رسالة مفتوحة من غازي صلاح الدين إلى البرهان

 


 

 

من غازي صلاح الدين إلى البرهان بتاريخ 27 نوفمبر 2019م

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة مفتوحة

سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان
رئيس المجلس السيادي
السلام عليكم وعلى من اتبع الهدى

هذه الرسالة مفتوحة وعاجلة لسببين: الأول أنها تجييء في منعطف تاريخي حرج. والسبب الثاني هو أن أول المعنيين بها هم السودانيون أنفسهم ثم أصدقاؤهم في هذا الإقليم الواصل بين العالم العربي وإفريقيا.

الموضوع الرئيسي للرسالة هو مسار البلاد بعيد ثورة ديسمبر المجيدة. فثورة ديسمبر ستظل نقطة مركزية فارقة في التاريخ السوداني، وذلك لمشروعية أهدافها، وسلمية وسائلها، ثورة جديرة بأن تضع السودان في مقدمات دورة إنسانية حضرية جديدة.

إن من أقوى أسباب نجاح الثورة كان ذلك الإجتماع الإستثنائي الذي وفرته لأطراف قلما يجتمعون علي صعيد واحد. اجتمعت أجيال متعاقبة، وأمزجة متباينة، وهويّات متعددة. بتلك الخصائص عبرت الثورة والناس معها إلى ضفّة النهر المقابلة حيث الوعد العريض بسودان تسوده الحرية والسلام والعدالة والتنمية المتوازنة المتكافئة التي لا تستثني أحداً علي أساس عرق أو دين أو جهة. فالثورة عبأت وعياً وبذلت وعداً استثنائياً بمعالجة المشكلات البنيوية للدولة السودانية وسانحة، قد تكون الأخيرة، لإنجاز مشروع وطني توافقي يضع الأسس الراسخة لدولة ديمقراطية حديثة.

في قلب هذا المشهد المهيب كنّا نحن، في الجبهة الوطنية للتغيير، استمراراً لنضالنا المشهود في الصفوف الأمامية للثورة، في كل أطوارها وتجلياتها: من التظاهرات إلى الاعتصام وحشد الرأي العام ونشر الوعي السياسي والدستوري. وعندما إنفلق صبح النصر رأينا الثورة في كل المرائي حولنا، فأخذنا ندندن مع بعض شعرائنا الثائرين، وقد انبعث إلينا صوته من منتصف القرن الماضي، مشدود الأوتار:
لا تساوم..
لم يَعُد في الأرض الا وجُهك المنحوتُ من صخرِ الهزائمْ

لكن همّاً قلقاً أخذ يساورنا، فالذي نراه أمامنا لا يحمل قسمات ذلك الفجر الواعد.
مشروع الحداثة..آفاق المعاصرة…سودان القرن الحادي والعشرين…الوعد الكبير..عطاء الأرض العظيمة خلف الجبال. كل تلك النداءات الضخمة أضحت نماذج من خشب، جميلة المنظر، لكنه بلا استخدامات مفيدة. ولم نعد نرى قسمات ذلك الفارس المشرئب إلى العلياء بلا نهاية، ذلك البطل الأخرس الذي كان يقود تظاهراتنا يقول حين يشاء ألف كلمة بإشارة واحدة.

ما الذي جرى؟ بدأت أزماتنا يا سيادة الفريق بسلسلة من الأخطاء، أولها كان في التعرف على الهدف من إنشاء المجلس العسكري الانتقالي. الهدف الأساسي، بل قد يكون الأوحد، من إنشاء المجلس، هو ضمانة جلوس أطراف النزاع حول طاولة آمنة للتشاور حول توافق سياسي وطني لحل مشكلات البلاد. المجلس العسكري ليس طرفاً في التفاوض، ولا ينبغي له أن يكون، لأنه لا يحمل هوية سياسية ولا ينفرد برأي خاص في مسائل السياسة. المجلس العسكري الانتقالي ليس هيئة دائمة من هيئات القوات المسلحة، وهو ليس مذكورا في الدستور ولا في أي وثيقة أخرى. المجلس العسكري هو "انتقالي" كما يقول هو عن نفسه. المجلس العسكري الانتقالي مؤسسة عرفية أوجدتها الأعراف السياسية السودانية للتعامل مع طوارىء معينة تستدعي حماية الدولة وحياطتها من الانهيار، وأحيانا يوصف هذا النوع من التدخل بأنه "انحياز" وذلك عندما تنشأ أزمة بين المكونات السياسية ويستنصر كل واحد منهم بمن يلونه من الأنصار والأتباع وتدخل البلاد في مواجهة نهائية. ولا توجد مراشد ولا قواميس توضح كيف نقيس النبض السياسي لنحدد متى تتدخل القوات المسلحة. هي لحظة عرفية وتقديرها عرفي، وحتى الآن أظهر المجتمع السياسي والقوات المسلحة براعة استثنائية في تقدير هذه اللحظة الحرجة تقديراً مشتركاً.

