رسالة حوار .. د. حيدر إبراهيم علي
د. حيدر إبراهيم
24 September, 2012
24 September, 2012
Hayder Ibrahim [ssc_sudan@yahoo.com]
الزميلات والزملاء الكرام
أطيب التحيات والمني
أولا؛ إن استهل رسالتي بجزيل الشكر للإخوة المنظمين علي دعوتهم الكريمة
ثانيا؛ ترددت قليلا في كتابة هذه الرسالة خشية أن يطالها الإهمال والصمت الذي جعلنا دائما نبدأ من بداية البداية ولا نراكم خبراتنا وحواراتنا وكأننا علي عداء مع التاريخ والحكمة. فهذا اعتذار في مستوي المشاركة. باعتبار أنني قريب ومتحمس للحوار الجاد، والصادق، والمجدي. وهذه مقدمات ـو شروط لا أجدها في العناق العاطفي، الكذوب كبعض الشعر.
ثالثا؛ مغرض وخبيث من يدعي وجود موقف ضد الحوار والوفاق الوطني الجاد بلا استهبال سياسي. فقد كنت أول من تبني مفهوم "المساومة التاريخية" داخل العمل المعارض. ويومها انتاشني رماة الحدق، لأن بعضهم كانوا يضللون الناس بشعارات وهتافات مثل: "سلّم تسلم"، أو "سلّم مفاتيح البلد". ولكن في الحقيقة كانت عيونهم علي مفاتيح وزارة التجارة والتي يجلسون الآن داخلها رغم شح الرخص. وتم وأد الفكرة رغم أن نظام الإنقاذ- كان آنذاك- في أسوأ حالاته - في عام1996، عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. وأخشي أننا بعد هذه السنوات، نطرح الحل الصحيح في الوقت الخطأ.
رابعا؛ تجربة اللقاء الأول في مايو الماضي تجعلني متيقنا أن الانتلجنسيا السودانية مازالت تتجنب النقد والنقد الذاتي الصادق والجذري. تقول الورقة: "وعدت كل الأطراف بنقل هذا الخط الايجابي في التفكير لحل الأزمة الوطنية لدوائرها الحزبية ولقواعده من أجل خلق مناخ عام داعم لخط الحل السلمي الشامل. " ولكن
المواقف المعلنة داخل اللقاء لم تسافر مع المشاركين إلي الخرطوم. لذلك، لم تنعكس في خطاب جديد للمعارضة، وبالتالي تغيير أسلوب العمل. أما بالنسبة للنظام، فقد جلس حول المائدة صحافي (فيصل محمد صالح) جاء من أسر الاستدعاءات الأمنية والتوقيف، وأمامه مسؤول كبير (مطرف صديق) الذي لم يبتعد عن الجو العام الداعي لحرية الصحافة والتعبير. وشهدت الفترة بين اللقاءين هجمة شرسة ضد الصحافة، ولم نسمع للمسؤول صوتا. قد يكون انشغل بالجنوب، ولكن أليست هذه أولوية حسب الكلام الذي شنّف به آذاننا في اللقاء السابق؟
أخيرا، يجيء اعتذاري بسبب تشككي في دور المثقف أو الإنتلجسي السوداني، وقدرته علي القيام بدور تغييري في وطنه. يقال أن الفلاسفة انشغلوا بتفسير العالم والآن حان الوقت للعمل علي تغييره. حاولت هذه المجموعة في اللقاء الأول تفسير الواقع أو تشخيص الأمة – كما يحلو لهم القول. وبالتالي هي مطالبة في اللقاء الثاني بالبحث عن وسائل التغيير خاصة مع التدهور السياسي والاقتصادي والأمني الذي عاشته البلاد خلال الشهور الأربع الماضية، مما ينذر بقرب الكارثة .
