رحيل الأخيار – وداعاً محجوب عثمان … بقلم: هلال زاهر الساداتي
قرأت مقالا في صحيفة سودانايل الالكترونية للعزيز الصديق كاتب امدرمان الكبير شوقي بدري بعنوان محجوب عثمان أشرف وأصلب المناضلين ناعياً فيه ذلك الرجل العظيم وذاكراً طرفاً من مآثره وكنت لا أعلم بوفاته قبل قراءة المقال , فاهتز كياني كله حزناً وغشتني ظلمات من الغم , وعصتني دموع العين لأن القلب كان يبكي , واجتاحني سيل من الأسي لفقدانه , بل بفقد السودان أحد رجاله المخلصين الاباة فما عاد فيه الا القليل من صنف هؤلاء الرجال الافذاذ من أجيال الاستقلال الذين عبدوا لنا طريق الحرية وحققوا لنا الانعتاق من ذل الاستعمار وتضحياتهم الجسيمة , ودفعوا من أجل ذلك مهراً غالياً من حريتهم في المعتقلات والسجون , ومن صحتهم بما أصابهم من علل , وخرجوا من الدنيا كما جاءوا اليها فلم يمتلكوا مالاً ولا عقاراً , وضربوا الامثال في العفة والنزاهة والصلابة , ويكفي مثال واحد فان أب الاستقلال اسماعيل الازهري غادر الدنيا وبيته مرهون , وكان حسابه في البنك بضعة جنيهات. هؤلاء الرجال كان السودان وأهله أحب اليهم من بنيهم , وساروا في طريق الكفاح فما وهنوا وما بدلوا تبديلا حتي لاقوا ربهم راضين مرضيين عنهم .
لم أكن أعرف محجوب عثمان معرفة شخصية ولم ألتق به سوي في عام 2000 في القاهرة عندما ذهبت اليها وما زلت مقيماً فيها , وان كنت أقرأ له باعجاب عموده في صحيفة الايام فهو يمتلك اسلوباً فريداً بالامكان اطلاق السهل الممتنع عليه , فهو يوضح ويبين الكثير في الكلمات القليلة توفي بالمعني في سلاسة ويسر , وهو من جيل عمالقة الصحفيين من الرعيل الاول الذي لم يتكرر , ولم يتبق منه سوي محجوب محمد صالح والتيجاني الطيب بابكر , أمد الله في اعمارهما ومتعهما بالصحة والعافية .
وكنت قبل مجيئي لمصر أكتب في الصفحة الاخيرة من الايام مقالات في صفحة (يوميات العاصمة) , وواظبت عليها وأنا في القاهرة , وكان محجوب عثمان مقيماً بالقاهرة كواحد من أركان التجمع الوطني وأحد قادة الحزب الشيوعي , وقال لي شقيقي عدنان زاهر المحامي أن نزور محجوب عثمان لأتعرف عليه عن قرب , فقد كانا معاً في سجن كوبر ثم في سجن شالا بدارفور في بداية استيلاء الجبهة علي السلطة , وذهبنا الي الرجل فوجدته شخصاً جذاباً كريماً مهذباً ومحدثاً لبقاً , وأحاديثه شيقة لا تمل , وممزوجة بثقافة عالية وناضجة بالتجارب التي خبرها , وهو شخص يألف ويؤلف , وعقب تلك المقابلة تعددت زياراتي له وكنت أعطيه مقالاتي فيبعثها بالفاكس مع مقالاته لصحيفة الايام , كما عرضت عليه كتابي الاول وهو ( أيام التونج – ذكريات في جنوب السودان) , ولقد تشرفت بكتابته مقدمة طيبة للكتاب .
وفي جلسة ثانية ومعي شقيقي عدنان قص علينا كيفية خروجه وحيداً من امدرمان ووصوله ماشياً حتي حلفا وهي تدل علي قوة الرجل وجسارته وقوة تحمله , ومما قاله انه تبقي له من الزاد القليل الذي يحمله نصف رغيف من الخبز وعلبة مربي فكان يتبلغ طيلة اليوم بقضمة من الرغيف ( ولحسة من المربي) وخلصت الرغيفة وبقيت له (لحسة المربي) والتي نفذت آخر الامر , وظل علي هذا الحال لمدة اسبوع , وكان قد وصل الي النيل فعاش علي الماء فقط , وعندما لاحت له بيوت حلفا كان في حالة مزرية , أشعث أغبر متسخ الثياب وفي منتهي التعب والارهاق والجوع , وخاطب أول شخص قابله وعرفه بنفسه وطلب منه أن يدله علي منزل أهل سعاد ابراهيم أحد , وسعاد ابراهيم احمد كانت عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وكان أيضاً محجوب عثمان , وأحتفي به الرجل وأصر أن يأخذه الي داره ليصلح من حاله ويأكل ومن هناك سيأخذه الي منزل ناس سعاد , وقال ذهبنا الي منزل الرجل وكان قريباً وأدخلني في حجرة بها أسرة مفروشة بملآءات نظيفة , فجلست علي طرف السرير حتي لا يتسخ الفرش بملابسي القذرة , فلامني الرجل علي ذلك , ثم أطعمني وسقاني وهيأ لي حماماً وملابس نظيفة , وبعد ذلك ذهبنا الي منزل ناس سعاد ولقد أكرموني غاية الكرم .
ليس محجوب عثمان من جيل الاستقلال فحسب بل هو من جنود الحرية البواسل الذين وقفوا في وجه الظلم والطغيان والاستبداد والفساد .
ألا رحم الله محجوب عثمان رحمة واسعة وليكن عمله لوطنه ومواطنيه شفيعاً له عند خالق لا يضيع أجر من أحسن عملا .
هلال زاهر الساداتي
Helalzaher@hotmail.com