مقدمة ابن فيسدون: - القراء الأعزاء :بالأمس القريب لم نكن نسمع بالفساد في البلاد وخاصة من (يلهط) ولو القليل، كان من يفكر في اختلاس أو رشوة أو نحو ذلك يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على هذه الجريمة وترتعد فرائصه وتصطك أسنانه وركبتاه في صراع مع بعضها وينشف ريقه وتجحظ عيناه خوفا وهلعا ويرى الكون كله عيون تراقبه ويتصبب عرقه ويحسب كل صيحة عليه وبعد هذه الحرب الضروس بينه وبين أعضاء جسمه يحمد الله مليون مرة أنه لم ينفذ تلك الوساويس الخبيثة ويمشي في الطريق وهو يظن بأن ظله يراقبه علما بأن المبلغ الذي وسوس به لا يتجاوز عدة جنيهات.
- أما (لهط) هذه الأيام بمئات الملايين وربما المليارات وكأنه يشرب ماء بارد بعد عطش، ياترى من شجع المفسد وجعله يسرق وهو مطمئن هانيْ البال وضامن عدم المحاسبة؟!!
المتــــن: - هل نحن في هذه البلاد بحاجة إلى كل هذه الأجهزة الرقابية التي يناط بها الحفاظ على المال العام وكشف اللصوص الذين لا يردعهم وازع من ضمير أو أخلاق؟!.. وهل نجحت هذه الأجهزة القديم منها والجديد في قطع دابر اللصوصية والقضاء على السرقة والرشوة والاختلاس، أم أن التوسع في إنشاء هذه الأجهزة قد زاد من إمكانية السطو على المال العام وضاعف من جرأة الناهبين والمختلسين؟! .. وهل يستحق عصرنا الذي يتباهى بأنه عصر العلم والمعرفة الشاملة أن يسمى عصر اللصوصية المقننة والمنظمة بامتياز؟!!.
- هذه الاسئلة قد تصدم بعض القرّاء لكنها تؤكد حقيقة ثابتة في الواقع لا يمكن إنكارها أو التشكيك في جوهرها، ولها تجليات ومشاهد مخزية ومقززة في أكثر من مكان في هذا السودان المسروق حتى العظم، والذي يحكم فيه لصوص كبار وصغار يتدرجون في مستويات متفاوتة تبدأ من مستوى لصوص المليارات ولا تتوقف إلا عند لصوص الجنيهات.
- ومن لصوص الشعوب إلى لصوص الأراضي ، إلى الناقل الوطني، التقاوي ، مروراً بالأقطان وانتهاءً بسرقات لا يمكن لأحد التنبؤء بعدم استمراريتها وتشمل حتى المخازن والسيارات. والمحزن والمريع أن يتم ذلك وسط هذا المحيط من الكتابات والكلام الذي ينادي بالمصداقية والشفافية، وفي وجود عشرات الأجهزة الرقابية التي تمتد من البرلمانات ولا تنتهي بممثلي الأجهزة في الوزارات والمؤسسات والآليات، وفوق هذا وذاك ديوان المراجع العام، بالإضافة إلى السلطة الرابعة الممثلة في الصحافة ودورها الرقابي الذي من اختصاصه أن يفضح كل صغيرة وكبيرة، ولو قد امتلكت هذه السلطة المصداقية الكافية وسلمت من لعبة الدخول في المكايدات السياسية لكانت الرقيب والضمير الذي يغني عن هذا الكم الهائل من مراصد مكافحة الفساد وتوابعها المنتشرة في أكثر من موقع.
الحاشية: - و تقريراً أستطيع القول إنني تابعت ما دار في ندوات مكافحة الفساد على مستوى منظمات دولية دعيت لها وشد اهتمامي كل ما جاء فيها، خاصة خطاب رئيسها. ولا أختلف معه في كل ما قاله إلا في جزئية بسيطة وهامة تلك هي إشارته إلى أن آليات مكافحة الفساد لن تنجح في مهمتها إلا إذا تضافرت الجهود الإقليمية والوطنية، وذلك حلم بعيد المنال - كما قلت له في مداخلتي- لمحاربة تهريب المنهوبات، وقد يطول معه الانتظار في حين أن الواقع يشير إلى أن الآلية في بلادنا لا ينقصها سوى الثقة بالنفس والجرأة في مطاردة أوكار الفساد المعششة في مفاصل مرافق الدولة دون استثناء ، وإلقاء فقه السترة والتحلل في مزبلة اللآقانون!! .
- وعندها يكون في مقدور أي مواطن أن يحدد الخطوط العريضة لمكامن الفساد وركائزه، وما على هيئة الحسبة أو آلية محاربة الفساد إلا أن تبحث عن التفاصيل وتجمع الأدلة من خلال السؤال التاريخي من أين لك هذا؟ ويمكن أن تبدأ مهمتها العسيرة والسهلة في آن بوضع قضايا الأراضي وتملكها أو السطو عليها، وقضية سودانير وخط هيثرو وشركة الأقطان والبذور المضروبة .. وهلم درا... وفي ذلك ما يثبت وجود الهيئة ويؤكد فعاليتها وستجد حينئذ كل ما تحتاج إليه من دعم رسمي وشعبي، ولكننا لم نسمع لها أي حس رغم مل البلاوي المتلتلة التى هي حديث المدينة!!
- أقول أن عليها ألا تشغل نفسها وأعضاءها بمتابعة اللصوص الصغار وإن كان الضرب على جميع اللصوص من أوجب الواجبات، لكن إنشاء الالية قد جاء لما هو أهم من لصوص الليل المقدور عليهم، وكان الهدف الواضح من ذلك الإنشاء متابعة لصوص النهار.
- ولعل ما يبعث على القلق، وربما على اليأس أن سؤال الشارع اليوم، لم يعد من أين لك هذا؟ بل صار: لماذا ليس لك هذا؟ والسؤال صيغته الأخيرة يثير القلق وربما اليأس لمجموعة أسباب ، منها أن الفساد في السلوك لم يعد مثار احتقار واستهجان من المجتمع، بل صار محل إعجاب وتقدير لمسئول يكوّن ثروته من الكسب الحرام، ولم يعد ذلك المكافح الصبور والدؤوب الذي يكوّن ثروته من عرق جبينه ومن الحلال النموذج الذي يحرص عليه المجتمع ويدعو إلى محاكاته، وإنما اللصوص الشطار هم النموذج المطلوب.
- وذلك دليل على هزيمة الأخلاق وتدهور القيم وموت الضمير الجمعي الذي كان في أقسى الظروف وأشدها يمثل المرجعية الرادعة لكل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء التلاعب بالحقوق أو الانحراف عن جادة الصواب.
الهامش: حقاً إن ابداع المفسدين في استنباط أنماط من الفساد الذي يُسخر الفقه في مصلحته ، أمر حير الفقهاء والعلماء والجهلاء معاً، وحتى ابليس شعر بأن التنفيذيين في السودان أعجزوه " فاتركن على الرف" واصبح من المتفرجين وبدلاً من أن يلعن البشر إبليس ، أصبح ابليس يلعن البشر خاصة جماعتنا بتاعين فقه السترة والتحلل!!
بس خلاص .. سلامتكم ،،،،،،
zorayyab@gmail.com
////////////