دور الإنتلجسيا السودانية
عوّل اللقاء التفاكري الأول كثيرا علي دور المثقف السوداني. وتقول الورقة التي بين أيدينا: "اتفق المنتدون علي قيمة تفاكر المثقفين، كافة، كمثقفين، كتبعة ثقيلة. فقد أدي غياب هذا الحوار إلي تفريط كبير في تأسيس سلطة للمثقفين لم تقع لنا منذ تلاشي مؤتمر الخريجين في الأحزاب السياسية في1944. وهي سلطة قوامها منابر وأدوات وخلق مهنية (؟) ضيقت عليها النظم المستبدة حتي أزهدت أهلها فيها. وما تأخر المثقفون حتي تذايلت سلطتهم وضعفت بالنتيجة قدرتهم علي صناعة الرأي العام، غياب المثقف المعزز بأدواته واستقلاله حال بين السياسيين وخبراء فض النزاعات وبين الإحاطة بالنزاع السوداني من وجوهه جميعا كحالة ثقافية ناشبة من انساق تاريخية مشتركة ". ومن هنا يسعي اللقاء- حسب الورقة- إلي الحلول الجذرية، وإلي اختراق حالة عجز القادة والساسة الراهنة، والنفاذ الي التفاكر حول سيناريوهات المساومة التاريخية كفعل ايجابي
هذا حديث ملئ بالتفاؤل والطموح، ولكنه في نفس الوقت مثقل بالتعميمات التي درجنا علي قبولها وصارت ثقوبا تاريخية تتسرب منها الأخطاء وسوء التقدير. وهذه بعض الملاحظات والتحفظات:
1. رغم أن مؤتمر الخريجين كان أول محاولة لتكوين جبهة موحدة للمتعلمين، إلا أنه كان معملا لتفريخ الأمراض السياسية المزمنة التي عاشت حتي اليوم لتصبح مكونا أصيلا من"عاداتنا وتقاليدنا"السياسية. وأعني بذلك القدرة العالية علي الاختلاف ثم الإنقسام والتشرذم. فقد كانت إنتخابات اللجنة الستينية كل عام مناسبة لمعارك مع طواحين الهواء لعدم وجود قضايا حقيقية وموضوعية. فالشوقيون والفيليون، فريقان بلا قضية، وخلافهم جاء إلينا لأقرب إلي الهزل: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل"، ليرد عليه: "شوقي مهما ازداد برضه شايفو قليل". ثم كان الانقسام اللاحق بين الاستقلالين ودعاة الوحدة مع مصر بتياراتهم. ولكن الشاهد هو غياب الاتفاق علي مشروع سوداني قومي مجمع عليه. وحتي الأحزاب المسماة عقائدية كانت دعواتها عالمية (أو كوزموبوليتنية) وليست وطنية محلية: إقامة الدولة الإسلامية أو الإشتراكية أو أمة عربية واحدة.
2. لم يكن المؤتمر مثل المؤتمر الهندي ساحة للتلاقح الفكري، فقد انحصر الاهتمام بالثقافة والفكر في جماعات القراءة وقد شارك بعض أعضائها في المؤتمر بصورة فردية. وهنا ينسحب وصف (أحمد خير) للأشقاء علي مجمل الخريجين-: " ...النزعة الديماجوجية وتتمثل في قدرتهم علي كسب قوة جماهيرية. والثانية نزعة دكتاتورية وتتمثل في انفراد القيادة برسم الخط السياسي وتنفيذه". (كفاح جيل، 1991: 141) . ومن هنا كانت البداية الخاطئة للحياة الحزبية السودانية والتي لم تفارقها أمراض النشأة والتكوين الأولي هذه حتي اليوم.
3. كان للخريجين في البداية طموح بلا حدود، وأيمان بدور رسالي في تغيير وطنهم، وظنوا في أنفسهم قدرات السوبرمان في رفعة مجتمعاتهم الممعنة في التخلف والرجعية . ولكن الخواتيم في حيواتهم كانت أقرب إلي التراجيديات الكلاسيكية في شدة تناقصاتها ودراميتها. فقد تحدثوا جميعا- أحمد خير، وعرفات محمد عبدالله، ومعاوية نور، ومحمد احمد المحجوب وغيرهم، كثيرا عن المثل العليا. وكتب (المحجوب) في عام 1941 في مقدمة (الحركة الفكرية في السودان الي اين تتجه؟): " في كل الاماكن والعصور منذ بدء الخليقة الي يومنا هذا والي الابد، فكر وسيفكر الممتازون واصحاب الثقافة الحقة من ابناء البشر في ايجاد مثل اعلي تسخر في سبيل الوصول اليه جهود بني الانسان ويرفع في سبيل تحقيقه مستوى الحياة ويعظم في نظر الناس غرض الوجود. وفي كل فرع من فروع الحياة ولكل مذهب من المذاهب الثقافية انصاره المخلصون المتفانون الذين يبذلون ما في وسعهم للوصول الي نتائج تري الدهماء من اتباعهم تحقيقها غير ميسور ان لم يكن من المستحيلات". (ص1) وعليك أن تتصور أن صاحب هذا القول الرائع انتهي في عضوية جناح الإمام الهادي المهدي ضد تجديدات جناح الصادق المحدودة داخل حزب الأمة. أما أحمد خير فقد انتهي منظّرا لأول دكتاتورية عسكرية في تاريخ السودان.
