رحيل المفكر البروفيسور (عبد المنعم بلة).. ورحيل وطن
صدق أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي حين أشعر:
نعِدّ المَشرَفيّةَ والغوالـي ... وتَقتُلنا المَنونُ بِلا قتـــال
ونَرتَبِطُ السّوابقَ مُقرَباتٍ ... وما يُنجينَ مِنْ خَببِ الليالي
ومنْ لم يَعشَقِ الدّنيا قَديماً ... ولكِنْ لا سبيلَ إلى الوصال
نَصيبُكَ في حياتِكَ من حَبيبٍ ... نَصيبُكَ في مَنامِكَ من خَيالٍ
رَماني الدهر بالأزراء حتى ... فؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبـــالِ
فَصرتُ إذا أصابتني سِهامٌ ... تَكسّرت النِّصالُ على النِّصالِ
*
( ..إنما يخشى الله من عباده العلماء )سورة فاطر 28
(...إنا لله وإنا إليه راجعون ) البقرة 156
صدق الذكر الحكيم
*
لم ينقطع لبن الضرع الذي منه نشرب ، ولا تعرف السدوف مثله صفحة معروقة بالروح والريحان وطيب الشذى.هذا يوم من أيامك النائحات يا وطني ، نشرب كأس المُرِ حتى الثُمالة.
ليس اليوم كما مضى ،
أفردت الفواجع خيمتها علينا وبسطت ذراع السطوة .وليس لغيبة المفكر والعالم والطبيب المستشار في الجراحة من بد ، ولكن رحيله جاء كبرق ساطع في أيام تكاثفت علينا سحب سوداء ، تحمل في الجوف كآبة تسًد الأفق .
جاء رحيلك سيدي في وقت نحن أحوج للذين تنادوا بأن يكون العقل المفكر هو سيدنا الذي به تكلفنا ، وتميزنا .
*
.في وداعك سيدي ،
تصبُ الذاكرة علينا حُزنها الوبيل ، وتأتي المناحات بخيلها وخُيلائها، و بالطبول العِظام تسمع صداها من وراء القرون .
*
هذه مشيخة العلم تودعنا بعد أن غمرتنا بغزير عطائها السّمح ، سلطانه كان تواضعه في المسلك وغزارة علمه الموسوعي . الفكر نهجه لا ينفك عبقه عن صلادة الصندل الذي جمّل أيامنا الثقافية بصحبته .
*
عند ميلان الشمس في اتجاه الغروب رحل في اليوم الموافق الثاني عشر من يناير ، البروفيسور / عبد المنعم بلة . يناير هو موعد رحيل العلماء عندنا ، وشهد الراحل سوداناً واحداً أحبه و جاب أرجاءه في قوافل طبية كان قائدها و عرّابها
*
سندنا هو، كان " المِرِق " و "رُكازة " بيت الثقافة عندنا ، عندما اجتذبناه إلى "منتدى السودان الفكري " صار النجم الذي تهتدي صحبته به . كم نعمنا بجزيل عطائه الفكري والطبي والديني الاجتماعي واللغوي الذي يُخاطب العقل ، لا يشبه هو الذين سرقوا العقيدة من سماحتها . خرج منذ زمان بعيداً يُحلق في دُنيا العلم والعلماء ، وهب حياته ناشراً للفكر للعامة والخاصة .
في آخر محاضراته أطل علينا ، قدمناه في محاضرة اشترك تقديمها معه المهندس / مختار عثمان التي يقيمها منتدى السودان الفكري . وانفتحت السيرة التي كان يحيطها كثير من الضباب . سيرة الأجيال التي تراوحت عمراً بين الستينات والسبعينات ، والخيبات العظام التي لاحقت هذا الجيل ، الذي ورث جيل السودنة وجيل الاستقلال الأول. وفتح البروفيسور في محاضرته سيرة لم نكن نعلم تفاصيلها ،بلغته الفصيحة من السهل الممتنع . تماماً كما عودنا في محاضراته الموسوعية عن الطب والجراحة ، والذهن البشري ، وأمراض الكُلى والعلاج بالأعشاب وصحة البيئة والدين وعلاقته بالعقل المفكر ، وقضايا وطنية وثقافية مثل الحريات وأزمة الوطن ، والفساد ، واللغة القرآنية ، وأثلج صدورنا بالحديث الجديد عن مولد الهدى في عيد مولد النبي الأكرم ، وفتح صفحات لم يسبقه عليها أحد ، ليس هو بناقل جهد الآخرين ، بل قارئاً موسوعياً مُبدعاً . ينبهنا دائماً أن الذهن البشري هو جوهرة التكليف التي لا يستخدمها الكثيرون من العامة والخاصة ، ووقعنا جميعاً في بركة الفواجع ، من حصاد الزرع المُرّ .
*
البروفيسور ( عبد المنعم بلـة )، غني عن التعريف ، و لمن لم يعرفه نقدم موجز عن سيرته الذاتية :
ـ مدرسة المسالمة الأولية
ـ مدرسة أم درمان الأميرية الوسطى
ـ مدرسة وادي سيدنا الثانوية
ـ جامعة الخرطوم
ـ جامعة صوفيا ببلغاريا
ـ التخصص الطبي بألمانيا الغربية
ـ عمِل متخصصاً في مستشفيات ألمانيا الغربية سابقاً
ـ عمل كبير أطباء في مستشفى جلدرن .
ـ منذ 1980 عمل في دولة الإمارات العربية المتحدة .
ـ رئيس ومؤسس قسم المسالك البولية والأعضاء التناسلية والصحة الجنسية والإنجابية .
ـ استشاري جرَّاح .
ـ رئيس الأسرة الطبية السودانية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
- له إسهامات فكرية متميزة وله أسفار في الفلسفة والفكر والعقائد باللغة الإنجليزية والعربية ، ومنها أكثر من خمسة أسفار تنتظر النشر .
- عمل محاضراً في تلفزيون دُبي ، وقدم برامج متسلسلة بالإنجليزية عن الفكر والفلسفة الإسلامية .
- خرج عن مؤسسة التقليد ، إلى فضاء الإبداع . لا يشبه أقرانه ولا أهل جيله *
أللهم اسكنه مسكن أحبائك الذين اصطفيت ، وأجر من تحت مرقده رافداً من جنانك التي لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرت بأفئدة البشر .
عبد الله الشقليني
12/01/ 2011 م
Abdallashiglini@hotmail.com