رحيل الفنان الدكتور عبدالله بولا

 


 

 

 

مذ رأيناك آخر مرة في هذه الخرطوم، تنوء قامتك الشامخة المديدة، ويخذلك الجسد الواهن، ويقيمك ذهنك المتقد، ظننا أن هذا مما اعتدت عليه من الحوار الرصين، بين المعنى والمبنى، بين الجسد والروح، والباقي والزائل! تضطرب وتتعثر خطواتك، ويبرق العزم والإصرار في عينيك، فالصمود هو صمود الفكر واستقامة المنهج. والثبات، إنما في المواقف. فالجسد ليس إلا هيكل يقام عليه المعنى، والذي هو روح وثَّاب، فوق حمأ الطين المسنون وفوق الوهن. وما المرض إلا مجمرة بها يتمحص الروح. ها هو روحك، الآن، الآن ينطلق ويتحرر من إسار بدن أنهكه المرض وهده السقام، فلم يزدد إلا بريقاً ولمعاناً.

كنا نخاف هذه اللحظة، حين رأيناك آخر مرة، وأنت تتكئ على زند نجاة، نجاتك، هذه القديسة الملاك. تلك كانت زيارتك الأخيرة لهذه الخرطوم. حينئذٍ أيقنا بدنو الموت، حين كانت تعتريك لحظات شرود، نعلم أنك كنت تغالبها، ونسأل أنفسنا متعجبين حين نراك، يا للبسالة!، ولكن إلى متى؟ كنا نخشى هذه اللحظة، ونعرف أنها آتية، ونخدع أنفسنا بابتسامات وبالتعلق بالأمل الزائف، بين الخرطوم وباريس، ونعلم أن الرحيل قاب قوسين وأدنى! نخاف ونجزع ونسأل، كيف بالله نستطيع أن نسبر عمق هذا العملاق وأين لنا الوقت كيما نستعيد حواراته القديمة المتجددة، ونقرأ كتبه وما سكبه لنا، ليس في(سودان فور أول)، ولا في كتابيه الذين صدرا العام المنصرم، وما دار حولهما من حوار وآراء وأنس واحتفاء في منبر(دال)، على سبيل المثال. حين كنت غائباً ممتلئ الحضور ليلتذاك!

وداعاً أيها العزيز النبيل. في سمتك وصمتك، في إسماحيتك ونبلك، في ترفقك وانفتاحك، وفي أصدقائك الكثيرين، من اعمار شتى، وأصنافاً ضروبا، بحيث ليحار المرء بأي مغناطيس لديك تجتذبهم إليك، كما النحل إلى الأزاهير وكما الفراشات إلى النار، وكلٌ يرد جذلاً إلى موردك العذب!

نفتقدك اليوم وبأسى كبير ودمع مكتوم، وكثير أسفٍ، أننا لم نجلس إليك كما ينبغي، ولم ننصت إليك كما يجب،ولم نقرأك كما نود، وبيننا حوارات لم تتم! ونعلم أنك ترحل، وفي جرابك كنوز، لم تفتح مغاليقها بعد، أهٍ، لو فقط انتظرت قليلاً، قليلاً فقط، حتى... حتى ..

سلام عليك أخانا عبد الله في الخالدين، فقد حللت عند ربٍ غفور رحيم، فنسأله تعالى أن يغمرك بفيض إحسانه، وغفرانه ويلزم أهل بيتك ورفيقة دربك الصبر على فقدك ورزئها فيك وأن يبارك المولى في عقبك، وأن يفرغ علينا الصبر، نحن أصدقاؤك وأهلوك وتلامذتك ومريدوك في مصابنا العظيم فيك وأن يجعلنا جميعاً من الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا (إنا لله وإنا إليه راجعون).

alim.nor@gmail.com

 

آراء