لا أريد الاستغراق في التاريخ ولكن اوحت الورقة بأنها تبحث في الماضي عن مرجعية ما، يمكن الاستناد عليها في تحقيق وحدة وطنية تساعد في الخروج من الأزمة الراهنة. وقد نصل من هنا إلي غاية الملتقي: بعث لمؤتمر خريجين في ظروف جديدة يحقق الاستقلال الثاني؟ تكتب الورقة : " أن تكون هذه المجموعة منبرا للمثقفين ليمثل مرجعية سياسية وفكرية ليقود مبادرة للتسوية الوطنية والحل الشامل عبر مساومة تاريخية ليس فيها رابح سوي الوطن وإنسانه". ولابد من التساؤل: هل تملك هذه المجموعة التي أنجبها اؤلئك الآباء القدرات والمقدرات التي تؤهلها لإنجاز هذا المصير؟
عناق المحال
قد يكون من أسباب حسمي أمر المشاركة في هذا الملتقي، تذكر
ما كتبه (سارتر) إلي (البير كامو) : " إذا كنا أحسسنا بالتعب ياالبير، فلنذهب للاستراحة لأن لدينا إمكانيات ذلك، ولكن لا نحاول أن نخلق في العالم رعشة بإسقاطنا لعيائنا عليه". فنحن لم نستطع أن نملك التاريخ ونوجهه، فقد تركنا الوطن للصدفة والفوضى. ورغم أننا تحدثنا كثيرا عن دور المثقفين كضمير شقي لأمتهم، خاصة في مجتمع متخلف ومتعصب نسبيا. وكان من المتوقع أن يكونوا البوصلة والأفق. ولكنهم تخلوا عن الريادة، وسقط المثقفون السودانيون إما في طائفية الطائفية، أوطائفية الإيديولوجيا. وفي الحالتين وقعوا في فخ الإرادوية. وهي تعني، أن المثقف – حسب موريس بار – هو ذلك الفرد الذي يقنع نفسه بأن المجتمع يجب أن يقوم وفقا لمنطقه وارادته هو، والذي يجهل أن المجتمع هو قائم فعلا واقعا علي ضرورات داخلية قد تكون لا علاقة لها مطلقا بارادة العقل الفردي. فالمثقف بهذا المعني هو ضحية وهم منطقه (محمد الشيخ، المثقف والسلطة، ص20)
تحتل الأفكار والكلمات والآراء في المجتمعات الديمقراطية والمتحضرة، قيمة عليا واحتراما يجعلها قادرة علي التأثير في الرأي العام، وفي اتخاذ القرار السياسي. فهل هذا هو الحال في سودان اليوم بحيث يستمع الحاكم الي صوت مثقفين وطنيين شرفاء يرون بعيون زرقاء اليمامة الاشجار التي تتحرك؟ أم يري النظام في حوارهم، داخل فندق رطب بالدوحة مجرد تسلية وعبث "مثقافتية"-حسب مصطلحهم السائد؟ هل يري النظام في هذه المجموعة بالفعل ضميرا شقيا يوخزه مستقبل وطنه أم مجرد زمرة صناعتها الكلام ومضغ الطعام؟ يدعي السودانيون – عموما-ضمن سلسلة تفاخرهم، أنهم متسامحون ومسالمون، وديمقراطيون ايضا وبالفطرة. وهم بذلك يتجاهلون عمدا، أنهم أصحاب فضل إعدام أول مواطن سوداني-الاستاذ محمود محمد طه-بسبب أفكاره، منذ الحلاج وغاليليو. للأفكار مصير مخيف في بلد مثل السودان. أمّا حين يتربع علي السلطة نظام شمولي مثل الذي يحكم الآن ، فعلي كل من يفكر أن يتحسس رأسه جيدا قبل أن يسمح للأفكار أن تخرج منه. فقد بدأ هذا الإنقلاب-كما هي العادة-بحل الاحزاب والنقابات وايقاف الصحف. وكان هذا النظام صاحب أطول فترة حظر تجول، وفترة طوارئ في كل تاريخ البلاد. وكان صاحب براءة اختراع بيوت الاشباح. نكون واهمين لو ظننا أن هذا النظام يسمع نداءات مثقفين سلاحهم الكلمة. هل نسينا أنه في ظل هذا النظام قام استاذ جامعي-وليس دركيا-بالاشراف علي تعذيب زميله الاستاذ الجامعي؟ هذا ليس نبشا لتاريخ قديم، فالقضية الآن في المحكمة ولكن القضاء "المستقل" يقوم بمهمة المماطلة والتحايل. من جهة اخري، قدم المثقفون مئات الاحتجاجات علي انتهاكات حقوق الإنسان ويتم إتهامهم بالعمالة والإضرار بمصلحة الوطن. ولكن، ما أن تأتي نفس الإتهامات من لجنة حقوق الإنسان بجنيف أو من منظمة العفو الدولية، حتي يهرول النظام مبررا ومعتذرا!
يقود ما تقدم الي السؤال المركزي: هل هذه المجموعة مؤهلة لكي تمثل جماعة ضغط علي نظام هذه طبيعته وهذه نظرته للمثقفين غير الموالين؟ في البداية، ألاحظ أن هذه المجموعة - في مجملها- مكونة من هامشي السلطة والمعارضة، وغالبية المشاركين أقرب الي الخلعاء في تنظيماتهم. وقد يكون السبب في هذه الوضعية، إمساكهم بجمر الحقيقة أو تأكيدا للقول: لم يبق لي قول الحق صديقا. هم بهذا نبلاء وأنقياء ولكن غير مؤثرين في بلاد-كما اسلفت-في عداء قديم مع الفكر والعقل. سيظل الصوت العاقل، مثل صوتكم، غريبا في معركة الحق والقوة. ولا أدري لماذا تذكرت قول فتوات ام درمان في الاربعينيات اثناء اعتدائهم علي الحفلات: الافندية والنسوان يقعدوا بي جاي!في صراع العضلات، علي العقول أن تقعد في الجهة الاخري.
من الخطأ الحديث عن هذه المجموعة باعتبارها متفقة علي الحد الأدني في الحلول، قد يتفقون حول الاحساس بالخطر أو عمق الأزمة. ولكن الخلاف كبير وعميق حول الأسباب والمخرج. إذ من الصعب الاتفاق حول سبب للأزمة يتمثل في عدم شرعية هذا النظام رغم كل الدساتير التي صاغها، والانتخابات التي اجراها. فقد كانت الدساتير المتعددة مجرد عملية"غسيل" لعدم شرعية الاستيلاء علي السلطة بالقوة والتآمر علي نظام منتخب. وبالمناسبة، هذه هي التهمة التي أعدم بسببها28 ضابطا في مارس1990. وهذه الدساتير غير شرعية لأنها اقصائية وغير ديمقراطية ابعدت أغلب السودانيين من المشاركة في وضعها ونقاشها والموافقة عليها. وهذه الأيام ، النقاش الدائر في مصر في تأسيسية الدستور يقول بأن يكون: دستور كل المصريين. ولم يكن أي دستور وضعته الانقاذ هو دستور كل السودانيين. لذلك، فهو باطل وما بني علي باطل (الانتخابات) فهو باطل. من ناحية اخري، يرفض النظام الدعوة لحكومة قومية إنتقالية بحجة أن الحكومة الحالية منتخبة ولابد أن تكمل دورتها. وبعيدا عن كون الانتخابات جاء بها دستور غير شرعي، فهي في حد ذاتها غير نزيهة ولا حرة. فقد كانت نية التزوير مبيتة بسبق الاصرار. إذ جرت العادة ان تشرف علي الانتخابات حكومة غير حزبية لتجنب وضع قانون منحاز، بالاضافة لضمان عدم استغلالها امكانيات الدولة والبعد عن الاساليب الفاسدة، وارهاب المواطنين بالسلطة.