كان الخطأ التالي هو احتكار التفاوض بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير. هذا القرار أجهض العملية السياسية منذ اللحظة الأولى. لا يوجد أي تبرير لهذا التمييز، فقد أثبتت التجارب أن مثل هذه القرارات تقود إلى معكوس أهدافها. وهو ما قد حدث فعلا إذ تلخصت العملية السلمية في ما يتناجى حوله الطرفان، وبقيت كل القوى السياسية خارج هذا الكون .

الخطأ التالي كان اختزال العملية السلمية في إجازة المجلس العسكري الانتقالي لوثيقة باسم "الوثيقة الدستورية". هذه الوثيقة لا علاقة لها بالدستور وهي برنامج عمل حزبي لم تناقش مع أي جهة سوى قوى الحرية والتغيير، وبمقتضى تلك العملية ألغي دستور البلاد العامل (دستور ٢٠٠٥) بجرة قلم. واستيقظ السودانيون ذات صباح فوجدوا بلدهم يحكم بدستور جديد لا علم لهم به.
ثم اكتشفوا بعد ذلك بأن هناك عدة نسخ مختلفة من الوثيقة، وقد أقرّ الاخ وزير العدل بوجود نسختين.
وهذا الوصف إلى هنا كاف لتوضيح الأداء الفاتر الذي اعقب الاتفاقات الأولى .

بدأت الاخطاء بالخدمة المدنية، فرغم كل التأكيدات بعدم تسييس الخدمة المدنية والاكتفاء الصارم بتولية الكفاءات غير الحزبية فقط في المرحلة الانتقالية، رغم الكلام الورع الأنيق حول المغانم والترفع عنها، امتلأت المناصب بالكوادر الحزبية المؤدلجة .
وبالجملة فقد وضح أن المفاهيم التي تقوم على قواعدها الحكومة الإنتقالية لا تصدر عن رؤية كلية لعملية البناء الوطني ولا تعنى بمعالجة التشوهات الهيكلية للدولة السودانية. وقد أهدر هذا السلوك قدرا كبيرا من الرصيد الثوري والأمل بمستقبل أفضل لكل السودانيين. فضلا عن ذلك، فإن استشراء

نهج التعيين السياسي الذي يقفز فوق معايير الكفاءة المهنية والتدرج الوظيفي في المواقع الإدارية الحساسة، الذي جاء خروجا على الإعلانات المنشورة ونقضاً للعهود المعلنة، سيهدر ما تبقي من كفاءة الخدمة المدنية وحياديتها باعتبارها واحدة من أهم ركائز الدولة العادلة والفاعلة.

من الطبيعي في ظل هذا الخلط أن تعجز الحكومة الانتقالية عن تنفيذ خططها (إن وجدت لها خطط أصلا) وأن تختلط عليها أولوياتها العليا المتمثلة في إنجاز السلام، والعبور الاقتصادي، وتهيئة البلاد لانتخابات حرة ونزيهة. بدلاً من ذلك، وفِي وقت مبكر بدأنا نلاحظ أن تكريس المكاسب الحزبية، والفردية، أصبح مقدماً على المصالح العامة. وإذا ما تكرس هذا النهج فسيكون المشروع الوطني المرتجى مهددا بالتحول رويدا رويدا إلى مشروع استبدادي جديد.

أسوأ السياسات هو ما يؤدي إلى التدمير الممنهج لأجهزة الدولة العامة ويحدث هذا، بصورة خاصة عند إقصاء الكفاءات وإحلالها بمن هم دونها كفاءة وخبرة. وقد فاق عدد المتأثرين بتلك السياسة بضعة الآلاف حتى الآن. والغريب أن المبرر الوحيد لهذه السياسات هو أن النظام القديم كان يفعل ذلك، وهو ما يثير أسئلة ملحة حول فهم هؤلاء لمصطلح الديمقراطية، ولمسألة الإصلاح و حتمية أن يكون النظام الجديد مختلفا عن النظام القديم.

من ناحية أخرى استمرأ بعض القادة الجدد إشعال خصومات جدلية حول مسائل دينية أثارت غبارا كثيفاً في الساحة، وانتهت إلى استفزازات لا طائل منها. وعززت الانطباع بأن القادة الجدد مهرطقون
يتخذون مقاعدهم مع القوى المهددة للإسلام ويجتهدون في ابتزاز الغالبية المسلمة بغير هدف واضح. وقد أدى ذلك الى ما يقارب الفتنة وإلى تبادل الاتهامات بالتطرف، وإلى الشحن العاطفي. لكن أشد المسائل خطورة في هذا الصدد هو الإسلاموفوبيا الجديدة، التي تدعو إلى استئصال كل من له ميول إسلامية واضطهاده بصورة صريحة. هذه الحرب التي تتغذى من الصراعات المصنوعة من أوهام أصحابها والمقحمة إقحاماً على الأجندة الوطنية ستضع البلاد في أتون صراع عقائدي عنيف يستحيل معه تكريس التوافق السياسي المطلوب لبناء دولة المواطنة التي يرتضيها الجميع.

