تقديم: السطور التالية هي ترجمة مختصرة لجزء من مقال نشر في عام 2006م بالعدد الرابع والثلاثين مجلة الدراسات السودانية (التي تصدر في بريطانيا)، بقلم البروفيسور جبرائيل واربيرج عن حدث نادر في تاريخ السودان، والمنطقة بشكل عام، ألا وهو زيارة مغامر أوربي يهودي الديانة لمملكة الفونج ولسلطانها عمارة دنقس. وكان المقال قد قدم أيضا في المؤتمر السنوي لجمعية الدراسات السودانية في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة في صيف عام 2003م. وكانت تلك الزيارة موضوعا لمقال مشهور نشر عام 1933م بقلم المعلم والإداري البريطاني (اليهودي) سيلجمار هيللسون في العدد السادس العاشر لمجلة "السودان في مذكرات ومدونات". وهنالك أيضا مقالة للبروفيسور عبد الرحيم محمد خبير عن هذا الرحالة، تجدها هنا: http://www.sudaress.com/alsudani/6154. أما كاتب المقال فهو من مواليد برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان "الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان "، وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري "، وكتب أخرى، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات هذا الكاتب. المترجم ***** ***** ***** شد اليهودي المغامر ديفيد روبيني (روفيني) الرحال إلى سنار للقاء سلطان الفونج عمارة دنقس عام 1523م. وكانت زيارة رحالة أوربي لتلك السلطنة الإفريقية البعيدة العصية القياد، التي لم تثر اهتمام أي رحالة أوربي أو من دولة أخرى من قبل، أمرا مثيرا للدهشة. وقدم ديفيد إلى سنار قادما من مكة، وهو أمر مثير للغرابة إذ أن الرجل لم يكن مسلما. من حسن الحظ أن ديفيد روبيني احتفظ بيوميات ضافية عن مغامرته تلك كتبها بلغته العبرية. وحفظت أصول تلك المذكرات في أكسفورد، بيد أنها اختفت في عام 1867م. وبعد عقدين من ذلك التاريخ قام نيوباور في أكسفورد بتحرير ونشر بعض نصوص تلك اليوميات. ولم يكن معلوما تماما عما إذا كان ديفيد روبيني يهوديا ألمانيا (كما زعم نيوباور)، أو أن المخطوطة التي تركها لم تكن إلا تسجيلا خطيا لشهادة شفهية أدلى بها الرجل بلغة أخرى، وقام يهودي ألماني بتسطيرها بلغته.
ولم يهتم هيللسون بكون أن ديفيد روبيني رجل مغامر ودَّعِيُّ، أو أنه كان عضوا في حركة شلومو مولوخو المسيانية اليهودية Shlomo Molcho’s Jewish messianic movement ، كما زعم مؤرخ يهودي بارز هو جراتز، بل انصب جل اهتمامه علي التأكد من صحة ما رواه ديفيد في وصفه لسنار ومملكة الفونج، وعما إذا كانت ملاحظاته يمكن أن تعد بحق إضافة إلي ما هو معلوم سلفا عن تلك البقاع. ويجب لفهم يوميات ديفيد روبيني جيدا أن نضعها في إطارها ومضمونها التاريخي الصحيح. وينبغي كذلك ملاحظة أنه، عقب محاكم التفتيش الإسبانية ونفي اليهود من مملكة فيردناند وإيزيبيلا، نشأت حركات يهودية عديدة في أوساط يهود الشتات، خاصة في البرتغال وإسبانيا، وكذلك في أوساط اليهود الذين بدلوا دينهم بالمسيحية (وعرفوا بالمارون). غير أن ديفيد روبيني لم يعلن عن أنه مسيحي قط، إلا أنه ارتبط بصورة ما ببعض تلك الحركات اليهودية وبخاصة بجماعة شلومو مولخو المسيانية اليهودية. وكانت تلك فترة صراعات دينية وثقافية في أوروبا، خاصة بعد طرد المسلمين من غرناطة بإسبانيا في عام 1492م. لذا فلقد سادت حينها عند بعض الأوربيين تطلعات ومحاولات للتمدد شرقا بغرض إزاحة الإسلام من بعض تلك المناطق، وللحصول علي عون البرتغاليين والإسبان في إعادة تحقيق حلم اليهود بإعادة توطينهم في أرض أجدادهم الأَوَّل. ولم يلتفت هيللسون في ورقته الشهيرة عن ديفيد روبيني إلى المواضيع الخلافية في أصل وديانة الرجل، بل ركز على زيارته لسنار وقرر أن معلومات ديفيد عن سنار في عام 1523م تبدو دقيقة، ولم تكن لتتأتي له دون أن يكون قد ارتحل شخصيا إلى ذلك الصقع البعيد. وقدم ديفيد إلى سنار من مكة منتحلا شخصية شريف من مكة (أي من نسل النبي محمد). ويفسر ذلك الحفاوة الكبيرة والشرف العظيم الذي أسبغه الناس عليه في مملكة الفونج الحديثة العهد بالإسلام، وكان عمارة دنقس يعامله وكأنه شيخ صالح (في الأصل "قديس". المترجم). وزعم ديفيد روبيني أنه ابن للملك سليمان، وأخ للملك جوزيف والذي كتب عنه أنه "يحكم في مملكته في صحراء خابور khabor (خيبر ببلاد العرب؟) نحوا من 300000 نسمة ينتمون لثلاث من القبائل اليهودية العشرة الضائعة". وزعم ديفيد أن أخاه الملك جوزيف قد أمره بالتوجه إلي روما للقاء البابا. وكتب الرجل أنه ترك من كانوا معه وقطع صحراء "خابور" وحل في جدة بعد مسير عشرة أيام. بعدها ركب ديفيد روبيني البحر الأحمر علي ظهر مركب صغير رسا به في سواكن في أرض "كوش" حيث اكْتَرَى لنفسه دارا أقام بها شهرين متتابعين مع خادمه العجوز الأبكم الأصم. ثم التحق الرجل بقافلة تجارية مكونة من ثلاثة آلاَف من الإبل متوجهة لشيبSheba . واستغرقت الرحلة شهرين كاملين. وعند وصوله لسنار قابل ديفيد روبيني الملك عمارة دنقس (1504 – 1533م). وسجل الرجل في يومياته أن عمارة دنقس " يسكن دارا على ضفاف النيل، ويسمي مملكته شيبا وعاصمتها لامول (Lam'ul)، وهو رجل أسود اللون يحكم أناسا سودا وبيضا. وذكر هيللسون في مقاله عن ديفيد روبيني في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" المنشور عام 1933م أن لامول هذه تقع على النيل الأبيض على بعد مسيرة ثمانية أيام جنوب سنار. وقدم ديفيد نفسه لعمارة دنقس على أنه "شريف من مكة"، فغمره بهدايا عديدة وأجزل له العطاء ومنحه الكثير من الرقيق. غير أن ديفيد تأبَّى عن قبول الهدايا وقال لدنقس إنه إنما جاء لمملكته بغية التعرف على مباهجها وليس من أجل أي غرض آخر. وصرم ديفيد روبيني عشرة أشهر في ضيافة عمارة دنقس في لامول، حزم بعدها حقائبه على عجل مع خادمه العجوز وسافر إلى سنار والتي وصلها بعد مسيرة ثمانية أيام. وقيل إن السبب في رحيل روبيني العجول هو وصول "شريف مكي" ثالث أَسَرَّ لعمارة دنقس بأن ديفيد رجل يهودي وَّدعِيُّ محتال. وعزز من شكوك الفونج في دعوى الرجل أنه من "أشراف مكة" أن لهجته العربية كانت هي لهجة المغرب العربي وليست لهجة أهل المشرق. وفي سنار قابل ديفيد روبيني وكيل الملك وأسمه عبيدة (هكذا وردت. المترجم)، والذي زوده بخادم آخر وثلاثة جمال ورافقه في رحلة إلي الشريف "أبو كمال" في سوبا عاصمة مملكة علوة التي كانت مسيحية قبل قيام سلطنة الفونج. وعند وصول ديفيد لسوبا كانت المدينة أطلالا مخربة. حكى الرجل عن لقاءه بالشريف ابي كمال فكتب في يومياته: (قابلني الشريف وبادرني بالقول " كيف تأتي من الملك خالي الوفاض من الهدايا والعبيد؟ ستبقى أنت هنا، وسأسافر للملك وأطلب منه نيابة عنك منحك عددا من العبيد". وافقت على العرض، بيد أني رأيت في منامي تلك الليلة والدي الراحل يحذرني من أبي كمال ويأمرني بمفارقته بأعجل ما تيسر، وإلا سألقى حتفي دون ريب." وهكذا ما أن أصبح الصبح حتى رحل ديفيد من سوبا دون انتظار أوبة مضيفه. اتجه ديفيد روبيني من سوبا (والتي ذكر هيللسون أنها تقع على بعد 165 ميلا شمال سنار) شمالا عبر مملكة الجعليين إلى أن بلغ "جبل التقي؟ Ataqqi " (ذكر هيللسون أنه لم يستطع الاستعراف على تلك البلدة) حيث قابل حاكمها وأسمه عبد الوهاب. ثم واصل ديفيد رحلته إلى دنقلا حيث اشترى لنفسه عبدا آخر. ورافقه عبد الوهاب حتى طرف الصحراء إلى أن وصل النيل حيث يقطن أعداء عمارة دنقس. ورحب هؤلاء بروبيني واحتفوا به أشد الحفاوة. وبعد ذلك آب عبد الوهاب لبلدته وترك ديفيد مع مستضيفيه الجدد من كبار رجال "الإسماعيلية" الذين وعدوه بإيصاله لمصر في أمان. ومما يستوجب النظر فيما سطره ديفيد روبيني في يومياته أثناء إقامته مع مستضيفيه الجدد (من المصريين؟) أن وفدا من قبيلتين من "القبائل الإسرائيلية الضائعة" زاره وأهدى له زوجا من أشبال الأسود. ويقول هيللسون أن ما أورده ديفيد عن "القبائل الإسرائيلية الضائعة" إن هو إلا محض أساطير وخُزَعْبِلَات ذاعت في تلك الأيام. وأخبر كبير رجال "الإسماعيلية" روبيني أنه رتب له مرافقة قافلة تجارية مغادرة لمصر إذ أنه كان يرى أنه من الخطورة بمكان أن يسافر لمصر في رفقة عبدين فقط. وللمصادفة الغريبة هرب خادمه الجديد في ذات اليوم فأبى روبيني السفر لمصر دون عبده الآبق، حتى في رفقة آمنة وسط قافلة كبيرة، وطلب من كبير القوم البحث عن عبده الهارب. وبالفعل سرعان ما تم العثور عليه، وأعيد لسيده. وترجاه العبد أن يعفوا عنه وألا يؤذيه. وسجل روبيني في مذكراته أنه ما أن أعطاه العبد ظهره، حتى قيده بسلاسل الحديد حول عنقه وقدميه! في الرابع عشر من شهر كسيليف (بحسب التقويم العبري، ويقابل أكتوبر) من عام 1523م عبر ديفيد روبيني ورفاق رحلته الصحراء ووصل ريف مصر مع مرشد له يسمي شالوم. وقضى ديفيد أياما في بيت مرشده إلى أن تم تجهيز مركب نهري له حمله إلى القاهرة. تعليق المؤلف علي اليوميات فيما عدا ما سطره ديفيد روبيني عن زيارته لعمارة دنقس ومقابلته للبابا في روما، والتي يبدو أنها دقيقة إلى حد بعيد، فإن مخطوطة روبيني تخلو تماما من أي شيء يثير الاهتمام. وتجدر الإشارة إلى أن عالما في القدس (اسمه أ. إشكولي) ذهب في مقال له عام 1938م إلى أن كل ما سطره ديفيد روبيني إنما هو من نسج خياله، أو منقول مما كتب حينها عن تلك المناطق. وأضاف أيضا أن ما زعم أنه سَجْل بما سطره ديفيد روبيني في يومياته إنما هي مخطوطة مزيفة تم وضعها لأسباب سياسية محضة. وذكر آخر أن أغراض ديفيد روبيني من رحلته تلك كانت سياسية وعسكرية، وأَوْرَدَ آخر أن أغراض روبيني من رحلته تلك كانت سياسية وعسكرية، شملت شراء أسلحة وتدريب اليهود المنفيين من إسبانيا والبرتغال، وإرسالهم شرقا عبر القرن الإفريقي لمحاربة الأتراك. وذكر بعض المؤرخين أن روبيني قابل الملك يوحنا الثالث في الحبشة وطلب منه تعبئة أحباش اليهود ومدهم بالأسلحة البرتغالية من أجل القتال في سبيل وطنهم وأرض أجدادهم التاريخية، وعد بعض المؤرخين ذلك القول بأنه كان أحد "أحلام" روبيني. وثار جدل كثير في أوساط المؤرخين حول نهاية ديفيد روبيني. فقد قيل إن الرجل قد تم إعدامه حرقا بناء على أوامر محكمة في إسبانيا في الثامن من سبتمبر 1538م. لقد كان الرجل نتاجا طبيعيا لعصره، فقد كان مثالا لليهودي الذي يتوق لإعادة اليهود لأرض أجدادهم التاريخية وإنقاذهم. وقد يفهم من تتابع تلك الأحداث أن ما قام به من ادعاءات وانتحال لشخصيات إنما كانت "أحابيل" قصد منها تحقيق حلمه "المقدس". ولعله قصد من حكاية القبائل اليهودية العشرة الضائعة التي كان يروجها يهود إثيوبيا، الذين تلف أصولهم غلالة كثيفة من الشكوك.