يحاجج النظام واعضاء البرلمان- ومنهم مشاركون في هذا اللقاء-بأن المراقبين الدوليين مثل مركز كارتر والاتحاد الاوربي؛ باركوا علي نتائج هذه الانتخابات. وهذا تدليس، فقد قال المراقبون أن هذه الانتخابات شابها تزوير كثير وتجاوزات كبيرة، كما أنها لم ترق الي مستوي المعايير الدولية المتعارف عليها. ولكنهم بعنصرية فجّة، قالوا أنها انتخابات قدر"تطورهم"وتشبههم، ولذا يجب عدم التدقيق والحكم عليها حسب الاعراف السائدة. والحقيقة لم يكن الغربيون مهمتمين بالتحول الديمقراطي في السودان، ولكنهم استعجلوا الانتخابات وعينهم علي سرعة اجراء الاستفتاء في الجنوب. وقد اعترف بعضهم بهذه الحقيقة (راجع كتاب John Young الاخير، ص134 ومابعدها). ولكنني في هذه الحالة لا ألوم النظام الذي مرر الانتخابات المزورة، فهذا صراع سياسي وليس حبا رومانسيا، بل أدين المعارضة الكسيحة والعاجزة عن إدارة الصراع. فقد أصدرت ما تسمي باللجنة العليا للانتخابات- حزب الأمة القومي، كتابا تحت عنوان (انتخابات السودان أبريل2010 في الميزان) في 1064 صفحة، نعم ألف وأربعة وستين صفحة، تحتوي علي تفاصيل التزوير أو ما سماها رئيس الحزب"الغشة الثالثة"رغم أن المؤمن فطن. وأصدر المرشح الرئاسي حاتم السر، كتابا تحت عنوان: ( رئيس مع إيقاف التنفيذ تجربتي مع انتخابات السودان) في 528 صفحة لكشف التزوير في انتخابات الرئاسة. والسؤال: ثم ماذا بعد الكشف؟ لقد برأ الحزبان ذمتهما دون السعي وراء محاسبة النظام علي ذلك والملاحقة القضائية: فابشر بطول سلامة يامربع! والآن يستند النظام جميعا-بما فيهم بعض الذين يشاركون في هذا الحوار –علي انتخابات يعلمون هم قبل معارضيهم حقيقة شرعيتها. وهذا واحد من اسباب اعتذاري عن المشاركة في هذا اللقاء: غياب الصدق والجدية عند كل أطراف النظام :حمائم وصقور وضباع.
