رسالة فصوص الملح الي الأميرة مريم الصادق المهدي
khaliddafalla@gmail.com
عزيزتي الاميرة مريم
عفوا اذا تجانفت عن أدب المخاطبة دون رسم تحمله طوابيع البريد أو قول رسول مأذون ، ولكن قدرت ان انثر همومي و مدارستي معك في الشأن العام علي صفحات الصحف السيارة، فلا مجال لعسس يختان ويتلصص بخائنة الأعين، أو واشيا يماشي الخطو ليقرأ خافية الصدور. و تسعي اليك حروف هذا الخطاب من باب العشم والرجاء لا التشفي والمكاء، لأني ادرك مقام المخاطب في الوطنية والتاريخ، و استدرك معك أثرا خالدا من مآثر جدك الإمام عبدالرحمن في المباعدة من أسقام الثأر لأن من فش غبينته خرب مدينته. وعفوا جميلا أن يجيء خطابي اليك أبترا دون بسملة أتجافي دونه خطو زياد بن أبيه لأهل البصرة لأنك سليلة أهل المغازي والمهاري والسنان ومنهم نهاة منعوا الغواة عن دلج الليل وغارة النهار.
وقر الظن عندي أن كسبك الذاتي في العمل السياسي هو ما دفع بك في مراقي القيادة ومدارج العمل العام، وربما يكون لرنين الإسم وطيوف المجد التاريخي نصيب من صعد الترقي السياسي ولكن مزايا كسوبك الشخصية وطموحات التصدي لمغارم السياسة ومفاوز الحرب ومدافعات السلم واكتساب التجربة والنضج هي ابرز قواعد نجاحك المشهود . ويحمد أنك لم ترضي لنفسك مجاراة السلوك الأرستقراطي لأبناء السادة واستخدام رئة التنفس الإصطناعي، بل تعفرت قدماك بتراب التجربة ، وتاقت نفسك للعمل وسط الجماهير دون حجاب أوحماية من جلاوزة غلاظ.
شاهدت بنفسي تلك التجربة تتطور وتمتد في المنابر الدولية،وهي تتوهج وتلقي الإشادة والقبول وحظيت بمشاركات قلائل معك في منابر الحوار كشفت فيها عن مهارات مصقولة وحس قيادي ملموس وتفكير مرتب ووطنية صادقة وإن اختلفت الآراء، وتناسيت مناكفة عابرة في استضافة مشتركة في تلفزيون دوتش فيله الألماني تجاوزت فيها حنكة السياسي للتعريض بوظيفتي في الدفاع عن وجهة النظر الرسمية للدولة.
ملأ اليقين جوانحي أن تجربتك في العمل السياسي ستكشف عن تطلعات جيل جديد يحمل هم التغيير والبناء، ويخترط لنفسه بعدا مائزا يتجاوز فيها اخفاقات جيل الحركة الوطنية ويستدرك فيها أدواء ما بعد الكولونيالية ورومانسية جيل أكتوبر، لأني استكثر علي الجيل الذي تتسنمين قيادته علي مستوي الحراك الحزبي والمجتمعي والسياسي أن يستنسخ تجارب الفشل الماضية، ولك من الكسوب والتجربة والإدراك ما يجعلك قادرة علي بناء تيار جديد يستمد أصالته من تجاريب الماضي لكنه يخاطب قضايا المستقبل بثقة وأنفتاح.
ولعل ما اقلقني واوهن هذا الأمل الوقاد في قلبي هو جنوح فعلك السياسي الي بناء أجندة يسارية داخل هذا الحزب السوداني التاريخي العريق، ربما لمدافعات اللحظة السياسية الراهنة، وأختيار التكتيكي علي الإستراتيجي ولكن فروة الخليفة عبدالله في ام دبيكرات وضعت قيدا علي فكرة التماهي والتجاوز ورسمت حدا فاصلا بين الإستسلام والمقاومة، ولعلنا نعجب لهذه الشكيمة الفرعاء في شخصيتك السياسية التي كنا نأمل ان تستحث الخطي لتفجير الطاقات الكامنة في هذا الكيان التاريخي ومواصلة خط الحداثة الذي ابتدره الإمام الصادق المهدي رغم التعريض المرير للدكتور منصور خالد وهو أن الصادق المهدي ظلت عقدته الدائمة هي التأرجح بين حداثة اكسفورد وتقاليد الجزيرة أبا. ولكن اثبتت حوادث التاريخ السياسي في السودان أن هذا التراث البطولي الهادر أكبر من أن تبتلعه اجندة اليمين المتطرف او اليسار الجزافي الذي ظل يصف هذا الكيان بالرجعية وتعاور همه لاصطناع أدوات ووسائل إدارة الصراع لا بناء المستقبل.
