وداعاً صديقي فجوف العُمر كَتبَ ألا تلاقيا كنتُ أمنِّي نفسي بلقياك تعاليا، وسهمى أشدّه وما عرفتُ تراخيا، أقصد الجبلٍ الأشمّ حين يهبط الثريا، و شوق أزبد بالطحالب. شرعتُ أعلام الرضا بقضاء الرب، بيني وبينك، وحولك زخّات الخريف تواليا * طوى القلب أزكى الذكريات.رحل هادئاً رجلاً من أنبل وأكثر الناس رهافة حس ومشاعر، تتفوق على الواقع الحزين الذي ألمّ بنا في منعطف العمر، وبدت لنا الدنيا بوجوده مُبرقة تنضح أنوارها. وَفدَ الربيعُ الذي لا تعرفه بلادنا من دون الفصول له حضور، وكان مُتحققاً فيك. كل مواسمك عندنا ربيع دائم، حتى قطعته المشيئة بالفراق. كل بارقة حسنٍ أو جمال نجدها أخذت من خصالك أنجماً وحبورا. لطف البيان ورونق النظم الذي تتحدثه في نثرك بيننا ، قريب من الفؤاد ، ينسينا ضيق الحياة. يُغسل منا أدرانها، ويعيد توهُج البلسم الشافي . * هو شاعر مُقل، انطوى فؤاده على نثرٍ كالشعر في فلواته، وغني غزواته . هذا الباسم نفتقد بلسمه الشافي للأرواح ، عند كل حضور الأصدقاء للمسامرة. نجوم تأتي بهم الدنيا ذات يوم، يصابحنا دائم الابتسام. * في رمضان الفائت، سرقت ابنه المنون في حادث على شارع في طريق العام، فانكفت مفاتن العمر على شبابه الغض، أما هو فاحتسب . كانت مرارة فقده عليه تُسقم الفؤاد، وتعتصر الألم أدمع من دم. لم تكن جوانحه تستطيع تذوق الآلام عندما تزدحم، لتأت من مشارق الأرض ومغاربها بالخطوب.
أيحتمل القلب الوسيع شغاف الحُزن؟، أم أن الحياة بسطت يديها تُخادعنا، لينتقيها نسر الرب من بين ملاقينا، فتأت الوحشة من حيث لا ننتظر. هياب هو يحتمل حزن الآخرين. و في مزرعته تغتسل القلوب حنينها وأنين السواقي تغسل ضفائرها ، وشطآن طيف قد سرى . للندى قطرات من التعب الهُلامي، تزرف دمعات دم، وبشارات أن الرحيل سوف يأتِ، ولم نكن نستعجل الميقات كحالنا أبداً عندما نستطعم السعادة في وجوده، إذ جاء وجاء موعده ليرتحل. لا أعرف مشاعر الأقرباء والصحب والأحباء، كيف يكون الفراق عندهم ؟، وكيف طعم الأسى في مائدة موحشة، تفتقد الأنيس. وقديماً قال أبو الطيب :
ذَرَاني والفَلاةَ بلا دَلِيلٍ ... وَوَجْهِي والهَجِيرَ بلا لِثَامِ فإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وهَذَا ... وَأَتْعَبُ بَالإِنَاخَةِ والمُقَامِ نستودعك عند من لا خلاف لمشيئته عندنا،فالودائع محفوظة لديه، إلى الملتقى . والأرواح تلتقي عند منتهى الآجال، وتراوح أنسها والسؤال عن الجيران والأحباب . إلى الملتقى.