ربيع السودان وحربه: هل ركبنا سبيل ليبيا وسوريا واليمن؟ (2-2)

 


 

 

(خيم شبح مصائر ليبيا وسوريا واليمن على تجربة الثورة السودانية في مخاض اسقاط نظام الإنقاذ وفي ما بعده. وبدت هذه الحرب القائمة اليوم مصداقاً لمن رأوا بعين زرقاء اليمامة أن التغيير في السودان سيهلك كما هلكت هذه البلدان. وأناقش في هذه الكلمة أن التنبؤ بهلاكنا، سعد، كما هلك سعيد كان مجرد فألً سيئً نجم عن مقارنات عرجاء لا تصمد أمام التحري الموضوعي. ونريد بهذه المناقشة أن نوطن هذه الحرب نفسها في الثورة ومطلبها في المدنية مبرأة من العسكرية المهنية وعسكرية الخلاء التي خرجت من رحمها. فالحرب الناشبة لم تقع خارج هذه المطلب الذي لم يعد له من راد. إنها المطلب نفسه تعتريه حالة عسيرة. وجاءت إليه المهنية العسكرية أخيراً لتستأصل ذنوبها التي ولدتها في طريقها الضال الطويل على دست الحكم قبل أن تعود إلى الثكنات: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل)

إذا كنت من بين من حذر السودانيين خلال ثورتهم في عام 2018 من مصير ليبيا وسوريا واليمن بعد ربيعها العربي، فدونك الحرب القائمة ليومنا حجة دامغة عليهم. فظل شبح خرائب التغيير بالثورة في هذه البلدان يخيم على خطاب الربيع السوداني، وبخاصة محاذير "نظام الإنقاذ" نفسه من تحويل البلد إلى مصائر هذه البلدان، إن أهلك السودانيون سلطانه. ويخيم الشبح الآن بالطبع بقوة بعد اندلاع الحرب. فالمبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي جفري فيلتمان، خلال عامي 2021 و2022، خشي أن تتحول الحرب في السودان "إلى أمر مشابه لسوريا أو ليبيا، مع فارق أنه سيحصل في بلد عدد سكانه أكبر بكثير". وعبر المدير السابق لمكتب المبعوث الأميركي للسودان كامرون هدسون عن مخاوفه أن يصبح السودان مثل "ليبيا تحكمه مجموعات من الميليشيات المسلحة، أو كسوريا".
واستعرضنا في الحلقة الأولى أوضاع الجيش في كل من ليبيا وسوريا لبيان فساد مماثلة أوضاعنا بهم. ونعرض هنا لأوضاع الجيش في اليمن لنخلص إلى الطعن في المقارنات العرجاء التي انعقدت عن مصائر الثورة بيننا وبين ليبيا وسوريا واليمن.