لكم أهمتني هذه الملاحظات العابرة لأنها أجهضت أحلاما غوابرا وهي أن الجيل الجديد الصاعد في العمل السياسي يمكنه أن يدرك مقامات العرفان والفكر والكسب السياسي الراشد، وانت بالطبع ما تزالين أحد شارات هذا الجيل الجديد الصاعد في قيادة العمل السياسي الحزبي في هذه البلاد، ولكن هذا النزوع في توطين أجندة اليسار في الحزب بداعي تحفيز المقاومة يقرب الي درجة خيانة هذا التراث البطولي.و لا يحتاج هذا التراث أن يتعلم فن و ادبيات المقاومة من تيار اليسار ولا من مسادير الخراب أو أشعار الديالكتيك، يكفيه أن يتكيء علي قوافي البنا الكبير ان الحرب صبر واللقاء ثبات و الموت في شأن الإله حياة.
ألا يكفيك قوله:
ما بال طرفي للدموع سكوب شوقا وقلبي للملاح طروب
ما شوقهم دوما لطعنة فارس إلا كشوق العاشقين يصيب
لكن أحزنني أكثر موقفك الصريح من ضرورة ابقاء العقوبات علي السودان في لقاء حاشد مع السيد إدريس الجزائري المقرر الخاص للعقوبات الإحادية قبل أسابيع خلت في الخرطوم. وقد جاء الرجل يتوكأ علي خبرة خمسين سنة من العمل الدبلوماسي الدولي وكفاح طويل للمنافحة عن دولته الجزائر في معركة الإستقلال ومكافحة الهيمنة الغربية. لعل الرجل قد تفاجأ بهذا الطلب منك شخصيا لأنه صحب الامام الصادق في قاعات الدرس بجامعة اكسفورد حيث شاركا معا العمل والنشاط في جمعيات التحرر الأفريقية والعربية بالجامعة وهو يعلم مجدكم المؤثل في منافحة الإستعمار . استنكرت عليك هذا الغلو والشح في مقام الوطن لأني أراك أكثر حكمة وصبرا واصطبارا علي همومه ومواجع أهله، وإن غلبت عليك مكاره العمل السياسي ضد الإنقاذ في الوقت الراهن. وهذا الموقف والمطالبة بإبقاء العقوبات علي السودان هو موقف يساري وأنتهازي بإمتياز إذ ظلت تنادي به نخب اليسار الجزافي منذ أمد طويل رغم أنه يخالف أعز مباديء عقيدتهم الأيدلوجية، إذ يمكن الغرب الرأسمالي من فرض هيمنته وسيطرته الإقتصادية والسياسية والثقافية علي جموع الشعوب في الدول النامية وأكثر المتأثرين بذلك هي طبقة البوليتاريا وليس النخب السياسية.
نجحت كتلة دول عدم الإنحياز في مجلس حقوق الإنسان بعد معارك شرسة مع الدول الغربية لإستصدار قرار يخول أنشاء ولاية قانونية وتفويض جديد يقوم عليه مقرر خاص للوقوف علي ظاهرة الآثار السالبة للعقوبات وأثرها علي التمتع بحقوق الإنسان. ولعل الهدف الجوهري لحراك مجموعة دول عدم الإنحياز هو رصد وتقصي هذه الانتهاكات وكذلك كشف وفضح الأسس الأخلاقية والسياسية التي أنبنت عليها هذا العقوبات التي تفتقد الشرعية وتستهدف الشعوب وتمعن في حرمانها من التمتع بالحقوق الأساسية مثل الحق في الصحة والحق في التنمية والتعليم والحق في الغذاء والحياة والسكن اللائق وغيرها من الحقوق الأخري.
وقد أكد السيد المقرر الخاص إدريس الجزائري في بيانه الصحفي الأثر السالب للعقوبات علي الشعب السوداني مطالبا برفعها عبر حوار راشد وعميق وبتوافق وتفاهمات مشتركة وخطوات متدرجة لبناء الثقة. وفي الحوار الصحفي الذي اجراه الصحفي المتميز فتح الرحمن شبارقة و سؤاله الصريح أن مريم الصادق قالت أن رفع العقوبات سيستفيد منه النظام وليس الشعب قال إدريس الجزائري أن هذا الرأي سمعه من شخص واحد دون أن يذكرك بالأسم، ولكن كل الذين شاركوا في اللقاء شهدوا بهذا الموقف الذي يكشف تماهيا مع أجندة اليسار ويخالف مباديء الوطنية الحقة وأرث الأنصار التاريخي والحضاري. صحيح ان اليسار الارسذوكسي الماركسي لم يصدر موقفا رسميا لكن منظماته وجمعياته ومنابره وواجهاته وناشطيه ومنسوبيه يشاركون بقوة في حملة ابقاء العقوبات علي السودان كأحد أدوات الضغوط الاقتصادية لاسقاط النظام.
