فناجين قهوتنا لا تزال على حالها. هل تشمّ أصابعنا فوقها ؟ هذا الكلام الذي كان في ودّنا أن نقول له، كان يسمعه جيّدًا جيّدًا، ويخبّئه في سعالٍ سريع، ويلقى به جانبًا، ثم تلمع أزرار سترته، عندما يبتعد...
محمود درويش
(2)
طيب المعشر هو. ودودٌ . سريع البديهة . يفْرِحنا بالطرائف الحياتية ، ويُخرجنا من سأم الحياة إلى الأمل . يتفوق علينا بأننا شغله الشاغل .لم تزل الدنيا ترجمنا برحيل الأحباء ، وهو ليس بعزيز على ربه ، فقد اختار المولى أمانته من وسطنا جميعاً، كما يقولون الموتى نقاءٌ ، فسجادة العُمر قد آن أوانها وانطوت صبح الساعات الأولى من الخميس 21 يناير . رُفعت الأقلام وجفَّت صحائف الكتاب المسطور ، ولم تجفّ أدمُعنا الملحيّة عند أجفانها . ها هو الفرح قد نأي عنا بعيداً ،و في كل سانحة أمل نلاحقها ، يأتي الفراق ، نِسراً يخطف .
(3)
عندنا يزورنا كل عام ، لا يقضي إلا يومين أو ثلاثة. فمجيئه هو شمس المنافي عندما تظلم الدنيا من حولنا .جلسنا يوماً في مكانٍ هادئ ، واندلقت الذكريات بيننا عقود متلاحقة ، سنة تتبع الأخرى. لم ندر بأنفسنا وقد انقضى العُمر ،وفرّقتنا الدروب ، وأعدنا عقارب الزمن من وهج الماضي إلى ضباب الحاضر ، واستأنسنا . وجدنا في بعضنا جسدين وروحاً واحدة متآلفة . ونحن نعود لشقة خالِه ، التي هي قربنا ، في الطريق تذكرت أننا لم نسجل صوراً ضوئية لأنفسنا ، ولم نستدع نادل الطعام ليصوِّرنا ، فبعض أصدقاؤنا يفضلون اللقاء المسفوح دمه بالتوثيق . وكُنا نحمل هواتف قادرة على فعل كل شيء . قال لي : غريب ألا نُسجل لقاءنا ولو بصورة! .
(4)
آن أوان الرحيل
دقت الساعة الثالثة من صباح يوم الخميس 21 يناير ، وكُتب علينا أن يغيب صديق من العُمر النبيل ، وتنطفئ الشعلة . أجمل أيام العمر قضينّاها معاً. ثلةٌعتّقها العُمر ، وظللنا الوطن عندما كان الحُنو والطيبة حقاً على كل منْ حولنا .نذكر من أيامنا التي خلت ، قضينا أيام شبابنا على سيارة صغيرة ، وداخلقفصها احتضنّا بعضنا كُتلة من عذاب السفر الجميل : في طريقنا إلى جامعة ماكرري بكمبالا . لا زلنا نذكر أياماً قضيناها في مُذنب على سفح الجبال ،أسموها " نمولي " في جنوب الوطن، الذي تفرّق فرقة ليس من الصعب العودة عن رصاصة انطلقت ، مهما كان ذنب من أطلقها .كان سيد الزمان هناك " عيدي أمين دادا" ، لم نكُن نعقل أن نكون في ساحة ، يخطب الرئيس اليوغندي حينذاك أمامنا ! .
(5)
عمل بهيئة الطيران المدني و له خبرة نادرة في تصميم المطارات ، ومراقبة تنفيذها منذ السبعينات ، كما هو في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم منذ زمان. وهو عالِم في هندسة العمارة تصميماً وتنفيذاً . غادر عدد من السنوات للدوحة ، ثم عاد قبل سنوات لجامعة الخرطوم ، ولم يزل بها حتى موعد غيبته الكُبرى.
في 1982 كان مبعوثاً لنيل درجة الماجستير في مدينة من مُدن الولايات المتحدة . جمعته جلسة ومائدة تعارف مع الراحل " جون قرنق ديمابيور" وزوجته ، فقد كان صاحب فكرة " السودان الجديد " قد احتفل بالتخرج وقتها ونال الدكتوراهفي الاقتصاد الزراعي .وكان الزعيم بلطافته تلك سيد الجلسة ، فهمس أحد الأمريكيين لصديقنا " وليد عبد العزيز " ( هذا الرجل سيكون له في وطنكم شأناً ) ، يقصد " قرنق"!. هذا كان قبل تاريخ الانعطاف الكبير.
تذكّر هو كل ذلك والسنوات وحكاها لنا ، وهي تنطوي على أحداثٍ جسام . كان هو بعيداً عن دنيا السياسة المُباشرة ، ولكنه على وعيّ بالتاريخ وجسامة المعرفة . حزنٌ نبيل يخرج علينا يشوي الأكباد . ليتنا نتحمل لوعة الفراق .
اللهم يا باسط النعمة ، ومالك القلوب والأرواح ، في قبضتك ،أن وتهبه من لدُّن نَعمائك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وألا تحوِّج أهله وذويه لغيرك . و أن تُزيح عنّا ألم الفراق، وتمتعنا بالصبر الجميل ، أنت مولانا وقبلتنا التي إليها نأوي ،فأنت أرحم الراحمين .