رحل شيخنا الذي يحسن الصلاة

 


 

 




من أعظم وأرق ما قيل في رثاء الثورة المهدية كلمات الشاعر المادح ود سعد يو م صدح بعيد معركة ومجزرة كرري ، وهو يودع دولة غربت شمسها بعد سطوع ، ويسكب دمعاً غزيراً ، إنابة عن أم درمان الحزينة المستباحة من جيوش كتشنر يومذاك ، ولأنه صوفي ومادح فإن أشد ما آلمه ليس زوال الملك السياسي ، ولكن زوال الجماعة والقيام والصلاة في مسجد الخليفة الجامع ( والزول بونسه غرضه ) ،  فصاح حزيناً :
السادة الخيرة فاتوني             وبقيت في حيرة
( دوب ) لصلاتهم.                و( دوب ) لصيامهم.        
( دوب ) لإمامهم.                   وصلاة قيامهم

و ( دوب ) مفردة سودانية ناجعة وشافية  في بث الأشواق والحنين ، وما ألطف حنية أهل السودان ، وما أفعلها في إثارة المواجع والشجون

تذكرت كلمات ود سعد وأنا أتلقي كالصاعقة نبأ وفاة أستاذ الآجيال العالم المؤرخ السوداني الكبير البروفسير بشير كوكو حميدة ، أستاذ التاريخ بالجامعات السودانية ، ومؤلف مناهج التاريخ للمرحلة الثانوية ، والمرجع المهم البارع  في تخصصه  .
لقد كانت طريقة علمي بالوفاة هي الأخري مفاجئة وأليمة ، ذلك أنني ظلت أحدث نفسي بزيارة للأستاذ  منذ ما يزيد عن العام ، ولكن طاحونة المشاغل الخاصة والعامة ، تؤجل كل شيئ  مرة بعد مرة ، وطالما مررت قريباً من داره بحلفاية الملوك  في ساعات متأخرة من الليل وأنا عائد من الأهل في  قرية الكباشي ، فألقي عليه من البعد تحيةً ، مضمخةً بذكريات عزيزة معه ،  ولكن الساعة المتأخرة من الليل تجعل الزيارة دائماً مؤجلة  إلي موعد جديد لم يتم أبداً ، كيف والرفقاء دائماً جاهزون بالعبارة الصحيحة الصعبة ( وهل هذا وقت للزيارة ؟؟) .
ولكني عزمت مؤخراً علي الزيارة  وفي رفقة الصديق الشيخ ابراهيم طه المصباح الكباشي ، ولما طرقنا الباب جاءنا الرد المصيبة من  الأحمدي صاحب دكان النجارة المجاور لمنزل الأستاذ ، لقد رحل الشيخ !!!!!؟؟؟؟!!!!
نعم غادر الشيخ دنيانا إلي رحاب الله ، ليلحق بزوجته التي سبقته ، والتي لم يذق بعد رحيلها طعماً للعافية  ، وكان رحيله في السابع والعشرين من شهر رمضان الماضي  ونحن يومها في العمرة بمدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم .
قال محدثنا لقد بكت علي الرجل الأرض بدموع الرجال و النساء ، وبكت عليه السماوات بغيث مبارك نعاه إلي أهل الأرض ، وبشر به أهل السماء ، قلت لاعجب ، لا عجب ، لا عجب .  
نعم لا عجب أن تحزن لفراق أمثاله الارض ومن فيها ،  وأن تستبشر بقدومه السماء  ، وسأحدثكم عن السبب الذي بمعرفته يبطل العجب  .
لم أتعرف علي الرجل مثل الآلاف  في قاعات الدرس بالجامعة ، ولكن كان اسمه يزين غلاف كتاب التاريخ بالمدارس ، وكنا ذلك دائماً مصدر فخر لنا في مدارس حلفاية الملوك ، كان مثيراً في سننا الصغيرة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، أن تجد اسم شخص مطبوعاً علي كتاب المدرسة ، ثم تراه كل يوم ٍ مساءً في الحي ، ولكن سبب تعلقنا الأهم بالبروفسيور بشير كوكو كان مختلفاً جداً ، لقد كان الفقيد يصلي وبإنتظام لاينقطع أبداً في مسجد المغربي الشهير بحلفاية الملوك ، وهو نفس المسجد