مما يجعل الحوار صعبا إجادة المغالطات (fallacies) خاصة بين منظّري النظام وإعلاميه أي صفوة ورأس النظام. لذلك، يكون الحوار مهزلة، لأن المحاورين يريدون من اللقاء حقائق وليس اوهام وتبريرات. وبالمناسبة، هناك فرق شاسع بين التسبيب (ذكر الاسباب التي أحدثت الأمر) وبين التبرير (ايجاد مبررات ومخارج وحيل لتفسير الأمر) . وما ذكرناه عن الانتخابات والشرعية والدستور، فيه بعض نماذج للتبرير والمغالطة. ولكن في هذا الحوار، لابد من التوقف عندما مغالطة الحريات كمبرر لرفض التحول الديمقراطي. إذ يكرر مبررو النظام القول بأن الحرية التي ثار من أجلها الجيران، قد كفلها الربيع السوداني منذ 30 يونيو 1989 أي مع الإنقلاب الحالي! فمن المغالطات الكبرى، الحديث عن الحرية مع وجود قوانين استثنائية لأنها تجب كل ما يكفله الدستور، خاصة مع وجود جهاز أمن مطلق السلطات. وهنا يظهر الخداع، حين يقول النظام أن الصحافة حرة وهناك أكثر من40 صحيفة، والحرية لا تقاس بالعدد بل بمساحة حرية التعبير. وفي السودان يملك جهاز الأمن الوطني حق إغلاق الصحف وممارسة الرقابة القبلية، ووجود مندوب للأمن في مكاتب الصحف، هذا غير وجود رجال أمن في ثياب صحفيين. ونجد صحيفة "التيار" منذ شهور لاسباب لا يعلمها حتي المجلس القومي للصحافة الذي يفترض أن يملك حق الايقاف. وظهرت بدخة المنع من الكتابة لصحفيين بعينهم وهذا ابتكار أمنوقراطي يحسد عليه السودانيون. ولا تصل إذاعة (لندن) للمستمعين الذين تعودوا عليها. وكم يعاني المراسلون وقد يتعرضون للاعتقال كما حدث قبل اسابيع. ومع ذلك، يزعق (ربيع عبدالعاطي) سابقا، في كل المحطات بأن الحرية الموجودة في السودان غير موجودة حتي في أوربا وأمريكا. ومؤشر حرية الصحافة يضع السودان في المرتبة ال170 من 179 في العالم، وكذلك تقييم المعهد الدولي للصحافة. الحرية حقوق وقوانين واضحة،وليست هبة أو مزاج سلطة.
مغالطة الفساد وهو العلامة التجارية للنظام الحالي، وقد تم تطبيعه ولم يعد يمثل خرقا للقوانين ولا هو عيب ولا حرام (رزق ساقه الله لك!) . ويتحدي الرئيس الهمام: من لديه دليل فليتقدم به للمحكمة!كنت أظنه يقرأ كل عام تقرير المراجع العام. ومن الغريب ألا يستهل نظام يدعي الإسلام عهده بإقرارات وألا يطلب من الوزير أو المسؤول تقديم إقرار الذمة. ولا أدري قد يكون التجاهل بسبب عدم وجود واحد من الإثنين أو غياب الإثنين معا الإقرار/ والذمة. من العجيب، أن الدول في بلاد النصاري تصر علي الاقرار. ولابد أن أسأل لماذا لم يقم المنادون بالتغيير من عناصر النظام بمساندة هذه القضية الأخلاقية والسياسية الأساسية، فهم يسكتون عن فساد رفاقهم ،هل بقصد احتكار صفة النظافة وسط هذا المستنقع والماخور؟
منطق وآليات التسوية الشاملة
حين نقترب من الحديث عن التسوية الوطنية، أو المساومة التاريخية، أو الإجماع الوطني، أو الاجندة الوطنية، أو كوديسا؛ لابد أن يبرز سؤال: من الذي يحكم السودان؟ لكي نعرف مع من سيكون الحوار ومن الذي يتنازل أو يساوم، مع الخصم؟ حتي وقت قريب كنت أقول أن الحاكم هو جهاز الأمن أو ما أسميتها (الأمنوقراطية) وليس المؤتمر الوطني وحكومته. ولكن، الآن مع تبلور ملامح مرحلة الإنتقال من الدولة الفاشلة للدولة المنهارة؛ لم تعد هناك قوة مركزية مسيطرة مطلقا. فالنظام يحكم لأنه موجود علي قمة السلطة فقط وهذا وضع يد علي سلطة لا يوجد من ينافس عليها!علي قاعدة: يحكم لأنه يحكم. وهنا قد نطالب بقلب السؤال: من الذي يعارض؟ لابد من تأكيد أن أي معارضة تتعامل مع ردود الفعل فهي لا تعارض وتظل دون أن تدري كورس للنظام دون أن تشعر. وهنا معضلة الحوار ألا يعترف النظام بوجود معارضة،أو لا يحترمها. وبالأمس تسائل (نافع) بجلافته المعهودة: المعارضة وينا؟ وكأنه يقول: إني لأفتح عيني حين افتحها على كثير ولكن لا ارى احدا.
هذه هي عقدة الحوار؛ النظام يعلن أنه لا يشعر بخطر محدد يجبره علي المساومة والتنازل. ولو كان شعوره هذا حقيقي، فعنده حق. لأن أي نظام يتراجع حين يكون مهددا بفقدان سلطته فقط. وتخطئ الورقة المقدمة لمبادرة هذا الحوار خطأ شنيعا حين تقول: " أن المعارضة المسلحة وغير المسلحة يجب أن تغير طريقة تفكيرها". (ص3) هذا النداء أو المطلب جدير بأن يوجه للسلطة وليس للمعارضة التي لا تملك شيئا. وعلي الملتقي أن ينصح المعارضة أن تعمل علي تغيير ميزان القوى لصالحها لكي يقتنع النظام بضرورة التنازل والمساومة والوصول لوفاق وطني لا يقصي الآخرين كما يصر النظام الآن.لابد من الدعوة لوحدة المعارضة: مدنية، وعسكرية،وشبابية،وأن تتحول الي مقاومة يومية تجبر النظام علي التواضع والعقلانية والبعد عن سوء التقدير.
وكأن النظام لا يدري أن للموت جنودا من عسل السلطة نفسها. فهذا المسار الذي ينتهجه النظام الآن سيقود بالضرورة الي الإنهيار ذاتيا أو الإنتحار السياسي. وهذا نظام صاربلا سلطة أوهيبة أو نفوذ؛ وهذه هي الأدلة:
1. المشير البشير،هو رئيس النظام الوحيد في العالم الذي لايستطيع إلقاء خطاب دولته في الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا حاكم ناقص الصلاحيات ولا يؤدي كل المهام التي أقسم -دستوريا – علي القيام بها. ويستطيع أحمدي نجاد أن يفعل ذلك رغم موقف أمريكا من إيران: "من يهن يسهل الهوان عليه".فقد هان سودان امريكا قد دنا عذابها.
2. هذا نظام لايحل مشاكله بنفسه وتعود علي الوساطات وزيارات الحكماء، وصارت تناقش سياساته في الدوحة، وأديس أبابا ، وأبوجا أكثر من مناقشتها في الخرطوم. وهناك وزراء ومسؤولون يمضون وقتا أطول علي موائد المفاوضات الخارجية مما يقضونه في مكاتبهم.فهو لا يرغب في مشاركة مواطنيه،ويفضل الاجنبي علي مواطن معارض.
3. لم تعد قرارات الرئيس بل عمل وزراء علي تنفيذ عكس ما يطلب الرئيس. وفي هذه الحالة لايغضب الرئيس فيقيل الوزير ولا يثور الوزير لكرامته فيستقيل بنفسه!
مما يزهدني في أرض اندلس * ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها * كالهر يحكي انتفاخا صولة الاسد
4. الأزمة الإقتصادية قاتلة ولن يجدي إعادة ضخ النفط ولا ذهب بني شنقول. هناك الدين الخارجي والداخلي، تدني الإنتاجية وضعف الصادر وبالتالي شح العملات الأجنبية، البطالة.
5. الخلافات الداخلية والتململ والمذكرات، كما أن النظام سيفقد مع الأزمة الإقتصادية كثيرا من الإنتهازيين الذين سوف يغادرون سفيتة الإنقاذ الغارقة حين تتوقف الامتيازات وتخف الظروف.
6. لم يكسب النظام حروبه الكثيرة ولم يتمكن الرئيس حتي اليوم من الصلاة في (كاودا) . وصارت اتفاقية الدوحة حول دارفور مهددة بالإنهيار ، فقد عجز النظام عن تدبير أبسط المطالب200 مليون دولار. كما انفلت الأمن بصورة لا تخفي في دارفور.