وقف قبل ذلك جون قرنق في مركز ويدرو ويلسون بواشنطون في صيف 2002 ليقول عليكم أن تستخدموا نافذة الخوف في أحداث سبتمبر لمواصلة الضغط وتشديد العقوبات علي السودان. وعندما جاء عام 2005 في آخر زيارة له قبل تسلم منصبه الرسمي نائبا أول لرئيس الجمهورية قال في الكونقرس عليكم مواصلة العقوبات حتي ينفذ نظام الإنقاذ اتفاقية السلام الشامل. وعندما توفي قرنق جاء سلفاكير وباقان أموم الي واشنطون ليقولا حافظوا علي العقوبات حتي يتم تنفيذ الإستفتاء. وعندما تم الإستفتاء وأنفصل جنوب السودان جاء ياسر عرمان الي واشنطون ليقول لا بد من مواصلة وتشديد العقوبات حتي يستسلم النظام ويرضي بتفكيك نفسه عبر تسويات شاملة.
لذا عجبت سيدتي الأميرة أن أطالع اسمك في قائمة هذا الرهط المنادي بإستبقاء العقوبات علي السودان، وعجبت أكثر لهذا التبرير الهش والمتناقض وهو أن رفع العقوبات يستفيد منه النظام لا الشعب. لعلي أجد لك ألف عذر لمواصلة مسيرة نضالك ضد الإنقاذ وهذا حق مكفول ، وانت جديرة بهذا الدور وخليقة بقيادة التغيير ولكن ند فهمي عن استيعاب نهجك في المعارضة السياسية بهذه الوسيلة التي تطعن في ظهر الشعب وانت تطالبين بالإبقاء علي العقوبات وهو يعاني المسغبة والتشريد لتزيدي جراحه عمقا ومعاناته طولا وأمدا ولَك في عرق هذا الشعب فصوص الملح وطويل الجراح التي لا تغري بالتناسي، منذ ان كان الشعث الغبر يهتفون في شان الله لا يلوون علي شيء.
وحاولت ان اجد بعد ذلك ما يخفف غلواء همي من توضيح واستداركات لهذا الموقف ، لكن ما تناهي الي إدراكي زاده الشرح غموضا ومراجعته تناقضا. هذه قضية مبدئية سيدتي الأميرة لا تستوي فيها الأنوار والظلم، وشهد بذلك المقرر الخاص الذي أكد في بيانه الصحفي أن الشعب هو المتضرر الأول وليس النخب السياسية، وكما ورد في المقابلة الصحفية المذكورة فأن العقوبات علي العراق لم تنقص من مائدة صدام حسين دجاجة واحدة.
لم يؤرقني موقفك من رفع العقوبات فحسب بقدر ما أحزنني أزمة هذا العقل السياسي الراجح الذي نرجو منه في فورة شبابه أن يخترط مسارا جديدا لا أن يعيد استنساخ الفشل القديم، ونستنكف أن يمشي في خطابه السياسي حذو النعل بالنعل متماهيا مع مواقف قرنق وسلفاكير وباقان أموم وياسر عرمان في الحفاظ علي منظومة العقوبات. قال الطيب صالح من قبل أنه فكر جديا ان ينضم الي حزب الأمة في منتصف ستينات القرن الماضي وهو يري الإمام الصادق المهدي يخطب وسط الجماهير لأنه كان يمثل أملا أشبه بالرئيس الأمريكي الراحل جون كندي. سددت النظر نحو الأفق لأري ذلك الأمل الذي مثله الأمام في منتصف الستينات وهو في فورة الشباب ولم اتبين رسمه او أصغي لصداه في خطابك السياسي الراهن.تتجلي ازمة العقل السياسي في تبني خطاب وأجندة اليسار ومواصلة التضييق علي الشعب بالحصار والضغط الخارجي ليثور علي النظام، وهي حيلة بائسة في السياسة. ولك في تراث المقاومة والنضال الأنصاري حججا بالغة ومنابعا ثجاجة زاهية الرواء و قادرة علي صنع الفضائل والتغيير بدلا عن مجارة الخطاب السياسي الذي يوظف أدوات الضغط الخارجي والعقوبات لاسقاط النظام لا تهمه الكلفة الإنسانية والمادية والإجتماعية والثقافية.
أجدد أسفي إن اثقلت عليك بهذا الخطاب الذي حررته بمداد الرجاء ويراع الأمل لأني اتملي في وجهك إمارة القيادة السياسية لهذا الكيان الأكبر وإن تنازعتك فيه رواجم التفخيخ بالجندر، أو مضاغطات الأقرباء واستجارة البعداء، ولدور أكبر في تشكيل مستقبل السياسة السودانية، ولا نريد لهذا الرجاء أن يخيب خاصة إذا نهل من منابع تراثه الروحي والوطني ، ولا نريد لصوتك ان يكون صدي مشروخا للشعارات المستنسخة و مجاراة لمكاء وتصدية خطاب اليسار، لانك بعضا من فصوص الملح المتحدرة من عرق هذا الشعب.
(نشر في صحيفة السوداني)