة الامور الى نصابها والعقول الى صوابها بعد ان برز في قاموسنا اليومي مفردات جديدة، مؤذية وقاسية، يبدو انها ستمكث حيناً من الدهر، ريثما تجد طريقها الى الزوال.

(ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)...

malikmaaz@yahoo.com

 

آراء