7. يظن السودانيون أنهم مختلفون ومميزون عن الآخرين، وما يحدث للعالم ممكن ألا يحدث لديهم –فقط لأنهم سودانيون. فقد احتج البعض علي تصريحات الترابي والمهدي بأن السودان عرضة أو مرشح لمصير يوغسلافيا. ولم يقولوا لنا ما الذي يمنع حدوث ذلك؟ ذهب الجنوب وكنا نقول: يستحيل أن ينفصل الجنوب!هكذا مجانا دون ذكر أسباب. دارفور الآن – كما قال خالد التيجاني-صارت منسية والنسيان بشارة الفقدان. والشرق هل سوف يصمت أكثر من هذا بعد أن تواطأت بعض نخبته مع السلطة؟
8. ضرورة البعد عن اوهام المؤامرة وأن السودان مستهدف.فهذا نظام يتآمر علي نفسه، كما يستهدف نفسه بسبب المكابرة والأصرار علي الخطأ بالتشبث في سلطة صارت أقرب لعظمة منخورة.كذلك عدم الخلط بلؤم بيّن بين معارضة النظام ومعارضة الوطن.فهذه محاولة بائسة لتماهي النظام مع الوطن.وينسي أنه هو صاحب فكرة الوطن-الحزب،حين فصل السودانيين من وظائفهم لأنهم غير موالين للإسلاميين.وهكذا نزع منهم حقهم في العمل كمواطنين مغلّبا الحزبية.لذلك،لا يحق للنظام الذي قسم الوطن إلي وطنين:وطن الإسلامويين بكل الحقوق والامتيازات حتي غير الشرعية،مقابل وطن لبقية الرعية:أبارتايد-الفصل الايديولوجي؛الحديث عن الوطنية.ثم أتم وطنيته بتقسيم الوطن الواحد الي دولتين:شمال وجنوب.وهنا المطالبة ليست باعادة المفصولين التي تجنبها النظام،ولكن بتفكيك دولة الحزب الواحد الذي يريد التحول الي"الوطن".هذا خطأ لابد من أن يكون بداية لأي إصلاح أو حل شامل.
خاتمة مفتوحة
لابد من تأسيس الحوار كعملية نقد ونقد ذاتي لكي نزيل من
الطريق عقبات الحوار الجاد (وليس المستهبل) والموضوعي والصادق والوطني غير الحزبي. ولهذا المطلب شروط صعبة يتحملها اولو العزم فقط،وهي:-
أولا: ضرورة الإعتراف بفشل تجربة الإسلامويين في حكم البلاد، وهم فشلوا لأنهم بشر وليسوا ظل الله علي الأرض – كما يتوهمون. وكما يرددون بأن تجارب الاشتراكيين والقوميين، والناصريين، والعلمانيين فشلت في العالم العربي؛عليهم وعلينا أن نضيف لذلك: . . وتجارب الإسلاميين/ويين أيضا فشلت، علي الأقل في السودان. وهذه هي المراجعة الصادقة وبداية إصلاح الخطأ. ولكن هذا لم يحدث، قبل ايام كان (الترابي) في قناة الجزيرة-برنامج: في العمق (17/9/2012) وقد استفزتني المكابرة، في قوله :التجربة لم تفشل ولكنها جاءت بعد14 قرنا غاب خلالها النموذج الإسلامي.
ثانيا: من الصعب اعتبار هذا النظام شرعيا استنادا علي نتائج انتخابات2010، لذلك لابد من الإسراع في تشكيل حكومة قومية انتقالية-ولتكن من التكنوقراط الشباب من سن 45 عاما وما دون.
ثالثا: المحاكمة علي جرائم الحرب أمام قضاء سوداني مستقل، لو تعذرت المحاكمة أمام المحكمة الدولية الجنائية. ولكن هذه جرائم ليس فيها عفو،ولا تسقط أبدا، حتي لو قبلنا بالنموذج الجنوب أفريقي.
رابعا: استرداد المال العام المسروق من داخل وخارج البلاد.
خامسا: تشكيل لجنة لوضع الدستور خلال عام، مع استمرار الحكومة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات.
ثم اتوقف مرددا:- " إن أصغر علم متحقق لهو أكبر قيمة من أجمل فكرة لم تستطع تجاوز دائرة الإمكان فبقيت مجرد مشروع "- هيجل. أرجوكم المواصلة،رغم تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة.
******
هذا ما كنت سأقوله في حالة حضوري،وهو يتوق لمحاورته ومناقشته ومناوشته. وللجميع الاحترام والتقدير المستحقين.
حيدر إبراهيم علي
ssc_sudan@yahoo.com
20/9/2012
* الرسالة في الأصل أرسلت كإعتذار عن المشاركة في اللقاء التفاكري الثاني22-24 سبتمبر2012.