ضربت الثنائية القبائلية جيش اليمن منذ انتصار صالح في الحرب الأهلية في عام 1994، وحله جيش الجنوب اليمني. شرع بعدها في تقوية الحرس الجمهوري وبناء جيش العائلة مع التخطيط في عام 1991 لتوريث ابنه من بعده. فجعل رجالاً من قراباته في الدرجة الأولى على رأس الحرس الجمهوري تحت قيادة ابنه أحمد صالح، واحتلت قبيلته سنهان (واحد في المئة من السكان) الغلبة فيه.
ولم تلق إجراءات صالح في توريث ابنه قبول كل السنهان، فانقسم الجيش إلى مناصر لصالح وإلى آخر مناصر لعلي محسن الأحمر. فتكون جيش صالح من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب والقوة الجوية (بقيادة أخيه). وجعل قيادات كل هذه الوحدات لسنحان.
ولم يوفر صالح حيلة لإضعاف جيش الأحمر، فبعثهم ما بين عامي 2004 و2010 ليحاربوا الحوثيين بغية إهلاكهم. وأخلى الجيش من قواعد المأسسة ليفصله عن السلطة التنفيذية. وأضعف الجيش بحصره في صنعاء ليترك الأرياف لقوات قبائلية، مما عكس ضعفاً احتلت به إريتريا جزيرة حنش في ديسمبر (كانون الأول) 1995.
وجعل لنفسه حق تعيين أفراد الجيش وترقياتهم، وتوزيع الأسلحة على أفرعه، كما جعل لزعماء القبائل حصصاً في الجيش ينتخبون لها نفراً من عشيرتهم، بل اتسمت وحدات الجيش نفسها بالقبائلية. فتقوم وحدة خالصة لقبيلة يكون زعيم القبيلة أميراً عليها. وينطبق الأمر نفسه على جيش الأحمر. وأنشأ كل منها أحلافاً في الحركة المدنية السياسية مثل حلف الأحمر مع السلفيين.
ولما قامت الثورة على صالح في مارس (آذار) 2010 وقف الأحمر معها فحمى اعتصاماتها. وانتهى الأمر بمبادرة خليجية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 لإصلاح عسكري يوحد الجيشين.
القول إن للحرب الناشبة اليوم في السودان مآلاً سبقت إليه ليبيا وسوريا واليمن، ولم يتحسب له الربيع السوداني، لا يراعي الفروق بين السودان وأوضاع تلك البلدان السياسية والعسكرية. فواضح من استعراضنا لأوضاع هذه البلدان تباينها عن أوضاع السودان، فقد قامت الثورات في تلك البلدان وقد انتدبت نظمها الحاكمة جيوشاً قبائلية (اليمن وليبيا) أو عقائدية (سوريا) توطدت على حساب الجيش الوطني. ولم يشذ "نظام الإنقاذ" في البحث عن جيش آخر غير الوطني ليحميه من غوائل الهبات الشعبية عليه، أو حتى تمرد جيشه الوطني، ولكن "حكومة الإنقاذ" لم تبلغ بهذه العملية مبلغاً استضعف الجيش الوطني استضعافاً أخرجه من الميدان. فقامت الثورة في ليبيا عملياً بغير جيش لتسد الجماعات المسلحة مسده، كما فقد الجيش السوري نفسه خلال حربه ضد الثورة لتعلو الفرقة الرابعة عليه. وقامت الثورة في اليمن والجيش جيشان، سرعان ما تواجها، كل على طرف منها. فلم يقع في أي من هذه البلدان تحالف بين الجيشين، الوطني والميليشياوي، كما في السودان. فلقيت الثورة، الجيش السوداني والدعم السريع حليفين تعاطيا معاً مع سياساتها، بما في ذلك الانحياز لها مع تبييت النية للقضاء عليها، كما حدث أخيراً في انقلابهما على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وكان منتظراً اندلاع الحرب الدائرة اليوم حتى لو لم تقم الثورة، فركوب الجمل ذي السنامين غير مريح، كما قال ناظر الكبابيش. فكان السنامان في سكة تصادم لا محيص عنه. فالجيش من يومه الأول لم يقبل مهنياً بقوات الدعم السريع كياناً في داخله، ولكنه استسلم لوجودها خارج حوشه، نزولاً عند إرادة الرئيس المخلوع عمر حسن البشير الذي صار القائد المرجعي لها. فالدعم السريع، بحسب قانونه، لا يأتمر بأمر الجيش إلا في حالات الطوارئ. وظل محمد حمدان دقلو، مؤسس الدعم السريع، قوي الإيمان والعزيمة حتى قبل الثورة بأنه جيش ثانٍ لا ميليشيات تنطوي صفحتها يوم تسريحها. فموقفه من الدمج في الجيش اليوم كان موقفه دائماً. ولم يألُ جهداً في بنائه جيشاً يغالب.
لقد وفرت الثورة للجيش فضاءً سياسياً ليعالج مسألتين مؤرقتين له ولشعبه في سياق الإصلاح العسكري والأمني. فالمسألة الأولى هي مكوثه الذي طال سدى في الحكم، لنصف قرن منذ استقلالنا في عام 1956. أما المسألة الثانية فهي التخلص من جيش الضرار الذي قبل وجوده على كره. وكان شعار هذا الإصلاح "العسكر للثكنات والجنجويد، أي الدعم السريع ينحل".
ولكن لم يسمع الجيش من الثورة، بل عقد تحالفاً مضرجاً ضدها مع الدعم السريع، فوطنها على قدم المساواة في الترتيبات السياسة العاقبة للثورة، وغض الطرف عن دبلوماسية الدعم السريع واقتصاده اللذين راكم بهما موارد الحرب، وأذن له بمعسكرات موازية لمعسكراته، بما في ذلك منحه برجاً داخل قيادته العامة.
وتأخر طلب الجيش دمج قوات الدعم السريع، وحين فعل عرف أنها قوة لم تنشأ للحل، وإنما جاءت لتبقى. واضطره ذلك إلى خوض هذه الحرب الضروس دفاعاً عن أمانته الوطنية والمهنية التي كثيراً ما ضل عنها جزافاً إلى دست الحكم. ولا يدري المرء إن كان الجيش احتاج إلى هذه المحنة التي تحدق به ليعود أدراجه للثكنات في خاتمة الأمر: "كما كنت" في مصطلحه.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء