رحلة عمل في وطن يحتضر

 


 

 



[maristan1982@gmail.com]


العام 2007 أحمل حقائبي وأتوجه إلى مدينة الأبيض للعمل كطبيب خدمة وطنية في وزارة الصحة الولائية ,, في مكاتب الوزارة ولأنني لست من أبناء الولاية  تم توجيهي لمستشفى حمرة الوز الكائن شمال ولاية شمال كردفان  , بعد تردد قصير حملت حقائبي وتوجهت إلى السوق حيث المواصلات العامة ,, علمت بأنني يجب أن أذهب إلى مدينة جبرة الشيخ أولا نظرا لعدم وجود مواصلات مباشرة ,, ركبت السيارة رباعية الدفع  برفقة بعض المواطنين ووصلت إلى جبرة الشيخ بعد رحلة مرهقة في الصحراء  كانت السيارة تصعد وتهبط  في الكثبان الرملية الشديدة  الوعورة ,,
المدينة الصحراوية  شديدة الفقر وبها مستشفى متهالك  ومكاتب حكومية تتراص  بها سيارات حديثة الطراز كما أن مكاتب الزكاة والضرائب تعمل  بنشاط ملحوظ ,, قضيت تلك الليلة في مسكن أطباء المستشفى  ,,
في اليوم التالي توجهت إلى حمرة الوز برفقة بعض أهالي القرية , ركبنا سيارة الهايلوكس القديمة  وأكرمني الجميع  بإصرارهم علي ركوبي في المقدمة ,, في الطريق ترى رعاة الإبل والضأن يتجولون بقطعانهم  وهم في فقر مدقع , وقد مررنا بدونكي – بئر – ماء يأتيه الرعاة ليسقوا مواشيهم  ,,
وصلنا حمرة الوز وهي قرية صغيرة معزولة  في الصحراء  يجتاحها الزحف الصحراوي من كل الإتجاهات ,,  الناس طيبون جدا ولا يعرفون من الحياة  سوى قطعانهم وتجارتهم وأقصى رحلاتهم مدينة الأبيض ,,  مستشفى القرية بنته منظمة  إيطالية  في عهد النميري لخدمة  العرب الرحل وهو في غاية المتانة والتنسيق ومخطط  بشكل جيد ,, المستشفى ضخم وبه غرفة عمليات ومطبخ ومكاتب إدارية ومكاتب تمريض ومساحات  وممرات  فسيحة  بين العنابر ,, تفاجأت بهذا الصرح الجميل  في هذه البقعة البعيدة  ,,  لكن تعرض المستشفى لإهمال شديد واجتاحه الزحف الصحراوي من كل مكان وتوغلت الرمال في العنابر والأسوار الداخلية والخارجية  للمستشفى ,,  جائت إحدى شركات الفساد لعمل صيانة لغرفة العمليات  فزادت من مشاكله وكان الغبار والتراب يجد طريقه لغرف تبديل الملابس والغسيل وحتى العمليات  فالغرض لم يكن الصيانة ولكنه الفوز بأموال المناقصات ,,
في حمرة الوز لا كهرباء ولا شبكة مياه ولا طرق مسفلته ولا اتصالات ولا مواصلات ولا جرائد ,, لا شئ ,, تحس بعزلة لا متناهية ,, هناك مولد كهربائي في المستشفى ولكنه كثير الأعطال ,, المختبر بدائي  ولا توجد سيارة للإسعاف , لا يمكن ممارسة طب حديث في هذا المكان لذا  قررت الرجوع وعدم مواصلة العمل , أخبروني بأنه لا يمكنني العودة  سوى في يومين من أيام الأسبوع  فاضطررت للإنتظار ,,
خلال انتظاري طلب مني المساعدة في حالة ولادة لإحدى السيدات من العرب الرحل ,, استخدمنا نور مصباح يدوي لتوليد تلك السيدة ,, وفي يوم آخر استدعيت لمعالجة إحدى حالات الإجهاض , ذهبت وأجريت عملية تفريغ للرحم وأيضا باستخدام مصباح كهربائي  تحت إجراءات تعقيم غاية في البساطة ,, لا توجد وسيلة إتصال سوى هاتف ثريا يملكه شيخ القرية توفره له الحكومة لأغراض أمنية ,,
تركت القرية وفي قلبي حسرة لحال أهلها الطيبين  ,, وفي طريق العودة غرزت سيارتنا رباعية الدفع في أحد الكثبان الرملية وبعد جهد جهيد خرجنا من تلك الرمال بفضل مهارة السائق وتمرسه على مثل هذه المواقف ,,  توجهت لقرية قريبة لشرب بعض الماء ,, وجهتني إحدى النساء لإحدى الأزيار  ,, لم أستطع شرب ماء ذاك الزير نظرا للملوحة العالية  للماء  ,, لقد اعتاد الناس هناك على ذلك ,, وعندما يقال بأن منطقة ما بها نسبة عالية من مرض الفشل الكلوي  يحتار المسؤولين في جهل مصطنع  !!
في الأبيض تشاجرت مع المسؤول في وزارة الصحة الولائية وأخبرته بأنني لا استطيع العمل في مثل هذه الظروف شديدة السوء وقلت له بأن الله سوف يحاسبهم على إهمال هؤلاء المساكين  ,, لم يعبأ كثيرا لحديثي المتفلسف ذاك وسلمني خطابا يفيد برفضي غير المبرر للعمل  توجهت به نحو الخرطوم  ,, حيث الرئيس ينوم  والطيارة تقوم  ,,  
..
خروج ..

هاهم اللآن
يقيمون صلاة الشكر فى ظل الحراسة
ثم يضفون على الجالس فى ظل العرش
أساطير القداسة
وتردى وطن الاغنية الخضراء
في جوف التعاسة
وجه من هذا الذى أرهقه الجوع
وإفلاس السياسة ؟؟
كجراى .

د. مشعل الطيب الشيخ .

 

آراء