(1) كنتُ أٌعد تفاصيل المُغادرة . فمنتصف التسعينات من القرن الماضي لهبٌ يتوهج بالممنوعات .استحالت الدُنيا يد تقبض على كرة من الشوك والدماء تنـزف . اتفقت مع الغفير العم (عثمان ) ليكن وزوجه حُراساً لمن تبقى من الأسرة الممتدة بعد مغادرتي ، والجرو الصغير ( كيوة ) حارساً مُستقبلياً يُبعِد الغرباء . بيني وبين مُغادرة الوطن إلى المهاجر أسبوع زمان لا غير. (2) على الطرف الثاني من المدينة المجاورة ، توقفت سيارة فاخرة و هبط منها ثلاثة أفراد أمام بوابة السكن الجامعي الخاص بابن خالي ( أسامة ) و كان حينها مُعلماً بالجامعة . أُغلقت السيارة وطرق أحدهم باب الدار . فُتح الباب وبترحابه المُعتاد استقبلهم : ـ شيخ ( الأمين ) عندنا !..أهلاً بك . على أحضان الود هبطوا على الجسد النحيل الواحد منهم يتبع الآخر . قبَّل الشيخ جبين ( أُسامة ) بمعَزَّة ، ثم إلى غرفة الصالون جلسوا جميعاً. الوقت من بعد صلاة العِشاء . الميعاد تحدد منذ يومين ، وتم التأكيد عليه صباح اليوم . من بعد احتساء شاي الضيافة استأذن رفيقا شيخ ( الأمين ) ، وادعيا أن لهما موعداً ثم خرجا . بقي شيخ ( الأمين ) و ( أسامة ) في خلوة لوحدهما ، وبدأ الحديث الخاص : (3) تخير شيخ ( الأمين ) مقعداً وجلس مواجهاً ( أسامة ) . أمسك يديه ، اليمين باليسار واليسار باليمين ، والعينان يُنظُران برقة ودفء ، وبود تحدث مبتدئاً : ـ قُل بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أفضل المُرسلين . تبعه ( أسامة ) في مَقالته . علت نبضات القلب . رهبة وسكينة ، وعينا الشيخ الأمين لا تُفارق صاحبه ، تتفرس الوجه النضيد ، حَسَن الصورة . قال الشيخ : ـ أمس الأول كنتُ في حُلمٍ رباني عجيب ، أللهم املأ صدري ومَكنِّي أن أقول لك ما وددتُ قوله . لقد سُررت برؤية أعظم الخلق في المنام . مُناي أن يصطفيك المولى مثلي برؤية الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام . تقلبت عينا ( أسامة ) ثم تحركت شفتاه : ـ اللهم صل وسلم وبارك عليه ، في انتظار وعدك ربي . قال الشيخ : ـ ما أعجب الدُنيا ، وما أعجب أن يسألني النبي الكريم عنك في حضوره بهياً لمنامي . دون معارفي كلهم خصكَ أنت بتحيته وبعثني اليوم إليك . توهجت عينا ( أسامة ) وهو ينظر و استطرد الشيخ : ـ كانت جبينه طلعة ناضرة . نور على نور ، وكان ثوبه أبيضاً . وقفت ارتجف من رهبة الوقوف بين يديه. حياني وتبسم مُشرقاً ، وسمَّاك دون خلق الله جميعاً . قال لي : قل لحبيبي ( أسامة ) ، سيدكَ ومُنية نفسك يُقرِؤك السلام ، ويقول لك كيف حال دُنياكَ ، سكنك ومآلك ؟ . قلتُ له : هو يتبعُ خُطاك في كل حركاته وسكناته . قال لي سيد الخلق: قُل له إني اصطفيت حبيبي ( أسامة ) لنُصرتي في الجهاد وأقرأه .. ثم بدأ تلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم على مسامعي ، نور فوق كل أنوار الدنيا. ما سمعت أجمل من لؤلؤة تجويده وما سمعت موسيقى قُرآنية بمثل ما سمعت منذ تفتحت عينايَّ . قرأ لي من سورة التوبة: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }. قرأ لي من سورة البقرة : {213 }أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ{214} ، ثم قرأ : {215} كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{216} ثم صدَّق النبي الكريم الله وعظّم شأنه . صمت شيخ ( الأمين ) ، ونظر . اغرورقت عينا ( أسامة ) بالدموع وقد خنقتُه العبرة ، مسح دمعه وقال: ـ اللهم عِدنا محبة النبي . لبيك يا رسول الله . ثم أجهَش مرة أخرى بالبُكاء . اقترب الشيخ ونظر مُحدقاً في عيني ( أسامة ) وقال له بنبرة عطوفة : ـ قل بسم الله والحمد لله .. ردد ( أسامة ) : ـ بسم الله والحمد لله .. توهجت عينا الشيخ وتغيرت نبرته من الرقة والخضوع إلى نبرة شبه آمرة : ـ انظُر جبهتي عند الغُرة . نظر ( أسامة ) ببطء ، وأحس بطُمأنينة ، واسترخت عضلات وجهه ، وتراخى جسده على المسند. قال الشيخ : ـ تنفس نفساً عميقاً ، وقل الحمد لله ... تبعه ( أسامة ) يُنفذ الأوامر . بدأ العالم الهادئ يتسلل إلى الذهن . الكون وهج يخبو ضوءه رويداً رويدا ، ثم إلى دُنيا الخدر والنوم ، راح ( أسامة ) في سباتٍ عميق . الآن تحرك الشيخ ولبِس لباس الخاصة ، وهبطت الأوامر على الذهن النائم ، الأمر يتبع الآخر ... وتمَّ المُراد . (4) قبل يومين من مغادرتي السودان ، قدم خالي ( عبد اللطيف ) والد ( أسامة ) ، كان يعلم بميعاد سفري . جاء مودعاً وقلقاً .سألته عن الحال رد بحسرة شديدة : ـ لا أعرف ماذا أقول لك يا بُنيَّ عبد الله ! . تعجبت وسألت : ـ ما الخبر ؟ قال : ـ لقد قرر ( أسامة ) السفر للجهاد مُجدداً مرة أُخرى! قلت : ـ ألم يسافر للجهاد قبل زواجه ، و قضى أربعة أشهُر ؟ قال الخال والقلق بادٍ على وجهه : ـ أنت تذكُر سفره ، وكما يُقال: عَفَّر أقدامه أربعة أشهر بغبار الجهاد . لست أدري كيف علقت بذهنه رحلة جهاد أخرى ولديه وليد عمره ستة أشهُر ؟ . كيف يترُك زوجته وطفله ويُغادر ؟. أهذا هو الإسلام في نظره ؟ . أيترُك رب الدار بيته وأسرته ، ويذهب لحرب أهلية لا طائل من ورائها ؟ . من يقُم على أمر أسرته إن حدث له مكروه ؟ أتكفي ثلاثة أشهر من التدريب في ( فتّاشة ) ليصبح مُقاتلاً ؟ أطرقت صامتاً ، واستطرد خالي : ـ استجرت بأخي ( خليل ) عمه ، زاره في مسكنه وتحدث إليه كثيراً ، ظل صامتاً يسمع ولم يجب بشيء ، ينظُر ولا يرُد .جئت لك اليوم يا عبد الله أرجوكَ أن تزوره فهو صديقك ، و يُقدرك كثيراً . قُل له : ما هكذا تكون الدُنيا . يا عبد الله إن عيناه حين تنظرهما تجدهما كزجاجتين يلمعان ،كالحالِم أو النائم لا أعرف ماذا حلَّ به .. لا أعرف !. لدي كما تعلم من الأبناء من هم في سن الرعاية و ليس من العدل أن يختار ابنيَّ الأكبر الذي انتظرت معونته أن يُغادر للمجهول . زوجته في حيرة الآن ماذا تفعل . لديه طفل في طور الرضاعة ، وهو مسؤول عنهم عند رب العالمين . أيٌُعقل أن أنتظر الغيب وأنا في منعطف الشيخوخة ، يترُك لي أسرته على كف عفريت . أ ننتظر الخرافات والقِردة أن تُنقذهُم من حرب لا أول لها ولا آخر ؟ أطرقت بحسرة ، وقد تكشف لي هول المصير الذي ينتظره . طمأنته بأنني سأنـزع نفسي من كل مشاغلي قبل السفر لزيارته ، وأتحدث إليه . كان مكر الدُنيا شاغلي ..ويا لحسرتي ، فقد تقطعت بي الأسباب ولم أستطع الوفاء ، ولم ألقاه قبل سفري . (5) كانت الدنيا أعسر مما كنت أتصور ! . على يد خُبراء صناعة الرغبات ، تم رسم السيناريو في الأذهان وتم اختيار من يغادر للحرب الملعونة ! . رحل المُختارون جميعاً من بيوتهم الآمنة إلى جوبا و منها لكتيبة ( المجاهدين ) الذاهبة إلى ( نِمولي ) . لقد زرتُ قديماً تلك المناطق و طريقها البري في أيام السِلم . الطريق هناك يلتف كثعبان عبر الجبال الوعرة ، يكفي حجراً تقذفه ليطيح بأي ناقلة لترحل أنتَ و من معك إلى جحيم هاوية لا قرار لها . سافر الجميع ولفَّ الغموض التفاصيل إلى موعد الغيبة الكُبرى والرحيل الأبدي !. جاءت الفاجعة و نقلت التلفنة إليَّ نعي ( أسامة ) لظىً في غُربة المهاجر . نهضت سرادقات ( الموت الفَرِح ) ، وتفرَّقت زجاجات المياه الغازية على موالِد أتراح الوطن . تناثرت المآتم أعياداً لأعراس الحور العين !. نضدت الصحافة صورته وسيرته كعلم من الصفوة ونسبوه لمجد أبطالهم . أصبحت الطيبة وصدق السريرة والتديُّن و الحياة مطية أغراض السياسة وعبثها بلطائف العبادة و غفلة المُتعبدين !. رحل ( أسامة ) والتفت الحقيقة بغُبار الأحاجي وأدبياتها القدرية في مجتمعاتنا . على المنبر وقف ( شيخ السياسة الأعظم ) يُعدد محاسن الموتى ، ويُفاخر!. يقولون كان ( أسامة ) قائداً ومعلماً وصحافياً وفقيهاً و كبيراً وفارساً يعتلي الخيل حين تقدح بحوافرها الصخر قدحا . لقد كان هو كذلك . ميدانه كان علمه في الجامعة و سيرة حياته الاجتماعية ورقة نقية بيضاء . من يُدقق ومن يفتح الملف ؟ ما الرغبة و ما الحرب و ما الموت وما الجهاد وما الاستشهاد ؟. يقولون العِبرة بالخاتِمة : انتهت الحِكاية كلها في ( نيفاشا ) على صحائف للتوقيع ، وكأس نبيذ في أعياد رأس السنة الجديدة ! ، ولم تزل الحسرة والطعم المُر في الحلق منذ مطالع العام ستة وتسعين وتسعمائة وألف من الميلاد . (6) كتبت لخالي أعزيه : سلام عليكُم ورحمة من الله ، يهبها لمن يصبُر على الفاجعة حين تحلّ ، وعلى الفقد عندما يكون عظيماً ، وعلى تاج العُنقود عندما يختاره المولى إلى جواره فتتقطع الأكباد وتنفطر القلوب ، فالدمع السافر نُذرفه لمن استرخصت الدُنيا عُمره . ستظل ذكراه شجرة وارفة من العلم والأدب والرقة والدماثة والحياء ، فالعُمر محبة تأتي كنسائم ما بعد هطول المطر . كان يكفيه جهاد قلمه .. ألا رٌفعت الأقلام وجَفّت الصحائف . نسأل المولى أن يسكنه مسكن الصديقين والشهداء . في ذكراه نقول : ألف سلام عليه وألف وردة حب تنهض من تراب عطَّره بدمائه ، لتبقى مزرعة محبة وسلام . كان رفيقاً لي في مُنعطفات العُمر ، مُتديناً ومُتفقهاً في الدين ، و صديقاً ودوداً ، لين الخطو ، لطيف المُعاملة ، رقيق الطبع ، لا تشهده إلا باسماً . عبد الله الشقليني 20/08/2006 م