الذي  كنا نصلي فيه ، و الذي شدنا وكل جيلنا في الرجل إنه كان يصلي بطريقة مختلفة ومتميزة عن الآخرين ، سواءً كان إماماً للناس أو منفرداً ، كانت تعجبنا وتجذبنا صلاته التي كان يحسن ويطيل ركوعها وسجودها ، كنت أسترق النظر إليه فأراه يصلي صلاة أشعر بأنه يستمتع بها متعةً تتعداه إلي من حوله، كان الشيخ حينما تراه راكعاً أو ساجداً ، تحس بأنه يستمتع  كجائع ٍ أمامه طعاماً شهياً  ، أو كمن هو مستغرق في رؤية منظر بديع ، أسره بكلياته ، أو كمستأنس مع حبيب لا يملك أن يصرف عنه النظر أو يقطع معه الحديث . شفتاه حينما تتحرك بالتسابيح والدعاء كأنما يتذوق حلوي لذيذة يحرص علي إستبقائها بالفم متعة وتذوقاً وتشهياً ، مهما شرح الشراح للحديث ( وجعلت غرة عيني في الصلاة ) فإن صلاة بشير كوكو العملية هي الأرسخ عندي ، ومهما برع الخطباء في تأويل  ( أرحنا بها يا بلال ) فإن راحة بشير كوكو في صلاته وبها تفيض عليه وعلي من يراه ، فياله من مصلي  بليغ !!!  
كانت صلاة الشيخ لوحةً طبيعية نستمتع بها ، ونعجب كيف يجد هذا الرجل كل  هذه المتعة في الصلاة ، ونحن نكابد الإنتظام ومجاهدة السهو والشرود ، والسعي للسكينة والخشوع  و التذوق  ولكن نشعر دائماً بفارق كبير بين صلواتنا وصلواته  ، وإيم الله إني مازلت أمني النفس بصلاة كتلك التي وهبها الله للراحل المبارك ، ولكنه مشروع ننتظر أن يمن به علينا واهب النعم ، الرزاق ، المنان .
لم يكن الرجل يحدث الناس في المسجد كثيراً ، وإذا تحدث لا تكاد تسمعه الا بمشقة من  فرط إنخفاض صوته ، شيمته الصمت والإطراق ، والحياء  ، نظره إلي الأرض أكثر من نظره إلي السماء كما هو وصف قدوته سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ، جم الأدب  وهو ربما من أكبر المصلين سناً ، لا أكاد أستبين من كلامه الا القليل من شدة خفوت صوته  ، ولكن مثل هؤلاء لا يحتاجون إلي كلام ليبلغوا رسالتهم إلي الناس ،و  لينتفعوا بها ، تعلمنا منه عن الصلاة ما لم نجده في كتب أو دروس ، أو خطب الفصحاء ، وتعلمنا الدرس الأهم ، إن القدوة الحسنة والقبول الرباني ، وقبل ذلك الإخلاص  لله هي أبلغ من كل لسان وبيان ، مع إن الرجل كان من أهل البيان والعلم ، والمختصون في التأريخ يعلمون ذلك عنه ، بل ويعلمه طلابه الكثر ، وتشهد به مؤلفاته وأبحاثه الجهيرة .
لقد جاء الراحل الي حلفاية الملوك من الباوقة شمالي مدينة بربر ، وعاش أول حياته أيام طلب العلم في رحاب جدنا المبارك الشيخ الأستاذ  مصطفي الملثم ، خال والدنا وأحد أهم أعمدة التعليم الحديث ومؤسسيه في مدينة الحلفاية ، ولكن بروفيسور بشير كوكو قد إندمج في مجتمع الحلفاية بالمساكنة والعشرة الطويلة الدافئة ، فهو بعض حلفاية الملوك وهي وطنه مع الباوقة الجميلة .  
العزاء لأهله وأرحامه وأبنائه وأحفاده  وتلاميذه وعارفي فضله ، ولوطنه الأول والثاني، ولمنابر العلم وقراطيس المعرفة ، ومحاريب الصلاة ومساجدها الحزينة
إن كان أحد السلف نعي أحد العارفين  قائلاً : ( رحم الله إمامنا فقد كان يحسن الوضوء ) فإني أقول : رحم الله بشير كوكو حميدة فقد كان يحسن الصلاة    .

osman kabashi [osmankabashi@hotmail.com]
////////////

 

آراء