لا مشاحّة في أن الإستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي متداخلان ومترابطان. والاستقرار السياسي هو الشرط الضروري لمعالجة الأزمة الإقصادية، لذلك فإن انشغال الحكومة الإنتقالية بالقضايا والصراعات السياسية الهامشية وإثارة الإضطرابات سيقلل من فرص تحسن الوضع الإقتصادي و يهدد بانهيار الحكومة تحت وطأة غليان الشارع الذي تجاوزت الضائقة المعيشية كل طاقات الاحتمال لديه. حتى الحوار الفكري بين اليسار واليمين، بين الإسلام وما عداه، وهو حوار تحمس له كثيرون لأنه يخدم مسألة مهمة وجوهرية ، وهي التعايش البناء مع الآخر (وليس التعايش فقط)، حاليا هذا الحوار هو في غرفة الإنعاش بعد أن تلقى أصابة قاتلة من الحملة المكارثية البغيضة التي لا تميز بين الصديق والعدو، ولا تعرف ترتيب الأولويات.

إن أهم شروط السلام المستدام هو أن يري الجميع أن مصلحتهم الآنية والإستراتجية هي في تحقيقه من خلال الوسائل السلمية والسياسية. لكن نهج الحكومة الحالية يفضل الاعتراف بالقوي المسلحة فقط على حساب القوي السياسية وهو ما سيؤدي حتما الي تآكل الإيمان بنجاعة الوسائل السلمية والسياسية وسيغري بالعدول إلى منطق السيف مما يعني مزيداً من الإضعاف للحركة السياسة وتقليل سلام والوحدة الوطنية.

إن من دواعي القلق العميق أيضاً، بل والانزعاج، هو بروز كيانات موازية لسلطة الدولة والقانون تمارس سلطات تنفيذية علي مستوي الأحياء، وليس هناك ما يثبت أنها تعمل وفق قانون أجيز بطريقة محترمة عبر تنافس انتخابي مشروع. هذا سيؤدي حتماً إلى تآكل سلطة القانون وتناسل كيانات موازية تنقل الصراع السياسي إلي مستوي آخر من التناحر الشعبي وهتك النسيج الإجتماعي.

ويجب التحذيز من التسييس المتصاعد للأجهزة القضائية والعدلية وإستخدامها بطريقة إنتقائية لتصفية الخصوم السياسيين. في هذه اللحظة تجري عملية استزراع لعدة قوانين انتقيت وأعدت بعناية لتطبق بصورة خاصة، من بينها قانون المحاكمات للمشاركين في انقلاب ١٩٨٩، وقانون تفكيك الإنقاذ، وهما قانونان ممعنان في الفظاظة والتخلف لا مثيل لهما إلا قوانين صيد السحرة ومحاكم التفتيش التي سادت في أوربا في القرون الوسطى. وكم سيكون العار عظيما أن يشهد السودان ردة إلى مثل تلك القوانين حيث تعمم التهم على المواطنين لمجرد الظن والتوهم، أو لمجرد ارتباطهم بعلاقات القرابة أو الصداقة مع بعض من يقعون ضحية لتطبيق تلك القوانين. وإنه لعار حقا أن هذه التشريعات المشبوهة صاغها قانونيون ناقمون لا حرصاً على عدالة ولا نصرة لقضية نبيلة، وإنما فقط للتشفي ولتسيوية حسابات قديمة، مبررهم أن هذا هو ما كان يفعله النظام السابق! فلم كانت الثورة إذن؟ ولمن نقرع أجراس الأصلاح؟

تلك القوانين الدموية صريحة في استهداف أعداد كبيرة من المواطنين الأبرياء قد يتجاوزون عشرات الآلاف. لو سمحنا بأن تسود هذه المبررات المهزوزة والمعايير الواهية في محاكمتهم فقل وداعاً لدولة القانون. هذه القوانين تقسم المجتمع وتحرض بعضه على البعض الآخر. والخطر الأعظم سيطغى حين يدفع الجيش، أخطر مؤسسات الدولة، للاصطفاف مع أحد الطرفين، لتصفية الخصومات السياسية، حين يجرالناس، جرّ الشياه إلى الحظائر، والمسرح يسأل:
= ماالتهمة
= ما التهمة؟ التهمة يا صاح في الغد أو بعده أو بعده، أما اليوم فهو الجرّ
والجمعة والسبت إجازة….هذا حظك!

يا رجل
..….الله يراك أمامه…ثم الكون…والتاريخ…والإنسان…والموت…. والدياجير…كلهم أمامك، إن شئت أن ترتفع فسترتفع، وإن شئت أن تخلد إلى الأرض…فسيكون ذلك. الخيارات كلها بيديك.
أما نحن فسنردد مع شاعرنا:

احتمل حزنكَ واصعد
قُلْ لمن خانوك في عُرس المزادات.. وفي ليل المناحات القديمة
قُلْ لمن صاغوك جرحاً في نشيد الريح والمنفى
وتثليث الوجوهِ الشامتة
لن أُساوم

غازي صلاح الدين العتباني
رئيس الجبهة الوطنية للتغيير
٢٧ نوفمبر ٢٠١٩م

 

آراء