رسالة الي السيد عبد الفتاح البرهان… تشبث بمهابتك وتنحى؟!

 


 

 

إليك هذه الرسالة عسى أن تجعلها مدخلاً لتأمل ما انت بائت عليه، وإستبصاراً لما انت مقدم عليه. فهي ليست مناجاة، ولا هي كذلك بملاحاة، بل هي هزة من كتفيك المتوجين بأرفع الرتب وقد يكون من حقك التفاخر بذلك، فتلك مسيرتك المهنية التي إرتضيت أن تكون مصدر عزك وفخارك. فقد قضيت في ردهات أركان العسكرية وأسلحتها كما ذكرت أكثر من أربعة عقود من الزمان، وكان نصيبك من وعثاء رحلتها ستة طلقات أصابت جسمك الممشوق القوام. وذلك لعمري ما يُمكن أن يكون زاداً لذكريات تُحكى في صفوف الجيش دفعة إثر دفعة. أو يتباهى بها ابناؤك وأحفادك وكل من يتناسل من صلبك. هذا ما يمكن أن يُعد ضمن ما هيأك الله له ظابطاً بلغت شأواً عظيماً بقياس الرتب، وقائداً عسكرياً تشهد له ساحات الوغى بالمهابة والبسالة. وتلك فيما نعرف مهنة مقدسة ينخرط فيها الكثير من الشجعان الذين يتعلمون فيها فنون الحرب والقتال. وحسبنا فيها إحترام أهلها وقادتها فهم من يزودون عن حياض الأوطان، ويُؤمِنون ظهر الأمة، ولا يتهيبون الردى إذ يستوي عندهم الموت والحياة، فإذا ما لقوا حتفهم في سوح التضحية والفداء تحتسبهم - الأمة- شهداءً في سجل الخالدين، ويتَصيّروا رموزاً مركوزةً في ذاكرتها ترتل آيات فضلهم الأجيال جيل بعد جيل. تلك هي مهنتكم المقدسة أن تقدِمون على الموت لتهيأوا أسباب الحياة للآخرين.
غير أنك ومع اضطراب أمواج الحياة العاتية، وتقلبات أطوارها الجانحة، أراك قد نازعتك نفسك لمهنة أخرى لا سابق عهد لك بها، ولم يهيأك الله لعوالمها الصاخبة اللجبة المضطربة. تلكم هي عوالم السياسة... فهي بعكس العلوم العسكرية، تُمثِل أقنوماً معرفياً يختلف عن مهنتك جوهراً وماهيةً، لا تعترف بالتراتب، ولا يحق فيهآ للمرء أن يتوخى قدسية من الآخرين، فقط لأن كتفه مليئ بالنجوم الزاهرة والصقور الجارحة والمقصات الباترة، وتكاد تتلألأ فوق صدره نياشين البطولة الباهرة.
كلا ثم كلا ... فهذا عالم مختلف تماماً فلا هو يحفل بالضبط والربط، ولا يعترف بالرتب ولا يهمُ فيه أحدٌ بضرب تعظيم سلام لآخر. هذا عالم قائم على الخلاف والإختلاف، عالم له لغته ومفرداته وفاعلوه الذين خبروه في دروبه الوعرة المسالك، فكما للعسكرية فنون هي النزال و القتال، فللسياسة بالمقابل فنونها التي قوامها (الجدل) لا بالمعنى السُفسطائي، ولكن بالمعنى الذي قالت به الفلاسفة من لدن أرسطو وافلاطون وهيغل وماركس، وقد أكد عليه في سِير الأمم صاحب المقدمة العلامة إبن خلدون، ففي ذلك الجدل أو ما تسميه الفرنجة (الديالكتيك Dialectic) وهو عند بعضهم إختبار الأفكار بنقيضها لتنشأ أفكار أخرى من رحم نقيضها وهكذا دواليك.... وهذا سر ما قد تبدو عليه السياسة من صخب وحجج لا نهائية. صُمم أهلها وتدربوا على الخلاف، لا مجال فيها لأحد يتقمص شخصية (مُقلاّم الحُجج). لذلك فهي عالم لابد أن تتوقع أن يجمعك "بالناشط" ، والخامل، والفاعل والعاطل، وبكل صاحب رأي. جلً شأنه أو قَلٌ مقامه. فإذا ما أرتضيت أن تدخل هذا العالم بصخبه اللاهب وقوامه المشهود في متون وبطون أمهات كتب علوم السياسة وأسفارها، فلا مجال للتباكي على طول خدمتك العسكرية. ولا على ما أحرزت من أنواط ونياشين. ولا على ما يجللك من سمو المكانة ورفعة الرتبة، ولا على ما أصاب جسدك من رصاصات.
أنظر في تاريخ السياسة الطويل كيف زُلزِل في خضم منازعاتها كبار القوم من رجالات الدين، الذين كانوا يتدثرون في لحظة ما بثياب القداسة، ويحتكرون الفضيلة بوصفهم صوت الله وظله الممدود في الأرض. فهم على ما يدعون من ورع وتقوى، وما يحيطون أنفسهم بهالات من قداسة تراهم قد تصيًروا في عالم السياسة مادة دسمة لكل أنواع السخرية والتندر، تارة بالتقليد، وتارات بالنكات والحلمنتيش والرسم الكركتيري، وقد أدركوا بعد طول غفوة من أمرهم أن ذاك (هو عالم السياسة) مَن يريد أن يلجه فالينتظر حظه من النقد ويتسع صدره لسماع كلمة (لا) بكل لغات الكون.
أما إذا شئت أن تحفظ لنفسك قدسية مهنية فعليك أن تُعجّل بالإبتعاد عن هذا المضمار، فإنه حتماً سيجمعك بكل الفئات، فلا تتوقع عنذاك من أحد أن يقدم لك فروض الولاء والإذعان، وأنت ممسك بصولجان الحكم والسلطان. كما يجب ان تتوقع أن يخلعوا عليك الألقاب همزاً ولمزاً وبمعاني قد لا تخطر لك على بال.
عليه إما تكون عسكري تحافظ على مهابتك بأوسمتك ونياشينك وانواطك ورتبك العالية وكلما يحفها من قداسة مهنية، أو تستعد لمعمعة السياسة التي لا تعرف القداسة.
د. محمد عبد الحميد

 

آراء